ماهي العقبات التي تعترض بناء الأمة الإسلامية ؟
إحدى القضايا المعاصرة
مفهوم الإنسان الصالح والأمة الصالحة
لا شك أن الإنسان الصالح الذي تهدف الرسالة الإسلامية إلى بنائه
ليس هو الإنسان الغني المترف، الذي يتمتع بطيبات الحياة، ويتفنن
في العلوم الدنيوية.. ثم هو بعد ذلك جاهل بربه، جاهل بالغاية التي
خلق من أجلها على هذه الأرض، فمثل هذا الإنسان عند الله أحط
قدراً من الأنعام.. كما قال عز وجل: ، وقال تعالى: {والذين كفروا
فالذين بنوا بكل سفح من سفوح جبالهم بناءاً فخماً كان آية في
الجمال والدقة، واتخذوا المصانع كأنهم مخلدون أبداً أو ليخلدوا أبداً،
وبطشوا بأعدائهم بغير رحمة، وحازوا الأموال والأولاد، وعاشوا في
الجنات والبساتين، لا شك أن هؤلاء كانوا يتمتعون بالبصيرة الدنيوية
والعلم المادي الذي أهلهم لذلك، ولكن كل ذلك لم يخرجهم عند الله
من دائرة الإجرام، ولم يرفعهم من مرتبة الحيوانات.. كما قال تعالى
بالبينات، وما كانوا ليؤمنوا، كذلك نجزي القوم المجرمين} (يونس:13)
وإهلاك الله للقرى الظالمة والدول الجائرة الكافرة قد يكون بالدمار
الشامل وترك ديارهم خراباً وأرضهم يباباً (خراباً لا شيء فيها)، كما
عروشها وبئر معطلة وقصرمشيد} (الحج:45)
وقد يكون الهلاك بتسليط غيرهم عليهم من أهل الإيمان تارة، أو من
أمثالهم من أهل الكفر أخرى، كما سلط الله هذه الأمة الإسلامية
على الأمم التي كفرت به من أهل الكتاب الذين بدلوا شرائع الله
وانحرفوا عن هديه سبحانه.. قال تعالى بعد أن أورث المسلمين أرض
وأموالهم وأرضاً لم تطئوها، وكان الله على كلشيء قديراً} (الأحزاب:45)
وبشر الله نبيه قبل موته أن أمته سترث الأمم وتملك العالم شرقه
وغربه. كما قال صلى الله عليه وسلم: [إن الله زوى لي الأرض فرأيت
مشارقها ومغاربها، وإن ملك أمتي سيبلغ ما زوى لي منها]. (رواه الترمذي)
وقرأ سعد بن أبي وقاص عندما دخل إيوان كسرى بعد فتح فارس
وقد يهلك الله الظالمين بالظالمين، ويؤدب المؤمنين بالكافرين.. كل
ذلك وفق حكمته التامة، وعلمه المحيط.
المهم هنا أن نعلم أن الأمة الصالحة، والمجتمع الصالح في ميزان الله،
ليسا هي الأمة والدولة التي تعيش في بيوت جميلة وشوارع
واسعة، وحدائق غناء، وملاعب حديثة.. وبل قد يكون هذا كله موجوداً
وتكون هذه الأمة ملعونة في ميزان الله موصوفة بالظلم والطغيان،
والكفر والعصيان.
وكذلك الحال أيضاً في الأفراد، فليس الفرد الصالح أو الإنسان الصالح
هو الغني المترف المنعم، العليم بشؤون دنياه، الظريف المنمق،
الجميل المتأنق، بل قد يكون الإنسان موصوفاً بهذه الصفات جميعها،
وهو لا يزن عند الله جناح بعوضة، كما قال صلى الله عليه وسلم:
[يأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح
بعوضة]. (متفق عليه)
وقال تعالى عن قارون الذي افتخر بماله وزينته وثروته وسلطانه: {أو
وأكثر جمعاً ولايسأل عن ذنوبهم المجرمون} (القصص:48).
وهنا نأتي إلى السؤال: إذاً ما صفات المجتمع الصالح والأمة الصالحة
في ميزان الله وما صفات الفرد الصالح أو الإنسان الصالح الذي يحبه
الله ويتولاه؟؟
والجواب:
أن الأمة الإسلامية الصالحة هي الأمة التي يكون تجمعها والتئامها
وترابطها على أساس الإيمان بالله ورسالاته والعمل وفق محبته
ورضوانه فتكون بذلك علاقة أفرادها قائمة على أساس الأخوة في
الله، وما تقتضيه هذه الأخوة من التراحم والتعاطف والتعاون والنصرة
والموالاة، ويكون تعاملها مع غيرها من أمم الأرض قائما على أساس
من هذه العقيدة أيضاً. فهي داعية للناس جميعاً أن يكونوا إخوة في
رحاب الإسلام. وهي تعادي في سبيل عقيدتها وتحارب في سبيلها،
وتسالم وتصالح وتعاهد وتهادن وفق هذه العقيدة أيضاً، ومصالحها
الدنيوية لإيمانها ودينها.
وها نحن نقرأ في القرآن عن بني إسرائيل أن الله اختارهم لحمل
رسالة، وفضلهم على العالمين في زمانهم، وكانوا شعباً مشرداً
مطروداً يسامون الخسف ويصبحون ويمسون في الذل والإهانة،
يعيشون مع الفراعنة يستحيون نساءهم، ويقتلون أبناءهم
ويسومونهم سوء العذاب فيسخرونهم في البناء وفلاحة الأرض،
وتنظيف الطرقات، وخدمة البيوت، ومع ذلك نقرأ في القرآن ثناء الله
عليهم واجتباءه لهم وتفضيلهم على العالمين في زمانهم، لما قاموا
التيأنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين} (البقرة :47) ،
وأنجاهم من بطشه وأورثهم مشارق الأرض ومغاربها. كما قال تعالى
باركنا فيها، وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا
ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومهوما كانوا يعرشون} (الأعراف:137)
ولكنهم بعد أن تجاوزوا حدود الله، وعصوا رسله، وشرعوا يقتلون
أنبيائهم ويديرون ظهورهم لشريعة ربهم ويدعون في الدين ما لم
ينزل عليهم زاعمين أنهم أبناء الله وأحباؤه، وأن الجنة خالصة لهم من
دون الناس، وأنهم شعبه المختار، وتطاولوا على الله بالجحود والنكران،
واصفين إياه سبحانه بأبشع الصفات كقولهم (استراح في اليوم
شريعته، مستحلين للحرام ظالمين أنفسهم.
لذلك كله وغيره من المعاصي والذنوب لعنهم الله وطردهم من رحمته
وسلط عليهم وإلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب، بل وشتت
شملهم في الأرض وقوض دولتهم وأنهى من الأرض فضلهم
وجعل اللعنة ملازمة لذكرهم حيث ذكروا كما قال تعالى: {لعن الذين
كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم،ذلك بما
عصوا وكانوا يعتدون، كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه، لبئس ما كانوا
يفعلون، ترى كثيراً منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما كانوا يفعلون،
ترى كثيراً منهم يتولون الذين كفروا، لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن
سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون} (المائدة:78-80)
وإذا تركنا بني إسرائيل، وبعد أن صاروا ملعونين مطرودين من رحمة
الله، وجدنا أن الله قد أقام بعدهم أمة عظيمة مدحها في القرآن وأثنى
الكفر قال من أنصاري إلى الله؟ قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله
وأشهد بأنا مسلمون} (آل عمران:53)
ونجد أن هؤلاء الأنصار الذين جعلهم الله مثلاً لهذه الأمة في الفداء
والتضحية لم يكونوا إلا مجموعة قليلة من صيادي الأسماك يتبعون
رسولهم من بلدة إلى بلدة، ومن قرية إلى قرية في قرى فلسطين
فراراً من طغيان الرومان ووشايات اليهود الذين جعلوا جهدهم
وجهادهم القضاء على دعوة عيسى عليه السلام.
أن هذه الأمة المهتدية كان روادها قليلي العدد، تركهم عيسى ورفعه
الله وهم اثنا عشر رجلاً فقط، فقاموا من بعده بنشر الدين، وإعلاء
كلمة التوحيد، فنصرهم الله وأعزهم ودمر اليهود على أيديهم، ثم أن
الروم المكذبين بالأمس دخلوا بعد ذلك في النصرانية، إلا أنهم بعد
مدة وجيزة أفسدوا هذه الرسالة عقيدة وشريعة فأدخلوا عبادة
الأصنام، واستحلوا أكل كل حرام، وتغالوا في رسولهم حتى جعلوه
الله، أو ابناً لله، وجعلوا تلاميذ عيسى رسلاً، ورهبانهم أرباباً ووسائط
بينهم وبين الله.
وبالرغم من أنهم بنوا الكنائس العظيمة والأديرة الأنيقة الجميلة،
وجعلوا للدين أعظم الإتاوات والمخصصات، وأنزلوا رهبانهم وعلماء
دينهم منازل القادة والعظماء، وأججوا الحروب التي سموها مقدسة،
ففتحوا العالم شرقاً وغرباً حتى أصبحت روماً كعبة العالم، وأم القرى
في زمانها، حتى قال الناس (كل الطرق تؤدي إلى روما).. ونشروا
النصرانية الضالة في أوروبا وشمال أفريقيا وغرب آسيا حتى أصبح
البحر الأبيض بحيرة رومية نصرانية.
أقول: وبالرغم من كل ذلك إلا أن الله سبحانه وتعالى استغنى عن
خدماتهم، ولم يأبه لجهادهم وجهودهم، بل حكم عليهم بالضلال
والكفر لغلوهم في عيسى واستحلالهم المحرمات، واستعبادهم
الشعوب الضعيفة، وجعلهم الدين كهانة وميراثاً، ولذلك لم تكن أمة
النصارى بعد صدرها الأول أمة صالحة، ولا كان رجالها رجالاً صالحين
بمفهوم الصلاح الذي يحبه الله ويرضاه، وفي ذلك يقول صلى الله عليه
وسلم: [إن الله نظر قبل مبعثي إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم
وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب] (رواه مسلم وأحمد).
وهؤلاء البقايا الذين عناهم النبي صلى الله عليه وسلم كانوا رهباناً
في الفلوات لا يأبه أحدهم لوجودهم ولا يهتم أحد برأيهم.. في وقت
كانت نصرانية الشرك في أوجها وعظمتها.
واستخلف الله من بعد ذلك رسولاً من العرب، وقد كانوا ذاك الوقت
أفقر العالمين داراً، وأقل الناس أمناً وقراراً.. ، وبدأت الأمة الجديدة
الصالحة التي اختارها الله لرسالتها الخاتمة تخرج من بين صخور هذه
الصحراء، وتُبنى في سهولها ووديانها، ويتبع دين الله حر وعبد وامرأة
وصبي، يلوذون بالحبشة تارة، لأن فيها ملكاً لا يستباح جواره،
وبأهلهم من الكفر تارة، ثم يتوجهون إلى المدينة فيبنون عريشاً لا
يقيهم المطر، وينامون ويقومون في السلاح من الخوف وقد تربص
الأعداء بهم من كل صوب.
يقول أبو سعيد الخدري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم:
[استهلت السماء في ليلة إحدي وعشرين يعني من شهر رمضان
فوكف المسجد في مصلى النبي صلى الله عليه وسلم، فبصرت
عيني نظرت إليه صلى الله عليه وسلم انصرف من الصبح ووجه
ممتلئ طيناً وماءاً] (متفق عليه)
ويقول أبو هريرة: [ولقد رأيتنا في صفة مسجد رسول الله نحواً من
سبعين، ما منا من له إزار ورداء جميعاً] (رواه أبو داود والنسائي
وغيرهم)
وتقول عائشة رضي الله عنها وعن الصحابة أجمعين: [إن كنا لننظر
إلى الهلال ثم الهلال.. ثلاثة أهلة في شهرين وما أوقدت في أبيات
رسول الله صلى الله عليه وسلم نار] (متفق عليه).
ومع تلك الحال التي كان عليها رسول الله وأصحابه فإننا نقرأ ثناء الله
عليهم، ورضاه عنهم، ومحبته لهم، ونعلم يقيناً أن ذلك كان المجتمع
الصالح، بل المجتمع المثالي، الذي لم يوجد في الأرض خير منه لا
وقوله صلى الله عليه وسلم: [خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم،ثم
الذين يلونهم] (رواه البخاري).
ويمن الله سبحانه وتعالى على هذه الأمة الصالحة فيفتح لها أبواب
العالم ومغاليق القلوب، وكنوز الأرض.. فتجبى إليها الثمرات من كل
أرض، ويخافها أهل الأرض جميعاً الأحمر والأبيض والأسود، ويأمن
الناس في رحابها حتى تخرج المرأة من بصرى الشام إلى صنعاء
اليمن وحدها لا تخاف إلا الله، ويفيض المال في يدها فلا يقبله أحد!!
وتقوم هذه الأمة بدعوة الله في الأرض فيحقق الله فيها وعده {وعدالله
الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما
استخلف الذين من قبلهم، وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم،
وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناًيعبدونني لا يشركون بي شيئاً} (النور:55)
لكن الأمة يتقادم بها العهد فتنسى كثيراً مما ذكرت به وتتفرق بأبنائها
السبل، وتتبع سنن من كان قبلهم في الطغيان والتجبر، والإفراط
والتفريط، والبعد عن عقيدة الإسلام وشريعته، فيحل بها أيضاً ما يحل
بالأمم السابقة من تسليط أعدائها عليها، وهلاك بعضها ببعض، ولا
تزال إلى اليوم تقرعها كل يوم قارعة.. وتفقد كل صباح جزءاً مما كان
بيدها بالأمس.
وها نحن أبناء هذه الأمة نجابه الواقع الأليم الذي نعيشه، ولا يحتاج
منا إلى كثير شرح وبيان، والكل منا يحياه ويراه، وإن كان بعضنا أشد
إحساساً بوطأته من بعض..
نعيش فرقة شديدة مزقت أمة الإسلام شيعاً وأحزاباً ودولاً وممالك
قام بينها التناحر والخلاف والشقاق، وسفك الدماء وانتهاك الأعراض،
ومن خلال هذا الخلاف دخل العدو الكافر، وحدث الفساد الكبير الذي
وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض
والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا
وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم
ميثاق والله بما تعلمون بصير* والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلا
تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير} (الأنفال:72-73).
والآن نأتي إلى السؤال الذي قدمنا هذه المقدمة الطويلة من أجله:
ماهي العقبات التي تعترض بناء الأمة الإسلامية ؟
و هذا ماسأعرضه على شكل حلقات متوالية ستة حلقات كل حلقة في موضوع منفصل
وأدعوا الله أن يوحد المسلمين تحت رآية لاإله إلا الله
ويوحد كلمتهم ويجمع صفهم
العقبات التي تعترض بناء الأمة الإسلامية
لفضيلة الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق
Bookmarks