هو هارون بن محمد (المهدي) بن عبد الله (المنصور) العباسي الهاشمي، والرشيد لقبه. أبو جعفر. ويقال له أبو محمد. استخلف بعهد من أبيه بعد موت أخيه الهادي. ولد بالري سنة 149 هـ وقيل سنة 145 هـ وأمه الخيزران، وهي أم ولد. عينه أبوه أميرا للصائفة سنة 136 هـ وفي سنة 146 هـ ولاه المغرب كله من الأنبار حتى أطراف إفريقية، فكان الرشيد يرسل الولاة من قبله لهذه الأقاليم. في سنة 165 هـ عاد المهدي فعين الرشيد للصائفة مرة أخرى، فغزا الروم وفتح (هرقلة) وأجبر الملكة (إيرين) - وكانت وصية على ابنها قسطنطين- على قبول الصلح ودفع جزية كبيرة. اتصلت المودة بينه وبين شارلماني، ملك الفرنجة، وتهاديا التحف. كان جبارا ويلقب بجبار بني العباس. قضى على البرامكة في ليلة واحدة لأسباب أوردناها في ترجمة جعفر ابن يحيى البرمكي، وكان إلى جانب قسوته رقيق العاطفة، فهو كالريح العاصفة حينا وكالنسيم الندي حينا آخر، يثور فيزأر، ويوعظ فيبكي. لم يجتمع على باب خليفة من العلماء والشعراء والفقهاء والقراء والقضاة والكتاب والندماء ما اجتمع على باب الرشيد، وكان أديبا شاعرا، راوية للأخبار والآثار والأشعار ، وكان مهيبا عند العامة والخاصة. أسس بيت الحكمة، ذلك المعهد الذي كان منارا للثقافة والفكر في العالم ذلك الحين، والذي انبعثت منه الشعلة التي أنارت الطريق للنهضة الأوربية فيما بعد. كان عابدا كثير العبادة، يحج سنة ويغزو سنة طيلة مدة خلافته، إلا سنين قليلة، وحج مرة ماشيا ولم يحج ماشيا غيره من الخلفاء، وكان إذا حج حج معه مائة من العلماء. تشبه في أفعاله بجده المنصور ، إلا في بذل المال، فإنه لم ير خليفة أسمح منه بالمال، فقد أعطى سفيان بن عيينه، كبير محدثي الحرم المكي، مائة ألف دينار ، وأجاز إسحاق الموصلي بمائتي ألف دينار ، وأجاز مروان بن أبي حفصة بخمسة آلاف دينار مع خلع ورقيق، وكانت أيامه كأنها من حسنها أعراس. يعتبر عصر الرشيد، عصر شباب الدولة العباسية ونضارتها، فيه وصلت بغداد إلى قمة مجدها، وامتدت الأبنية في الجانبين امتدادا عظيما وأصبحت مركزا للتجارة . في عهده بنى السراة والمترفون القصور الفخمة في ضاحيتي (الرصافة) و (الشماسية) وكان أفخمها قصوره التي بناها وأهمها (قصر الخلد) و (السلام) و (القصر الهاروني) ، فكانت تموج بالرياش والأثاث الثمين وتعج بالجواري والقيان، وتزخر بالشعر والموسيقى والغناء. بايع بولاية العهد لابنه الأمين وقدمه على أخيه المأمون وكان أكبر منه لأجل أمه زبيدة بنت جعفر بنت المنصور، ثم بايع لابنه المأمون من بعده، ومن بعد الأخوين بايع لابنه القاسم (المؤتمن) . ولما قسم الدولة بين أولاده الثلاثة قال بعض العقلاء: لقد ألقى بأسهم بينهم وغائلة ذلك تضييع بالرعية، وهكذا كان، وكان الفضيل بن عياض يقول: ليس موت أحد أعز علينا من موت الرشيد لما أتخوف بعده من الحوادث. وقد حدث ما تخوف منه، فقد ظهر بعد موت الرشيد الخلاف بين الأمين والمأمون، واشتدت الفتن وظهر القول بخلق القرآن. في عام 193 هـ ثار الرشيد بنفسه لقمع الثورة التي قام بها رافع بن الليث بخراسان، فاشتدت العلة عليه في الطريق وتوفي بقرية (سناباذ) من قرى (طوس) وقبره فيها. مات وعمره 44 سنة ومدة حكمه 22 سنة، وتوفي عن عشرين ولدا، عشرة من الذكور وعشرة من الإناث، كلهم من جواري وأمهات أولاد، عدا الأمين فإنه من زبيدة بنت جعفر بن المنصور.
Bookmarks