بسم الله الرحمن الرحيـم
والصـلاة والسـلام ..على أشرف الأنبيـاء وسيـــد المرسليـــن قـائدنـا محمـد صلى الله عليه وآلـه وسلـم
كم هــو جميــل وممتــع الإبحـار في معـاني وتفسيـرات كـلام الله عـز وجـــل
ولعـــل أروع التفـاسير وأفـضـلهـا في العصـر الحديــــث
تفسيــــر ((في ظـلال القـرآن)) لـ المفكـر الشهيـــد سيــد قطــب رحمــه الله تعـالى

وهـــذا تفسيــره رحمــه الله لهــذه الأيـــه
العظيــمه
التي لهـــا أثــــر فـي نفــس كـل مســـلم


{ وجوه يؤمئذ ناضرة. إلى ربها ناظرة }..

إن هذا النص ليشير إشارة سريعة إلى حالة تعجز الكلمات عن تصويرها؛ كما يعجز الإدراك عن تصورها بكل حقيقتها. ذلك حين يعد الموعودين السعداء بحالة من السعادة لاتشبهها حالة. حتى لتتضاءل إلى جوارها الجنة بكل ما فيها من ألوان النعيم!

هذه الوجوه الناضرة.. نضرها أنها إلى ربها ناظرة..

إلى ربها..؟! فأي مستوى من الرفعة هذا؟ أي مستوى من السعادة؟

إن روح الإنسان لتستمتع أحياناً بلمحة من جمال الإبداع الإلهي في الكون أو النفس، تراها في الليلة القمراء. أو الليل الساجي. أو الفجر الوليد. أو الظل المديد. أو البحر العباب. أو الصحراء المنسابة. أو الروض البهيج. أو الطلعة البهية. أو القلب النبيل. أو الإيمان الواثق. أو الصبر الجميل.. إلى آخر مطالع الجمال في هذا الوجود.. فتغمرها النشوة، وتفيض بالسعادة، وترف بأجنحة من نور في عوالم مجنحة طليقة. وتتوارى عنها أشواك الحياة، وما فيها من ألم وقبح، وثقلة طين وعرامة لحم ودم، وصراع شهوات وأهواء..

فكيف؟ كيف بها وهي تنظر ـ لا إلى جمال صنع الله ـ ولكن إلى جمال ذات الله؟

ألا إنه مقام يحتاج أولاً إلى مد من الله. ويحتاج ثانياً إلى تثبيت من الله. ليملك الإنسان نفسه، فيثبت، ويستمتع بالسعادة، التي لا يحيط بها وصف، ولا يتصور حقيقتها إدراك!

{ وجوه يومئذ ناضرة.. إلى ربها ناظرة }..

ومالها لا تتنضر وهي إلى جمال ربها تنظر؟

إن الإنسان لينظر إلى شيء من صنع الله في الأرض. من طلعة بهية، أو زهرة ندية، أو جناح رفاف، أو روح نبيل، أو فعل جميل. فإذا السعادة تفيض من قلبه على ملامحه، فيبدو فيها الوضاءة والنضارة. فكيف بها حين تنظر إلى جمال الكمال. مطلقاً من كل ما في الوجود من شواغل عن السعادة بالجمال؟ فما تبلغ الكينونة الإنسانية ذلك المقام، إلا وقد خلصت من كل شائبة تصدها عن بلوغ ذلك المرتقى الذي يعز على الخيال! كل شائبة لا فيما حولها فقط، ولكن فيها هي ذاتها من دواعي النقص والحاجة إلى شيء ما سوى النظر إلى الله..

فأما كيف تنظر؟ بأي جارحة تنظر؟ وبأي وسيلة تنظر؟.. فذلك حديث لا يخطر على قلب يمسه طائف من الفرح الذي يطلقه النص القرآني، في القلب المؤمن، والسعادة التي يفيضها على الروح، والتشوف والتطلع والانطلاق!

فما بال أناس يحرمون أرواحهم أن تعانق هذا النور الفائض بالفرح والسعادة؟ ويشغلونها بالجدل حول مطلق، لا تدركه العقول المقيدة بمألوفات العقل ومقرراته؟!

إن ارتقاء الكينونة الإنسانية وانطلاقها من قيود هذه الكينونة الأرضية المحدودة، هو فقط محط الرجاء في التقائها بالحقيقة الطليقة يومذاك. وقبل هذا الانطلاق سيعز عليها أن تتصور ـ مجرد تصور ـ كيف يكون ذلك اللقاء.

وإذن فقد كان جدلاً ضائعاً ذلك الجدل الطويل المديد الذي شغل به المعتزلة أنفسهم ومعارضيهم من أهل السنة والمتكلمين حول حقيقة النظر والرؤية في مثل ذلك المقام.

لقد كانوا يقيسون بمقاييس الأرض؛ ويتحدثون عن الإنسان المثقل بمقررات العقل في الأرض؛ ويتصورون الأمر بالمدارك المحدودة المجال.

إن مدلول الكلمات ذاته مقيد بما تدركه عقولنا وتصوراتنا المحدودة. فإذا انطلقت وتحررت من هذه التصورات فقد تتغير طبيعة الكلمات. فالكلمات ليست سوى رموز يختلف ما ترمز إليه بحسب التصورات الكامنة في مدارك الإنسان. فإذا تغيرت طاقته تغير معها رصيده من التصورات، وتغيرت معها طبيعة مدلول الكلمات. ونحن نتعامل في هذه الأرض بتلك الرموز على قدر حالنا! فما لنا نخوض في أمر لا يثبت لنا منه حتى مدلول الكلمات؟!

فلنتطلع إلى فيض السعادة الغامر الهادئ، وفيض الفرح المقدس الطهور، الذي ينطلق من مجرد تصورنا لحقيقة الموقف على قدر ما نملك. ولنشغل أرواحنا بالتطلع إلى هذا الفيض؛ فهذا التطلع ذاته نعمة. لا تفوقها إلا نعمة النظر إلى وجهه الكريم..
__________________