برزت في الفترة الأخيرة ظاهرةٌ تحولت من مجرد مظهرٍ من مظاهر التراث الذي يذكره الأبناء عن الآباء إلى مصدرٍ من مصادر التعصب والانحياز والفخر والخيلاء التي يبغضها الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
إن إحياء النعرات القبلية في هذه الأمة أخذ في الفترة الأخيرة بُعداً آخر؛ والواضح أن لهذا الأمر أبعاداً وأغراضاً يستفيد منها الأعداء في مخططاتهم الرامية إلى تقسيم أمتنا الإسلامية إلى دويلات وشوارع وأحياء يتحكمون بها على أساس التقسيم القبلي والعرقي الذي يخدم هذه التوجهات بشكلٍ مباشرٍ وغير مباشر، ولعلي في هذا السياق أستشهد بكلمات للشيخ "ناصر العمر" ،حين قال: "ما يحدث من إشعال نار القبلية ظاهر الآن من التعصب للقبيلة والعشيرة، مما يلمس في الواقع اليوم من خلال الإعلام والساحات والإنترنت وحديث المجالس، وحتى إثارة الخلافات الطبيعية بين العلماء بخصوص الهلال وغيره من قبل الصحفيين، مما قد لوحظ بعد رمضان، وكل هذا هدفه واضح من مساعي تفكيك المجتمع والبلدان والقبائل".
لقد نهانا رسولنا الكريم عن مآثر الجاهلية وفخرها وخيلائها، وبين أن هذا الأمر لا يزال في هذه الأمة حيث قال عليه الصلاة والسلام: "أربع في أمتي من أمر الجاهلية، لا يتركونهن: الفخر في الأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة". وقال: النائحة إذا لم تتب قبل موتها، تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران، ودرع من جرب". (أخرجه مسلمٌ من حديث أبي مالك الأشعري).
وحدث الفخر بين أهل الغنم وأهل الإبل أمامه صلى الله عليه وسلم فقال: "الفخر والخيلاء في أهل الإبل والسكينة والوقار في أهل الغنم". وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بعث موسى صلى الله عليه وسلم يرعى غنما على أهله وبعثت أنا وأنا أرعى غنما لأهلي بجياد".
وأبان عليه الصلاة والسلام أن آفة الجمال الخيلاء، وآفة الحسب الفخر، وفي حديث قيس بن عاصم قال: "أتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فلما دنوت منه سمعته يقول هذا سيد أهل الوبر فسلمت وجلست فقلت: يا رسول الله المال الذي لا يكون علي فيه تبعة من ضعيف ضافني أو عيال إن كثروا؟. قال: نعم المال أربعون من الإبل والكثير ستون وويل لأصحاب المئين إلا من أعطى في رسلها ونجدتها وأفقر ظهرها وأطرق فحلها ونحر سمينها وأطعم القانع والمعتر. قلت: يا رسول الله ما أكرم هذه الأخلاق وأحسنها إنه لا يحل بالوادي الذي أنا فيه من كثرة إبلي. قال: فكيف تصنع بالمنيحة؟ قلت: إني لأمنح في كل عام مئة. قال: فكيف تصنع بالعارية؟ قلت: تغدوا الإبل ويغدو الناس فمن أخذ برأس بعير ذهب به. قال: فكيف تصنع بالأفقار؟ قال: إني أفقر البكر الضرع والناب المدبر. قال: مالك أحب إليك أم مال مولاك؟ قلت: بل مالي. قال: فإنما لك من مالك ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو أعطيت فأمضيت وما بقي فلمولاك. قلت: لمولاي؟ قال: نعم. قلت: والله لئن بقيت لأدعن عدتها قليلة. قال الحسن: ففعل رحمه الله فلما حضرته الوفاة دعا بنيه فقال: يا بني خذوا عني فلا أجد أنصح لكم مني إذا أنا مت فسودوا أكابركم ولا تسودوا أصاغركم فيستسفه الناس كباركم وتهونوا عليهم وعليكم باستصلاح المال فإنه منبهة للكريم ويستغنى به عن اللئيم وإياكم والمسألة فإنها آخر كسب المرء وإن أحدا لم يسأل إلا ترك كسبه فإذا أنا مت فكفنوني في ثيابي التي كنت أصلي فيها وأصوم وإياكم والنياحة علي فإني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم ينهى عنها وادفنوني في مكان لا يعلم به أحد فإنه قد كانت بيننا وبين بكر بن وائل خماشات في الجاهلية وأخاف أن يدخلوها عليكم في الإسلام فيعيثوا عليكم دينكم". (حديثٌ حسن).
إننا قبل الإسلام على كثرة قبائلنا وتنوع أصولنا وفروعنا كعرب لم نكن سوى سُبَّةٍ على جبين التاريخ يقودنا الروم والفرس والشرق والغرب كعبيد لهم يسومون شريفنا قبل وضيعنا سوء العذاب، ولما جاء الإسلام رفع الله به ذكرنا وأحيا نارنا الخامدة وسيرتنا الهامدة فأصبحنا شامةً في جبين الأمم.
إنه ليس من العقل ولا الحكمة في شيء أن يُترك اللاعبون على حبال تشتيتنا وتمزيقنا يلعبون بنا كالكرة التائهة لإنفاذ مخططاتهم في إحياء مآثر الجاهلية بيننا ودرس معالم الإسلام الذي بعث فسنا الروح وجعلنا خير الأمم إن التزمنا بشرع الله ، سمع رسول الله رجلين يفتخران بالقبيلة على حساب القبيلة الأخرى فقال: ((دعوها فإنها منتنة)).
لذلك من المحرم والممقوت أن نربي أجيالنا وأطفالنا الصغار على النعرات الجاهلية، ومن أعظم المنكر أن نسعى في هدم كيان الدولة المسلمة ،إن الفاسد في حياته والمحبط في نفسه والذي يشعر بمركَّب النقص يريد أن يعوّض ذلك بمدح قبيلته فحسب، وإضفاء الثناء عليها وحدها، وإهمال غيرها من القبائل.
إن المجتمعات التي ما زالت القبائل فيها تكوِّن بذور المجتمع سوف تقع فريسة لهؤلاء الحمقى الذين سوّل لهم الشيطان تقديس القبيلة، حتى أن بعضهم لا يحفظ له قصيدة في الثناء على الله عز وجل أو الدفاع عن رسوله المصطفى والمجتبى، أو الإشارة بالرسالة الخالدة، أو الدعوة لمكارم الأخلاق أو التنويه بالوحدة وجمع الكلمة، وإنما قصائده كلها نعرات جاهلية وعصبية قبلية.
ماذا نفع أبا لهب الهاشمي القرشي نسبه؟ وماذا ضرَّ بلال بن رباح المولى الأسود الحبشي نسبه؟
نحن أمة واحدة، ربنا واحد، ورسولنا واحد، وديننا واحد، وقبلتنا واحدة، فلماذا التفرقة والعنصرية والدعوة الجاهلية وبث بذور الفرقة والفتنة ،ولعل قصة عبدالله بن حُذَافة السَّهْمي - وهو من قريش - خير دليل على بطلان مسألة الاعتداد بالنسب؛ وقد كان من أمره أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ((سَلُونِي عَمَّا شِئْتُم))، فقال رجل: مَنْ أبي؟ قال: ((أَبُوكَ حُذَافَةُ))، فقام آخر، فقال: من أبي يا رسول الله؟ فقال: ((أَبُوكَ سَالِمٌ مَوْلَى شَيْبَةَ)). فلما رأى عمرُ ما في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغضب، قال: يا رسول الله، إنا نتوب إلى الله عز وجل. وقد قالت أم عبدالله ابن حذافة: ((ما سمعت بابن قطُّ أعقَّ منك؛ أأمنتَ أن تكون أمُّك قد قارفَتْ بعض ما تقارف نساء أهل الجاهلية؛ فتفضحَها على أعين الناس؟!).
فقد برّأ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمَّ عبدالله، لكنها مع ذلك وصفت ابنها بالعقوق؛ لِمَا كانت تعرفه عن مجتمع الجاهلية، مما كان يقع فيه الناس من مقارفة الفواحش؛ علمًا أن بعضها كان مباحًا عندهم ولا يُعَدُّ عيبًا في عُرْفهم؛ فقد أخبرت عائشةُ عروةَ رضي الله عنهما: ((أن النكاح في الجاهلية كان على أربعة أنحاء: فنِكاحٌ منها نكاحُ الناس اليوم؛ يخطب الرجل إلى الرجل وَلِيَّتَه أو ابنته، فيُصدِقُها، ثم يَنْكِحها، ونكاحٌ آخرُ؛ كان الرجل يقول لامرأته - إذا طَهُرَتْ من طَمْثها -: أرسلي إلى فلانٍ فاستبضِعي منه، ويعتزلها زوجها، ولا يَمَسُّها أبدًا، حتى يتبين حملها من ذلك الرجل الذي تستبضِع منه، فإذا تبين حملُها أصابها زوجُها إذا أحبّ، وإنما يفعل ذلك رغبة في نَجَابة الولد! فكان هذا النكاح نكاحَ الاستبضاع، ونكاحٌ آخرُ؛ يجتمع الرهط ما دون العشَرة، فيدخلون على المرأة، كلُّهم يُصيبها، فإذا حمَلت ووضعت، ومر عليها ليالٍ بعد أن تضع حملها أرسلت إليهم، فلم يستطع رجل منهم أن يمتنع، حتى يجتمعوا عندها، تقول لهم: قد عرفتم الذي كان من أمركم، وقد ولدت، فهو ابنُك يا فلانُ، تسمِّي من أحبَّتْ باسمه، فيَلْحَقُ به ولدُها، ولا يستطيع أن يمتنع به الرجل، ونكاح الرابع: يجتمع الناس الكثير، فيدخلون على المرأة، لا تمتنع ممن جاءها، وهنّ البغايا، كن يَنْصِبنَ على أبوابهن راياتٍ تكون عَلَمًا، فمن أرادهن دخل عليهن، فإذا حملت إحداهن ووضعت حملها، جُمِعوا لها، ودَعَوْا لهم القافةَ، ثم ألحقوا ولدها بالذي يَرَوْنَ، فالتاطَ به، ودُعِي ابنَه، لا يمتنع من ذلك، فلما بُعث محمدٌ صلى الله عليه وسلم، هدم نكاحَ الجاهلية كلَّه، إلا نكاح الناس اليوم).
فإذا علمنا أن الإسلام هو الذي هدم الأنكحة الباطلة؛ التي كان الناس عليها، علمنا أن الأوعية الاجتماعية - القبائل والأنساب - كان كثير منها مبنيًا على أساس غير صحيح، يدل لذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((أُخْرِجْتُ مِنْ نِكَاحٍ وَلَمْ أَخْرُجْ مِنْ سِفَاحٍ) ، وأن سلامة الأنساب وطهارتها لم تتضح ولم تكتمل إلا بالإسلام والالتزام به، وعلمنا يقينًا أن الافتخار بالأنساب إنما هو دعوى جاهلية محضة.
هذا هو الواقع الأليم الذي كان يعيشه الناس في الجاهلية، فاستنقذهم الإسلام منه؛ وأقام المجتمعات على النحو السليم؛ وبذا يمكن أن نتفهَّم قصد نَهَار بن تَوْسِعة، حين قال:
أَبِي الإِسْلاَمُ لاَ أَبَ لِي سِوَاهُ إِذَا افْتَخَرُوا بِقَيْسٍ أَوْ تَمِيمِ[22]
إذاً القبيلة هي وعاء اجتماعي لتنظيم التواصل والتعارف بين الناس وحَسْبُ، وليس موضوعًا للافتخار؛ إذ لا فخر لأحد بأوضاع جاهلية قبيحة أبطلها الإسلام، وعادات مستشرية هذبها.
منقول للفائدة
Bookmarks