الصين وأميركا: أزمة اقتصاد النموذجين


هارولد مايرسون- الاتحاد الإماراتية:

رغم ما نشهده حالياً من نزيف حاد في الوظائف يقلق العديد من المسؤولين ويثير الكثير من المخاوف حول مستقبل الاقتصاد الأميركي، إلا أنه مقارنة بالمعايير التاريخية قد تبدو معضلة البطالة أقل وطأة مما كانت عليه في السابق. فقد وصلت نسبة البطالة حسب الأرقام الرسمية إلى 7*6 بالمائة، وهي أقل من النسبة التي بلغتها خلال الأزمة الاقتصادية في مطلع الثمانينيات عندما لامست 10 بالمائة، وكان القطاع الصناعي يلغي من الوظائف أكثر مما يفعل اليوم، فما وجه المقارنة إذن بين أرقام البطالة اليوم ومثيلتها بالأمس؟ الحقيقة أن الشبه يظل قائماً لو نحن نظرنا إلى شرق آسيا، حيث رحلت المصانع الأميركية ومعها الوظائف التي أُلغيت في الولايات المتحدة. ففي الصين، حيث انخفضت الصادرات بنحو 17*5 بالمائة في شهر يناير الماضي، وأغلقت عشرات الآلاف من المصانع أبوابها وسُرّح عدد هائل من العمال الذين يقدر عددهم حسب الأرقام الحكومية بحوالي 20 مليون عامل كانوا قد نزحوا من مناطقهم الريفية الفقيرة للعمل في المدن الأكثر ازدهاراً. ولا يقتصر الأمر على الصين التي تعتبر الأشد تضرراً، بل امتدت تداعيات الأزمة إلى اليابان وهونج كونج وسنغافورة وتايوان، التي أعلنت جميعاً توقعاتها بتراجع الناتج الإجمالي المحلي خلال السنة الجارية مقارنة مع معدلات النمو العالية التي حُققت في السنوات الماضية.

وتكمن المشكلة في تحول شرق آسيا إلى منصة ضخمة للتصدير ومعقل كبير للإنتاج كثيراً ما يتم تشبيهه بمصنع العالم، وتزامن ذلك مع توقف الولايات المتحدة التي أصبحت المستهلك الأول لمنتجاتها، عن شراء هذه المنتجات. وإذا كانت إحدى الصور الرمزية لكساد عشرينيات القرن الماضي الذي عصف بأميركا هو مشهد الأميركيين وهم يقفون في صفوف طويلة بانتظار توزيع الخبز، فإن نظيرتها اليوم تتمثل في صفوف السيارات اليابانية المركونة في لوس أنجلوس، أو باقي المدن الأميركية والتي تُركت ليعلوها الغبار دون أن يسأل عنها أحد. وفيما يشكل التصدير حسب خبراء ''مورجان ستانلي'' 47 في المائة من الاقتصاد الآسيوي، فإن الاستهلاك في الولايات المتحدة يشكل 70 في المائة من الناتج الإجمالي المحلي؛ لذا ليس هناك من حل أمام شرق آسيا، خاصة الصين، سوى تغيير إستراتيجيتها الاقتصادية، إذ بدلاً من الاعتماد المفرط على الصادرات، سيكون عليها الزيادة في استهلاكها الداخلي وتشجيع مواطنيها على الإنفاق بدلاً من اكتناز المدخرات، وهو ما يحتم أيضاً الرفع من مستوى الأجور لخلق سوق داخلي أكثر استقراراً للسلع والبضائع المحلية.

أما بالنسبة للولايات المتحدة، فتنطوي بلورة استراتيجية اقتصادية ناجحة على تعقيدات أكثر، فعندما أقدمت نخبنا الاقتصادية على ترحيل العديد من الوظائف في المجال الصناعي إلى شرق آسيا وباقي المناطق ذات العمالة الرخيصة، وحاربت الاتحادات العمالية وضيقت عليها عملها، كانوا بذلك يتجهون نحو خلق وظائف في قطاع البيع بالتجزئة والخدمات هي أقل شأناً من الصناعة وذات أجور ضعيفة. لكن مع ذلك، تمكن الأميركيون من الحفاظ على المستوى المعيشي نفسه للطبقة الوسطى، ليس من خلال رفع رواتبهم وتحسين مداخيلهم، بل من خلال الديون التي باتت متيسرة للجميع بفضل الاستدانة الكبيرة من الصين التي تعيد تدوير فوائضها المالية الضخمة في الاقتصاد الأميركي، وهي القروض طويلة الأمد التي أصبح من الصعب تسديدها. ويبدو أنه في قلب الأزمة العالمية الحالية ذلك الاعتماد الاقتصادي المتبادل بين الصين وأميركا، بحيث تبنت كل دولة نموذجاً اقتصادياً يحمل في طياته بذور عدم الاستقرار بإقدام الصين على تخفيض الأجور لتعزيز صادراتها، وباستمرار أميركا في الاقتراض لتمويل استهلاكها.

لكن رغم تباين النموذجين الاقتصاديين القائمين على التصدير من جهة والاستهلاك المفرط من جهة أخرى، إلا أن البلدين مع ذلك يتقاسمان بعض الخصائص المشتركة: فهما القوتان الاقتصاديتان الوحيدتان في العالم اللتان تناصبان العداء للاتحادات العمالية ولا يطيقانها. ففي الصين، أي اتحاد عمالي أو نقابة لا تتبع للدولة تعتبر خارجة عن القانون، وهو ما يفسر اندلاع الاحتجاجات العمالية بسبب غياب قنوات شرعية للتعبير عن استيائهم والمطالبة بحقوقهم، والأمر لا يختلف كثيراً في الولايات المتحدة، حيث دأبت الشركات طيلة السنوات الثلاثين الماضية وبصفة منتظمة على انتهاك قانون العمل الوطني ومنع العمال من الانضمام إلى النقابات.

وفيما كانت الاتحادات العمالية في بلدان أخرى تتجه إلى عقد اتفاقات مع أرباب الشركات والقطاع الصناعي لتنظيم علاقات العمل، كانت الولايات المتحدة والصين تواصلان تضييقهما على النقابات وتعوقان تطورها، بحيث لم يعد بمقدور العمال الانتظام في إطار قانوني يدافع عن حقوقهم ويضمن مستويات معقولة من الدخل. ولنتخيل لو أن الصين وأميركا سمحتا فعلاً بتعزيز قوة النقابات، فلا شك أن ذلك كان سيؤدي في الصين إلى ارتفاع الأجور واستحداث نظام للضمان الاجتماعي، وبالتالي تعزيز الاستهلاك، وهنا في الولايات المتحدة كانت النقابات ستحافظ على الوظائف في القطاع الصناعي وكانت سترفع الرواتب في قطاعي الخدمات والبيع بالتجزئة لتتيح للمواطنين الأميركيين اعتماداً أكثر على دخولهم للاستهلاك بدل الاستدانة، ولكان الاقتصاد في البلدين أكثر استقراراً والأزمة أقل حدة.


مع تحياتي ،،،،،