الدموع تُغرق الإيميل
ما أكثر الإزعاج في البريد الإلكتروني! كم تشغلنا الرسائل الإزعاجية عن الاهتمام بما يخصنا من رسائل وأعمال. . والقاعدة سهلة فكلما زاد عمر البريد الإلكتروني زاد في الغالب التعرض للرسائل الإزعاجية. ورغم كل الوسائل والفلاتر والقواعد اليدوية والإلكترونية إلا أنه يبقى عدد ليس بالقليل من هذه الرسائل. على كل ورغم كرهي لهذا النوع من الرسائل إلا أني بين الفينة والأخرى وطبقا لـ(روقة) المزاج فإني أتفحص بعضها وأحلل أهدافها. ولاحظت أن من أغربها رسائل النصب الإلكتروني فهي تتطور باستمرار، ولا يقف ذكاء مبتكري أساليبها عند حدود.
المثير في الأمر أن النوع الجديد من "النصب الإلكتروني" جاء هذه المرة ليستهدف العرب وحدهم، ربما لأن مبتكريه يعتقدون أن كثيرين منا فريسة سهلة لألاعيبهم، فبعد انفضاح أمر أساليب النصب "النيجيري" الذي يعتمد على استغلال شهوة جمع المال دون مجهود لدى البعض، ابتكر عباقرة الاحتيال الإلكتروني طريقة أكثر تأنيا للإيقاع بالضحايا، واستدراجهم رويدا رويدا إلى حيث يريد المحتال، ورغم أن النهاية في كلتا الحالتين واحدة، وهي نهب أموال الضحية عن طريق استدراجه لابتزاز أمواله، إلا أن هذه الطريقة الجديدة تستحق إلقاء الضوء عليها من باب التحذير،
من ناحية ولاتباعها أسلوبا يمس القلب ويلعب على أوتار المشاعر الدينية والأحاسيس الوجدانية من ناحية أخرى. على كل فبغض النظر عن مصدر الرسالة أو اسم صاحبها أو مكانه كما يدعي فليس بالضرورة أن يكون المجرم أفريقيا. يرسل المحتال رسالة رقيقة إلى عدد من العرب الذين يستخدمون صناديق البريد الإلكتروني الشهيرة، يقدم في أولها التحية ووافر الاحترام لمستقبل الرسالة، ويدعوه باسم الله العلي القدير أن يكمل قراءة الرسالة بعناية فائقة إلى آخرها، ويؤكد أنه يعرف أن مطلع الرسالة سوف يفاجئ المتلقي
، فقد علم أنه عربي مؤمن(!!) من دون لقاء سابق، ثم يذكر اسمه السداسي كاملا ويقول أنه من نفس دين المتلقي ولكنه يدرس في جوهانسبرج إدارة الأعمال، ثم يبدأ في حكاية قصة مؤثرة حول وفاة والده ثم كيف لحقت به والدته أيضا متأثرة بسرطان الثدي، حينما كان في الثانية عشرة من العمر، وكيف أن إدارة الشركة العملاقة التي كان والده يمتلكها آلت إلى زوجة أبيه الثانية، بينما استحوذت الزوجة الثالثة على بقية التركة التي تقدر بالملايين. ويكاد قارئ الرسالة يذرف الدموع حينما يستكمل باقي فقراتها الحزينة، فكاتبها يواجه الآن موقفا صعبا للغاية مع زوجة أبيه الثانية، التي غيرت ديانتها فجأة من الإسلام إلى النصرانية،
ويقول هذه الغانية ويستطرد-سامحني الله- قد أصرت على أن يترك جميع أفراد العائلة دينهم الإسلامي الحنيف، ولكن هذا الأمر يعد مسألة مستحيلة ولا نقاش بشأنها بالنسبة لي أنا وشقيقتي.. إنها تحاربنا بكافة الوسائل وقد حاولت مرارا قتلي، ولكن مشيئة الله ورحمته أنقذتني من كل هذه المحاولات ولا داعي لأن أستطرد في تلك الوسائل القذرة التي تتبعها حتى الآن لإغرائي بالدين النصراني فديني وحيائي يحرمان علي الخوض في مثل هذه الأمور المخجلة. ويستطرد: إنني الآن في حاجة شديدة إلى التعاقد مع طرف أجنبي، والأفضل أن يكون أحد الإخوة المسلمين،
وقد تحدثت مع المحامي الخاص بي، وأكد إمكانية توقيع عقد مع أجنبي أقوم على أساس منه بتحويل كافة أموالي إلى الدولة التي أحددها، لذا إن كنت تستطيع السفر إلى جنوب أفريقيا لتأخذني اتصل بي على رقم هاتفي"ويذكر الرقم" رجاء حار، إذا كانت رسالتي هذه قد أثارت اهتمامك فعلا وحركت فيك نوازع الغيرة على دينك، فساعدني أنا وشقيقتي، فأنا أعرض عليك الحصول على 20% من ثروتي بالإضافة إلى تكاليف انتقالك واتصالاتك، ولكن عليك أن تؤكد لي أن أموالي ستكون في أمان حتى وصولي مع شقيقتي إلى دولتك، وأتمنى أن ينتهي هذا الأمر قبل شهر رمضان "فقد تكون زوجة أبيه تمنعه من الصيام"!! قد لا تحتاج هذه الرسالة إلى تعليق، ولكني بصدد إيراد بعض الملحوظات الجوهرية التي تؤكد تطور أفانين الخداع الإلكتروني إلى أبعد ما كان المرء يتصور،
فبغض النظر عن الحبكة الدرامية، والأسلوب القصصي المؤثر الجذاب، فإننا أمام حالة جديدة يتم فيها انتقاء المتلقي ولا يتم إلقاء الرسائل الخداعية في صناديق البريد اعتباطا أو خبط عشواء، كما أنها تستثير نوازع يعرف المحتال كاتب الرسالة أنه ليس بمقدور متلقيها أن يتجاهلها، فهو ينتقي من أسماء مستخدمي البريد الإلكترونيا "محمد" أو "أحمد" أو "عبد الله" ولا يقترب من الرموز التي لا تدل على ديانة صاحبها، كما أن هناك بعد آخر يحرص عليه مبتكرو هذا النمط الجديد، وهو عمر المتلقي الذي لا يجب أن يتجاوز العشرينات حيث أن كاتب الرسالة ضمن بين سطورها عرضا مغريا وإن كان مستترا بالحصول على زوجة ثرية وجميلة هي شقيقته التي ستأتي إلى بلاده وتعيش في كنفه بضعة أيام.
إن تلقائية الخطاب وكثرة الأخطاء الإملائية المقصودة لتوهم ببراءة وحسن نية كاتبها. ومن ناحية أخرى فهو لا يطلب أموالا من أول مرة ولكنه يؤجل هذا الأمر حتى يقع الضحايا في المصيدة ويصدقوا فعلا أن هناك مؤامرة على الدين في جوهانسبرج تجسدت في شخص هذا المسكين اليتيم وشقيقته الوهمية، وأن عليهم التصرف بسرعة قبل حلول الشهرالكريم!! والحقيقة أن المؤامرة الحقيقة تحاك ضد مستقبل الرسالة لنهب أمواله بمنتهى البساطة، باستغلال غيرته على دينه، وشغفه لرؤية فتاة الأحلام القادمة من جوهانسبرج!! لقد كان الضحايا من العرب يتساقطون بسهولة ضحايا لطرق تتسم بالسذاجة والبله من أساليب النصب بالإنترنت، فماذا ننتظر من طرق أكثر حبكة وضعت خصيصا للإيقاع بهم؟!
Reply With Quote
Bookmarks