السلام عليكم ورحمة الله


في الخامس من يناير 1957م، أعلن الرئيس الأمريكي دوايت أيزنهاور أن بلاده ستملأ الفراغ الذي أحدثه انسحاب القوات البريطانية من دول الخليج العربي، بحجة الوقوف في وجه المد الشيوعي الذي يحاول السيطرة على هذه المنطقة الحيوية.

أما اليوم وبعد خمسين عاما من ذلك التاريخ، فإنا نشاهد نفس إعلان أيزنهاور يتكرر ولكن على لسان الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد عندما أعلن بأن بلاده ستملأ الفراغ الذي سيحدث بعد انسحاب الولايات المتحدة من العراق.

لا يستطيع المرء أمام هذين التصريحين إلا أن يتساءل عما غير حال الولايات المتحدة من دولة تملأ الفراغ إلى دولة يُملأ بعدها الفراغ، وعما إذا وصل الغباء بالولايات المتحدة درجة تجعلها تضحي بجنودها وأموالها لتهدي إيران بلدا كاملا بشعبه وتاريخه وثرواته الطائلة على طبق من ذهب؟!

تقول التأويلات بأن سبب فشل الولايات المتحدة في العراق يعود إلى أنه لم يكن لديها تصور أو أجندة لما ستفعله أو ما سيحدث بعد سقوط بغداد، كونها صدقت أشخاصا مثل الجلبي والحكيم وطالباني من أن الفرحة ستعم العراقيين وأن استقبالا حافلا ستلاقيه القوات الأمريكية باعتبارها جاءت محررة لا مستعمرة. بينما إيران وحسب نفس التأويلات فقد درست وضع ما بعد سقوط بغداد جيدا، ولذلك تسير بخطى واثقة نحو الهيمنة على العراق معتمدة على الشيعة الذين يمثلون نسبة كبيرة من سكان العراق.

ولكن مهلا !!

فقد قدم معهد بوركينجز للدراسات الإستراتيجية 17 مجلدا إلى البيت الأبيض في فبراير 2003م، تضمنت الدراسات والخطط المفصلة عن إدارة العراق بعد الحرب، أعدها حوالي 400 خبير وأخصائي في الشؤون الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والهندسية والعلمية والنفسية والدينية والتكوينات العرقية والطائفية للعراق. كما شارك في إعدادها عدد من المختصين العراقيين والمصريين وغيرهم. هذه المجلدات سميت "خطة بناء العراق بعد التحرير".

كان من ضمن هذه الخطة توقع ظهور مقاومة عراقية ضد الاحتلال وسُبل مواجهتها. وفي هذا الصدد نشرت صحيفة الواشنطن بوست بأن البنتاغون توقع ظهور مقاومة بعد الاحتلال ووضع قادته خطة عسكرية للقضاء عليها، وشكلوا لهذا الغرض غرفة عمليات بإشراف توم جونستون الكابتن في البحرية الأمريكية مهمتها تطوير قيادة متخصصة في مثل هذه المعارك والحروب، ومزودة بكل الأسلحة المتطورة وبأجهزة اتصالات وكمبيوتر مع برمجياتها الخاصة لهذا الغرض كون حرب المدن تحتاج إلى استعدادات خاصة.

كما ذكر بوب وودورد في كتابه "حالة إنكار" بأن خبراء من وكالة المخابرات المركزية كانوا يجتمعون كل يوم أحد من أيام الأسبوع أثناء التحضير لغزو العراق، يناقشون خلالها سبل التصدي للمقاومة العراقية التي ستظهر حتما بعد الاحتلال. ويضيف المؤلف بأن العقيد ستيف بيترسون قدم عرضا مفصلا في أحد هذه الاجتماعات لما أطلق عليها إستراتيجية سقوط الصقر الأسود، بنيت علي أساس ظهور مقاومة عراقية وشرح أسباب ظهورها وتحدث عن الخطط الكفيلة لمواجهتها.

كل هذا يدل بوضوح بأن البيت الأبيض كان لديه تصور كامل لما سيحدث في العراق بعد الاحتلال، وأنه لم يصدق أكاذيب الجلبي والحكيم وطالباني. مما يعني أن مقولة أن الولايات المتحدة لم يكن لديها دراية بما ستفعله بعد الاحتلال لا أساس له من الصحة. وبالرغم من ذلك ضربت الإدارة الأمريكية بكل هذه الخطط عرض الحائط، فبدلا من أن تكلف وزارة الخارجية بإدارة العراق لتطبيق تلك الخطط بعد انتهاء العمليات العسكرية الرئيسية، كلفت وزارة الدفاع التي أهملت بدورها تلك الخطط أيضا. مما يعني بأن هناك أمر دُبر بليل لا يعلم حقيقته إلا القليل من كبار رجالات الإدارة الأمريكية.

ليس هذا فحسب، فقبل انتخابات يناير 2005م بعام تقريبا، حذرت وكالة الاستخبارات الأمريكية من أن إيران تضخ ما يقارب 11 مليون دولار أسبوعيا لوسائل الإعلام نيابة عن الأحزاب السياسية الشيعية الموالية لها بقيادة آية الله علي السيستاني، كما أفادت بأن حوالي خمسة آلاف إيراني يعبرون الحدود حاملين هويات مزورة لتسجيل أسمائهم في قوائم الناخبين في محافظات الجنوب.

ولمواجهة هذا المد الإيراني والكلام هنا للكاتب الأمريكي أغناتيوس، اقترحت وكالة الاستخبارات برنامجا سياسيا سريا لتمويل المرشحين المعتدلين والاتصال بزعماء القبائل السنية. وقد اعتمده بوش في ربيع 2004م. ولكن كانت المفاجأة بعد مرور أقل من أسبوع على توقيع البرنامج، إذ تلقى مسؤولو وكالة الاستخبارات المركزية ما يفيد بأنه قد تم إيقاف البرنامج وصدرت الأوامر بسحب الأموال من الشخصيات السياسية التي تلقتها.

وتعليقا على هذه النقطة يقول أغناتيوس بأن مسؤول أمريكي سابق في العراق آنذاك قال "كان للإيرانيين سيطرة شاملة على الأرض. وشعر العراقيون بالدهشة. ولم يفهموا ما الذي تفعله الولايات المتحدة، وكان الأمر يبدو وكأنها تقدم البلاد لإيران. وقلنا لواشنطن إن هذا حدث خطير، يصعب الخروج منه".

لا أعتقد عزيزي القارئ بأنك ستتهمني بتحميل الأحداث مالا تحتمل إن قلت بأن هذا يعني وجود نية مبيتة لدى الإدارة الأمريكية بتسليم العراق لإيران. ولا أجد منطقا يتقبله العقل أستطيع من خلاله شرح سبب ذلك التصرف الغريب إلا أحد احتمالين :

أولهما : أن هناك مؤامرة أمريكية ـ فارسية، أو اتفاق سري مسبق بين الإدارة الأمريكية وإيران، تقوم بموجبه الولايات المتحدة باحتلال العراق بمساعدة إيران وتحقيق أهدافها الإستراتيجية فيه، ثم تسلم إدارته لإيران على أن تبقى للولايات المتحدة الكلمة العليا فيه. وتعترف الولايات المتحدة وبموجب نفس الاتفاق بإيران كقوة إقليمية يكون لها الهيمنة السياسية على المنطقة، على أن تتخلى إيران كليا عن أحلامها النووية، وعن تحالفاتها مع الصين وروسيا، وأن تقوم بدور الشرطي الأمريكي في المنطقة كما كان حالها أيام الشاة.

ثانيهما : أن أمريكا بعد احتلالها العراق وضمانها موضع قدم إستراتيجي لها بجوار منابع النفط يُمكِّنها من السيطرة على طاقة العالم، وحلها للجيش العراقي وضمانها انتهاء العراق كدولة تهدد أمن إسرائيل، رأت ألا ضرر عليها من غض الطرف عن إيران وفتح الباب على مصراعيه أمامها للتدخل فيه طالما كان ذلك لا يتعارض مع مصالحها وأهدافها الإستراتيجية، الأمر الذي سيؤدي إلى تخفيف حدة الانتقادات الموجهة إليها من قِبل العرب كدولة محتلة.

وكنتيجة طبيعية إن كان هذا الاحتمال صحيحا، وحسب وجهة النظر الأمريكية، فإن الدول السنية في المنطقة ستدخل في تحالف معها ضد إيران وستدعم أي إجراءات عسكرية لاحقة تقوم بها للقضاء على طموحات إيران النووية، إن هي اضطرت لذلك بعد فشل المفاوضات الجارية حاليا والرامية لإقناع إيران بالتخلي عن برنامجها النووي. وبالطبع لن يحدث تحالف كهذا إلا إذا أحرز تقدم ملموس في قضية العرب الأولى "القضية الفلسطينية". وهذا ما تأمله واشنطن من دعوتها لمؤتمر دولي للسلام في الخريف القادم.

وسواء كان الصحيح هو الاحتمال الأول أو الثاني، فإن "مخطط الفوضى" الخلاقة لفك دول المنطقة وإعادة تركيبها، والذي تكلمت عنه بشكل مفصل في مقال سابق، متحقق في كليهما. فلا سنة العراق سيرضيهم حكم الشيعة الموالين لإيران، ولا الدول السنية سترضى بهيمنة إيران عليها، سواء كان ذلك باتفاق سري بين إيران وأمريكا أو بدونه. وهذا بدوره سيتسبب باستمرار الحرب الأهلية الدائرة حاليا في العراق، وفي نشوب حرب إقليمية بين دول المنطقة بإدارة مباشرة من الولايات المتحدة عن قرب أو بالريموت كونترول عن بُعد.

من هنا يتضح لنا بأن العرب هم الخاسر الأكبر في كلا الحالتين إن لم يحسنوا دراسة الخيارات المطروحة أمامهم جيدا. لذا فإن على الدول العربية ألا تنظر إلى المصالح الآنية قصيرة المدى وأن تنظر إلى المصالح الإستراتيجية بعيدة الأمد، وألا تنسى أننا مقبلون على مرحلة مهمة سيتشكل على ضوء القرارات التي تتخذها مستقبل المنطقة لعشرات السنين المقبلة.

قبل الختام :

في لقاء جمعه مع مجموعة من الصحافيين الفرنسيين في باريس خلال الشهر الماضي أفاد الصحافي الأمريكي الشهير سيمور هيرش بأن معسكر ديك تشيني المتطرف أصبح هو صاحب الكلمة الفصل في البيت الأبيض وأن قرارا بضرب إيران قد أتخذ بالفعل وذلك حسب ما أفادته به مصادره في البيت الأبيض، وقال إنه يتوقع استقالة وزير الدفاع روبرت غيتس من منصبه لمعارضته لهذه الحرب.

وهنا لابد من إعادة النظر مرة أخرى في حقيقة علاقات الولايات المتحدة وإيران!!

أصداقة هي أم عداوة!!