بدأ الركض بوتيرة أسرع داخل الملعب الجنوبي، باتجاه مهمة محددة. ومنذ وصوله عدن ثاني أيام عيد الفطر الفائت، يبذل الرئيس صالح جهوداً مضنية لمعالجة ملف الاحتجاجات، ولكن على طريقته. إنه نشيط، مسيطر، ونبرته حادة شأن أي حاكم قرر، نهائياً، عدم تقديم أية تنازلات. لكن ما لم يستطع هذا الرجل الخطير إخفاءه – في جملة تحركاته وخطبه حتى الآن- هو أنه ذاهبٌ في الأزمة إلى أقصاها... ولا حلول مرجوّة. هل استمعتم إلى خطابه، الاثنين الماضي، في "أبين"؟ الحل "المنصف" الذي يقترحه الخطاب لإنهاء القضية الجنوبية هو تنشيط ذاكرة الصراعات الدامية بين الفرقاء الجنوبيين. وباختصار، يريد الرئيس أن يَشْوِي حركة الاحتجاجات، دون رحمة، عبر النفخ، بشدة، في أحداث يناير 1986.
منذ بدأت الاحتجاجات أبريل الماضي، تركزت ردود فعل الحكم في صنعاء على محاولة شق صف المحتجين عبر "استثمار" الشرخ الجنوبي القديم بين فريقي أحداث يناير 86 المعروفين بـ"الزمرة" (جماعة علي ناصر محمد) و"الطغمة" (جماعة علي سالم البيض)، كما درجت التسمية. وجود قيادات كبيرة من "الزمرة" (ناصر النوبة مثلاً) في صدارة حركة الاحتجاجات مثل خطراً كبيراً في نظر الحكم الذي يستمد استمراريته من الشروخ والأحقاد السياسية، الاجتماعية، والمناطقية وسط المجتمع. لقد استيقظ، فجأة، على اتحاد غير مسبوق بين الجنوبيين. (قبل نحو عام من بداية الاحتجاجات، ارتفعت دعوات المصالحة والتسامح بين فرقاء الجنوب وقابلتها السلطة بهجوم شرس: هل تتذكرون إعلانها عن اكتشاف مقابر جماعية تعود إلى أحداث يناير؟ بعدها، بعث الرئيس الأسبق علي ناصر محمد رسالة تدعو إلى المصالحة والتسامح وإغلاق ذلك الملف الدامي. هل تتذكرون، أيضاً، رد فعل السلطة على رسالته تلك؟ هجوم شرس للغاية).
بالنظر الآن إلى سلسلة وقائع السنوات اللاحقة لأحداث يناير 86، يمكن الجزم بأن أكثر طرف "استثمر" تلك اللحظة الدامية هو الرئيس صالح وفريقه. فهو استغل شرخ الحقد بين طرفي تلك اللحظة في صراعه، مطلع التسعينيات، مع شريكه الجنوبي في الوحدة والمهندس الرئيس لها: الحزب الاشتراكي. وبدأ توظيف هذا الشرخ في مرحلة مبكرة من الصراع معه، عبر تحالفه مع "الزمرة": هل تتذكرون موجة الاغتيالات التي طالت –خلال الفترة 92-1993 - حوالي 150 شخصية سياسية وقيادية من كوادر الاشتراكي، والتي أعادها الطرف الشمالي إلى تصفيات متبقية من آثار أحداث يناير، يشنها الفريق الخاسر في تلك الأحداث (الزمرة) ضد المنتصر (الطغمة)؟
بعد فترة وجيزة، اندلعت حرب 94، ولعب فريق علي ناصر دوراً رئيسياً في حسم الحرب لصالح الحكم الحالي. اليوم، يحاول الرئيس صالح استعادة اسباب انتصاره في تلك الحرب عبر تنشيط شرخ الحقد "النائم" بين الفريقين الجنوبيين. لكنه، الآن، يلعب بكرت محروق. فبعد الإطاحة بالحزب الاشتراكي، التفت إلى حلفائه في حرب 94 (حزب الإصلاح و"الزمرة") وأخذ- بدءاً من العام 1997- يطيح بهم واحداً إثر آخر.
إضافةً إلى اعتمادها أدوات سلمية ومدنية، تأتي قوة وخطورة حركة الاحتجاجات الجنوبية من الاتحاد الاحتجاجي- المطلبي غير المسبوق بين "الزمرة" و"الطغمة"، إليهما سائر البصمات السياسية والاجتماعية الرئيسية الأخرى في الجنوب. وهذا أمر يدركه الرئيس جيداً ويمثل تهديداً حقيقياً لحكمه بالكامل.
لكن الرجل، الذي أطاح بمختلف شركائه في السلطة، وضيّق دائرة تحالفاته إلى الخانة الأسرية القريبة جداً، لا ينوي الاعتراف بأخطاء سياساته، حتى تلك المتعلقة بتخلصه من حلفائه في حرب 94. جميع خطاباته، تقريباً، تؤكد على ذلك. وفي خطابه الأخير أبرز شاهد: بدلاً من اتخاذ خطوات حقيقية لمعالجة أخطاء حكمه الفادحة في مرحلة ما بعد حرب 94، يذهب إلى "أبين" لشكر أبنائها على تحالفهم معه في تلك الحرب: "نكرر الشكر لأبناء أبين ومناضليها الأوفياء الذين وقفوا وقفة رجل واحد إلى جانب الشرعية الدستورية أثناء فتنة محاولة الانفصال التي أشعلت في عام 94" ("الثورة"، 6 نوفمبر). ويضيف معبراً عن ثقته في "أن أبناء أبين سيظلون محافظين على هذا الموقف الوحدوي الرائع مهما حاول أولئك النفر من الصغار أن يشوهوا سمعة هذه المحافظة".
يهدف الرئيس، في جملة خطابه، إلى إثارة الشروخ المناطقية والمجتمعية بين منطقة جنوبية وأخرى: "أبين" التي تعود إليها جذور "الزمرة" حلفاء انتصار حرب 94، و"الضالع" و"ردفان" اللتين تعود إليهما، غالباً، جذور "الطغمة"، أو -كما أسماهم- "أولئك النفر" الذين "لعبوا بالنار عامي 93 و 94.."، وحملهم مأساة حرب 94 كما أحداث يناير 86.
في الربط بين حرب 94 وأحداث 86، تحريض مزدوج: لـ"أبين" ضد "الضالع" و"ردفان" والعكس (على اعتبار أن الأولى هزمت في أحداث يناير 86 أمام الأخيرتين، قبل أن تعود وتهزمهما بالتحالف مع الطرف الشمالي في يوليو 94. لكن المشكلة، الآن، ليست في انتصار منطقة جنوبية على أخرى، في 1986 أو 1994، بل في هزيمة الجنوب كله (والبلد عموماً) أمام الرئيس صالح وحكمه.
الآن، يستطيع أخطر حكام اليمن، في النصف الأخير من القرن الـ 20، أن يتحدث بنبرة المسيطر الذي خاض مرحلة طويلة من الصراعات كسبها جميعاً. غير أن عليه مواجهة نتائج مرحلته هذه وحيداً. لقد تحالف مع الجميع ثم أطاح بهم واحداً إثر آخر. ومؤكد أنه لم يعد هناك من يتحالف معه باستثناء حلفائه الحاليين: الشروخ والأحقاد الاجتماعية والمناطقية.
( نبيل سبيع )
Bookmarks