إلى الذين يريدون اغتيال جمال الوطن ..!!

نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

إب .. مدينة بألوان الطيف


نبيل اليوسفي

-------------------------
إب ألوان طيف تتراقص على رؤوس الجبال والهضاب الخضراء والشلالات الهادرة
والحصون التاريخية العتيقة والمآذن السامقة ، وسماء باكية من الفرحة تنهمر على
القلوب فتروي عطشها ، وتقبل الأرض فتعشب أشجارها وأزهارها ومنازلها أيضاً ..
يقول الخالق سبحانه وتعالى : «وفاكهة وأبّا» ، والأبُّ معناه العشب الأخضر الكثيف ،
وجاءت تسمية «إب» الأولى نسبة إلى العشب اللماع بالندى المزدحم فيها، وقيل
إن الاسم مشتق من شهر «آب» أي أغسطس الذي تذرف من خلاله الغمام الكريمة
ماءها الهنيء الرقراق ، وأياً كانت التسميات فإنها تؤدي المعنى نفسه الذي يدل على
الخصب والنماء والسعادة والهناء، وأطلق على هذه المدينة قديماً اسم الثجة نسبة لتلك
المنطقة السحرية الرائعة المتربعة عرش الجنوب من المدينة ، والتي تجمع في أزقتها
كل ما تهواه النفس من الجمال والبهجة على مدار العام الأمر الذي جعل الزائرون
الأجانب وغير الأجانب يحجون إليها صباح مساء وليل نهار .

ممالك قديمة :

الوقت فجر والمعركة الأخيرة بين الليل والنهار توشك أن تنتهي بانتصار الأخير،
وأنا في ركن أحد المنازل القديمة أحدق في الفضاء الغريب المكهرب بالحبور،
ومصباح أصفر متدل يشبه شمس الغروب ... بضعة خطوات تنبض في صدر
إب القديمة أضفنا إليها أقدامي ومرافقي الأديب صفوان الشويطر، وعقارب الزمن
تفوح بروائح وأجواء مختلفة إلى درجة جعلتني في مكان وزمان مختلفين ...
كانت الدهشة تدفعني نصف خطوة إلى الوراء وتفغرني نصف فم إلى درجة
أنكرني الشويطر أنني من أبناء هذه المحافظة، وعلى ظهر إب تواردت على
ذهني أعماق العصور السحيقة، حيث ظهرت الممالك اليمنية القديمة في الألف
الأول قبل الميلاد في هذه المحافظة المترامية الأطراف التي قطعت ثمن تنظيمها
الازدهار والتألق، وتبعت منطقة العود وضواحيها مملكة قتبان القوية، فيما كانت
ضفتا وادي بنا الناضحتان بعروق الماء الذهبية والخصب مكاناً ملائماً لاستقرار
كثير من القبائل الشرسة التي شكلت بهيبتها ونفوذها امتداداً تاريخياً لا يبلى
ولا تطاله أيادي الأبد العابثة، وذلك بإقامتها التجمع الحميري العملاق المتمثل
في مملكة سبأ وذي ريدان .

اليمن السعيد الموحد :


تنصهر عقارب الوقت .. تتحول إلى سائل لزج وريشة تكتب أهم الأحداث البارزة
التي تصنع التاريخ، ويبقى العام مائة وخمسة عشر قبل ميلاد المسيح حدثاً تاريخياً
هاماً لمحافظة إب برمتها خاصة ولليمن بشكل عام، حيث أثبت الحميريون الأفذاذ
مهارتهم السياسية المتفوقة ، ونفوذهم المتوسع، فاتخذوا ظفار اليريمية عاصمة لهم
وجعلوا من قصر ريدان الهندسي الشاهق مقراً لحكمهم، وكان ذلك النظام الذي اتبعوه
ليس إلا لغرض ضم المناطق البعيدة إليهم ، وكان لهم ذلك ، فانضمت إليهم وراف في
جبلة والشعر وبعدان ، ومذيخرة في العدين ، بالإضافة إلى يريم ، وشجعهم هذا
الانتصار على بسط نفوذهم، واستئثارهم بالألقاب الهامة التي أضفوها على أنفسهم
وأهمها لقب (ملوك سبأ وذي ريدان) ، والتحمت تلك التسمية الفريدة، فأضحت لقباً
يتداوله الملوك الذين حكموا ظفار ويريم ومأرب في الجانب الآخر، ولعل أهم
ما يمكن أن يكون أكبر نقطة مضيئة في تاريخ الحميريين هو إعادة توحيدهم لليمن
في إطار سياسي موحد، وبرز منهم بضعة ملوك عظام أهمهم «شمر يهحمد»
و«ياسر يهنعم»، بالإضافة إلى ولده شمر يهرعش الذي وحد اليمن السعيد في
كيان سياسي واحد في نهاية القرن الثالث الميلادي، ومع التخطيط الحميري
الاستراتيجي والدهاء في الحكم والسيادة امتد نفوذهم الممتد إلى حضرموت وبقية
المناطق الساحلية والجبلية الوعرة .

الحديث بلغة التاريخ :

الحديث بلغة التاريخ سيل دافق من أحداث وإنجازات في عصور قصية كانت
الإمكانات فيها شحيحة، وتاريخ اليمن بشكل خاص مجلدٌ ضخم لا تنتهي قراءته
بانتهاء الآباء والأزمان؛ كونها أصل الحضارات ومهد البشرية ، لكن تاريخ محافظة
إب يكاد أن يزهر كلما حدقت في البحث والاطلاع، ويبقى ارتباط تاريخ مملكة
سبأ وذي ريدان وإب قبل انبثاق فجر الإسلام بذلك الصراع العقائدي الديني الذي
وقع بين اليهودية والنصرانية، ومع انبثاق فجر العصر الإسلامي كانت المحافظة
مكونة من عدد من المخاليف كمخلاف رعين ومخلاف جعفر، وعندما جاء القرن
الخامس الهجري بحلته القشيبة أضحت محافظة إب عاصمة اليمن برمتها، وذلك
عندما اتخذ الصليحيون من حاضرة جبلة العتيقة عاصمة لهم ومقراً دائماً لحكمهم
الذي أظهر عباقرة أفذاذ مازال صداهم المجلجل يصل إلى مسامع الأجيال المتعاقبة،
ومن هؤلاء تلكم المرأة البارعة في ذكائها وحكمتها وحلمها والتي تعد سليلة بلقيسنا
الجميلة, وهي السيدة أروى بنت أحمد الصليحي التي شجعت العلم والعلماء وبنت
الترع الهندسية المعقدة وقنوات تصريف المياه ، والقلاع والحصون والمساجد الشاهقة،
وشجعت تصنيع الحرف المختلفة التي مازال أغلبها باقيا حتى اللحظة في أعمال
المباني التي أمرت ببنائها .

هيبة العلم :


يصل إلى أسماعي حديث صفوان شفافاً صادقاً كدماثة أخلاقه ، فيما ينفذ إلى أعماقي
شعاع التأريخ مع تدفق الصباح من على ربوة جبل بعدان ، ينسكب على مخيلتي
بمسجد الدولة الرسولية الممتدة فترة حكمها من العام 1429م ، وحتى 1454 للميلاد،
وتنتعش ذاكرتي بإبداع أولئك الرجال، فتتسابق على التألق مدارس العلوم الدينية
واللغوية والأدبية، وتحتل المدرسة الشهابية والمدرسة النجمية والمنصورية والشرقية
المراتب المتقدمة .. يخرج الطلاب مشرئبين بفرحة النجاح ، ويحترم الجميع آراء
الجميع، فيما يبقى للعلم هيبته ووقاره وجلالته، وتتماهى الصور في آلة زمن تأخذني
طائرة إلى زمن آخر هو العثماني ذاك الذي بدأ في العام 1538م ، وتبقى محافظة
إب آخر المعاقل التي صمدت بحصونها العتيدة ويتربع حصن حب في بعدان قائمة
الصمود؛ إذ يبقى لمدة سبعة وعشرين عاماً قائماً بذاته يعيش من خيراته المخبوءة
في مدافنه المحصنة، ثم لا يلبث الاستسلام أن يسلمه إلى الحكم العثماني .

إن نهماً لا يشبع :

سل زائراً لمحافظة إب أنى وجدته هل أشبع نهمه بتلك المناظر الطبيعية الخلابة
التي تداوي كل عليل، سيجيبك بالنفي، «كلاّ» ، وما زلتُ أتذكر أولئك العدنيين
الذي مروا بمحافظة إب في طريقهم إلى صنعاء فتساءلوا بانبهار وحسن نية
وهم يشربون ملامح الجبال الفردوسية :
بـ : مالهم أصحاب «إب» فرشوا الجبال موكت وحرير؟
هذا بالرغم من أنهم لم يدخلوا عمق الروعة والسحر كجبال التعكر والنقيلين ونقيل
السياني وجبال صهبان وقلعة الأعدان ووادي نخلان ووادي الدور ووادي بنا ووادي
السحول، ومدينة جبلة وجبال بعدان والعسود ، وحصون حب والمنار وكحلان
وأرياف والقفلة والتعكر وجبل سمارة ووادي الحقل ، بالإضافة إلى محمية جبل
الظلم بمديرية العدين وشلالات وادي بنا والربادي والنقيلين وجبل بعدان
ومديرية ذي السفال . كما لم يستحموا بحمامات الطبيعة كالشعراني والأسلوم
وجبل بحري ووزة والأديب وهبران وجداع والأثاري وحوار السافل ومُش الكافر
والضفادع والصلبة وحمام علي السافل .

عتاب حار :


عيون الشمس الرقراقة تحدق بنا والمدينة، وعتابها على صديقي ومرافقي ابن إب
القديمة صفوان الشويطر يكبر ويكبر .. كان حديثه الهامس عن طلاسم المدينة
يصلني لوحات خالدة، وعند الفرزة المؤدية إلى مدينة القاعدة وملامحي الحزينة
تنضح بالتساؤل الذي أثار معاركه فيَّ :
- هل أنا حقاً لستُ ابناً لهذه المدينة الحنونة ؟ ! ..
وانطلقت السيارة تحملني إلى هويتي .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــ
الجمهورية نت