ما إن توارت أشعة الشمس الحمراء خلف تلك الجبال الشاهقة حتى اتكئ العجوز( صالح ) على عصاه محاولا النهوض من مجلسه في أطراف قريته الوادعة متوجها للمسجد لأداء الصلاة وما إن أتمها حتى عاد لبيته ليلتف حوله الأحفاد الصغار فهو موعد حكاية المساء تبسم العجوز ابتسامة باهته تنم عن سنوات من البؤس والشقاء قال الحفيد الصغير محمد والذي لم يبلغ العاشرة بعد : عن ماذا ستحكي لنا الليلة يا جدي ؟ اطرق العجوز برهة وقال :" سأحكي لكم الليلة - يا أبنائي - حكاية حزينة ومؤلمة عاشها شعب عظيم * شعب تضرب جذوره في القدم * شعب انشأ حضارة ورقى بها * فصنع النفائس والعجائب وأبدع في فنون العمارة * شعب جل من رمال الصحراء سجلا للمجد واستوحى من نسيمها أعذب الفنون وأروعها * فأنشأ القصور وزرع الحدائق وجعل من الصحراء فردوس وجنان فعاش ذلك الشعب في هدوء وسلام .


و بالقرب من ذلك الشعب * عاش شعب أخر يختلف عنه كثيرا فهو لا يحب الهدوء ولا يروق للسلام ولم يعجبه حال الشعب المجاور فحاك ودبر ونسج وخطط * وفي يوم من الأيام غزا ذلك الشعب * الشعب المجاور بكل وحشية * فدمر القصور واحرق الدور وعاث فيها فسادا فدُمرت بذلك حضارة وطُمست معالمها وأُدخلت ضمن سجلات ماضي طوي في صفحات التاريخ .


تنهد العجوز بحرقة وكأنه يعيش حال ذلك الفارس المغلوب الذي لم يملك سوى سيفه ودرعه يدافع بكل شجاعة عن داره وعرضه ليباغته سهم غادر ينغرس في قلبه وابتسامة ضفر من عدو يجر السبايا والأطفال وهم يصرخون بكل خوف ووجل وقلوبهم الصغيرة ترفرف من الذعر والفاجعة ولكن حامي الديار لا يقوى على المقاومة والدفاع فقد تمكن الموت منه وشل حركته فسُحبت نساءه و أطفاله أمام ناظريه فخر وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة وبقي قلبه الجريح يصرخ ويصيح قهرا وحنقا على عدو قاس لا يرحم !!


واصل العجوز سرد حكايته بكل أسى : لقد تلاشت هوية ذلك الشعب العريق وطويت تحت هوية الشعب الغاصب المحتل لفترات طويلة ولكن صورة الوطن الأولى بقيت في قلوب أبناءه متقدة فتوارثوا حكاية وطنهم الحر جيلا بعد جيل فحمل حلم التحرر أبناء الوطن واستعدوا للتضحية من اجل نيل حريتهم واستعادة حقوقهم وسعوا إلى الخلاص بكل همة !!
تساءل محمد : وهل تمكنوا من استعادة أرضهم يا جدي ؟
تبسم الجد وملأ محياه فخر وشعر بنشوة النصر فقال : نعم . نعم يا أبنائي لقد تمكنوا من ذلك بعد إن قدموا الكثير من التضحيات وصبروا حتى نالوا ما أرادوا .


تبسم الأحفاد ونظر بعضهم إلى بعض وكأنهم يعيشون لحظة النصر ونيل الاستقلال ولكن فجأة عاد الحزن إلى الجد وقال بصوت خافت حزين : ولكن ذلك لم يكن إلى الأبد يا أبنائي !!
خيم سكون مخيف على الأحفاد .. ليقطعه صوت الجد :
فقد عاد الغزاة من جديد !! وفعلوا بالبلاد والعباد ما عجز إن يفعله أجدادهم فأفسدوها وجثموا على صدرها فأهانوا كريمها وأذلوا عزيزها .


كان وقع الخبر الأحفاد مدويا فهم لا يعلمون بذلك فكلما تعلموه في المدرسة مخالف تماما لما يقوله الجد * وبين تناقضات الحقيقة والسراب في عقول الأحفاد الصغيرة يواصل الجد سرد حكايته :
ولكن ما يميزهم عن أجدادهم - يا أبنائي - هو إن أجدادهم دخلوا غزاه مغتصبين بينما هم دخلوا بطريقة مختلفة أ دّعوا أنهم محررين وإنهم دعاة للتقدم ورسخوا فكرة شعب واحد ووطن واحد ولكن ما لبثوا أن غدروا وبانت حقيقة مكرهم فخالفت أقوالهم الحقائق التاريخية وخالفت حتى أفعالهم !! فقولهم يقابله نهب لها ولخيراتها * أقام سماسرتهم تجارة طائلة من مخزونها فأغنوا أنفسهم وأفقروا أهلها وكلما ازدادوا ذلك الشعب المسكين فقرا وبؤسا كلما ازداد الغزاة غناء وفحشا . انتزعوا كسرة الخبز من البسطاء لينعموا بالرفاهية * فقتلوا الثوار وسجنوا الأحرار * وانزلوا البلاد والعباد إلى أسفل السافلين .


توقف العجوز عن الكلام فنظر الأحفاد إليه فوجدوه يبكي و يصارع ليخفي دمعته عنهم ولكنه عجز عن إسكات أنين قلبه لتسيل دمعته ساخنة على خده محملة بآهات وماسي سنين ترثي حال شعب عظيم كُتب عليه إن يعيش تحت ظلم وغبن !!


ارتمى الأحفاد على حضن جدهم المحمل بالحزن والأسى محاولين التخفيف عنه فضمهم إليه ونظر إلى محمد الذي لم يستسلم للحزن بل وقف بعيدا شاخص ببصره نحو السماء * نظر إليه الجد وقد أدرك إنه يستنشق هواء الحرية القادم من البعيد وان النصر قادم لا محالة !!

للحكاية تتمة ...