التدين والصحة النفسية
أ.د. مصطفى كويلو
على الرغم من أنه لم تؤسس علاقة سليمة بين الدين وعلم النفس منذ القرنين الأخيرين، إلا أن البحوث التي أجريت في هذا المجال منذ حوالي ثلاثين سنة كشفت عن وجود علاقة مهمة بين التدين والصحة النفسية. ولا ينحصر هذا الرأي على العلماء الباحثين في مجال العلوم الشرعية، بل يلقى تأييدا من الباحثين في حقل العلوم الطبية أيضا.
وبالإضافة إلى الملاحظات النظرية فالبحوث التجريبية التي أجريت في هذا المجال أثبتت أن الذين يتمتعون بمستوى عال من التدين (الخلوص في العقيدة والمواظبة على أداء العبادات والدعاء وقراءة المتون المقدسة... إلخ) يكونون -بالمقارنة مع قليلي التدين- في وضع نفسي أحسن، ومطمئنين في حياتهم، ومتفائلين في تفكيرهم. بالإضافة إلى أنهم أقل تعرضا للضغوط النفسية والاكتئاب والقلق، وأقوى على مقاومة الضغوط النفسية، وأقل محاولة للانتحار.
والحقيقة أن هذه البحوث الميدانية التي أجريت في المجتمع الغربي لا تدل كلها -لأسباب عديدة- على العلاقة الإيجابية بين التدين والصحة النفسية، إلا أن قسما كبيرا منها يدل على أن بينهما علاقة إيجابية.
ويذكر (Koenig) الذي هو من أهم المتخصصين في هذا المجال أن (500) من أصل (700) من البحوث التي أجريت قبل عامِ (2000) في هذا المجال (71%) أظهرت أن هناك علاقة بين الدين والصحة النفسية. وحسب هذا التحليل:
أثبتت 60 من أصل 93 تجربة أن الذين يتحلون بمستوى عال من التدين هم أقل تعرضا للاكتئاب، والذين يتعرضون له يشفون في مدة أقل. وأثبتت 57 من أصل 68 تجربة أن هؤلاء أقل محاولة للانتحار. وأظهرت 35 من أصل 69 بحثا أن نسبة القلق لدى هؤلاء أقل. و 98 من أصل 120 يتعاطون المخدرات أقل من غيرهم. وأظهرت 94 من أصل 114 أنهم كانوا في وضع أفضل من الناحية النفسية والشعور بالأمل والتفاؤل. و 15 بحثا من أصل 16 يرون في حياتهم ما يضفي عليها المعنى ويحقق أهدافهم وطموحاتهم أكثر. وأثبت 35 من أصل 38 بحثا أنهم أسعد في حياتهم الزوجية وأحسن في تعاملهم مع أزواجهم. وأن 19 من أصل 20 منهم تلقّى دعما اجتماعيا أكثر.(1)
صحيح أنه لابد لمن يقرأ هذه المعطيات أن يأخذ بعين الاعتبار خصوصيات ديانة المجتمع الغربي، إلا أننا نستطيع أن نقول في نهاية المطاف إن الأثر الإيجابي للدين على الصحة النفسية في الجملة أكثر من السلبية. ففضلا عن المعلومات النظرية، سنتناول في هذا المقال تأثير الدين على الصحة النفسية في ضوء البحوث التجريبية التي أجريت في هذا المجال في الغرب -وبالأخص في الولايات المتحدة-. وفي هذا السياق سنحاول البحث عن العلاقة بين العقائد الدينية والاكتئاب والانتحار والقلق، وبينها وبين السلامة النفسية.
التدين والاكتئاب
من المعلوم أن الاكتئاب يأتي على رأس قائمة الأمراض التي تهدد إنسان هذا العصر؛ فلقد ثبت أن 100 مليونا من الناس تأثروا به.(2) فهو من الأمراض الأكثر انتشارا وبخاصة بين المسنين.
فنسبة المسنين الذين يعانون من هذا المرض وإن كان قليلاً مقارنة بمجموع الفئات العمرية، إلا أنه إذا قورن بالمسنين الذين يتلقون العلاج في المستشفيات ترتفع النسبة إلى 35%. وبخاصة إن الأعراض الاكتئابية تظهر بنسبة أعلى لدى المسنين الذين لا يقيمون في مؤسسات معينة. (3)
فالاكتئاب إذا لم يعالج فسيؤدي إلى نتائج سلبية للمسنين وللمجتمع الذي يعيشون فيه. لأن معظم الأمراض الاكتئابية لا تشفى تماما، وقد يرجع المرض بعد فترة علاج طويلة، فقد ثبت أن ثلثي مرضى الاكتئاب الذين تلقوا العلاج قد أصيبوا بهذا المرض مرة أخرى في أقل من ثلاثة أشهر، وهذا الوضع يؤثر سلبا من الناحية الاقتصادية من جانب، ومن جانب آخر على نوعية الحياة، فيؤدي إلى ارتفاع معدل حالات الوفيات.
فما نوع العلاقة بين الدين والاكتئاب؟ وبتعبير آخر هل هناك تأثير إيجابي للدين على مرض الاكتئاب؟ فـ(Koenig) الذي له بحوث كثيرة في موضوع العلاقة بين الاكتئاب وبين الذين يذهبون إلى الكنيسة، توصّل في 59 من أصل 93 بحثا ميدانيا إلى أن نسبة عدم الاستقرار النفسي النابع من الاكتئاب لدى الذين يكثرون من المشاركة في طقوس العبادات الدينية أقل من غيرهم، وبالتالي فهؤلاء يقل لديهم ظهور أعراض هذا المرض.
ومن أوسع البحوث في هذا الميدان هو ما قام به (Larson) و(Koenig) سنة 2001، حيث قاما بالبحث عن علاقة التدين بالصحة من أبعاد مختلفة، فقاما بتقييم 850 عملا، ووصلا في النتيجة إلى أن هناك علاقة إيجابية بين التدين والرضى عن الحياة. وفي بحثهما عن العلاقة بين التدين وبين الاكتئاب والقلق، وصلا إلى أن ثلثي التجارب أظهرت أن الذين نسبة التدين لديهم عالية هم أقل تعرضا للاكتئاب والقلق.(4)
وأما نتائج الأعمال الفردية في هذا المجال فهي كالآتي: قام (Koenig) وزملاؤه ببحث أجروه على 111 مسنا مكتئبا، وبعد متابعة استغرقت حوالي سنة ظهر أنه بالإضافة إلى الفعاليات الدينية كالمواظبة على الكنيسة وقراءة الإنجيل كان للعقيدة أو الحياة الدينية الخالصتين تأثير مهم على مرضى الاكتئاب، وثبت أن نصف المرضى قد شفوا من دون تلقى أي علاج طبي.
فهؤلاء الباحثون مع أنهم لم يشرحوا آليات هذه النتيجة إلا أنهم ادعوا أن العقيدة الدينية قد أكسبت هؤلاء المرضى نظرة أفضل نحو الحياة وحققت لهم فهما وتقبلا للأوجاع والموت.
ومن جانب آخر، أبدوا أن العقيدة الدينية تُكسب المسنين "تصميما قويا للذات"، بمعنى أنها تساهم بشكل أفضل وأصح على تعرفهم وتقييمهم لجوانب ضعفهم وقوتهم والتعرف على هويتهم، وأن هذا يعتبر مساندة مهمة في فترة الشيخوخة التي تختل صحة الإنسان فيها. بالإضافة إلى أن الدين يؤمِّل الإنسان بأن الظروف مهما كانت وأن الإنسان مهما واجه من مشاكل، فإن الأمور ستتحسن. وذلك يؤدي إلى بعث روح الأمل وتحسين الحالة العاطفية.(5)
وفي البحث الذي قام به (Cummings) وزملاؤه على 568 مريضا توصلوا إلى أن هناك علاقة بين الدعم الاجتماعي والتدين وبين الأعراض الاكتئابية والأمراض الوظيفية، وأن نسبة التعرض للاكتئاب أقل في الذين يتلقون الدعم الاجتماعي لدرجة عالية والذين يشاركون في النشاطات الدينية، وأن لهذا الأمر تأثيرا إيجابيا على المعاقين بدنيا، وأن للتدين من التأثير ما ليس لغيره من العوامل مثل التعليم، والجنس (الذكورة والأنوثة)، والحالة الاجتماعية (الزواج وعدمه) . (6)
وأظهرت البحوث التي أجريت في كندا على 37 ألف شخص حول مدى العلاقة بين زيادة نسبة التدين والاكتئاب، أنه كلما زاد التدين قل العثور على الاضطرابات النفسية وحالات الجنون والاكتئاب والفوبيا الاجتماعي، وأن للتدين موقعا مهما في تفسير الإنسان للحياة ومقاومة تبعات الحياة اليومية وتحمل هموم الحياة وشدائدها. (7)
فكيف يحد التدين من الاكتئاب أو يعدمه تماما؟
الباحثون يربطون هذا الأمر بالروح الجَماعي الذي يتكون بين أفراد الجماعة المتدينة نتيجة الدعاء والعبادة، وذلك يعود بالطاقة المعنوية على أفراد الجماعة؛ لأن أفراد الجماعة لا يتعاونون فيما بينهم معنويا فقط، بل يتساندون من الناحية المادية أيضا. ولذلك تقل لديهم الأفكار والمشاعر السلبية مثل الإحساس بالعزلة والضعف وعدم التفاؤل وغياب الأهداف، وخصوصا إذا اعتبرنا أن من أسباب الاكتئاب الشعورَ بالوحدة، والانعزال عن المجتمع والأفراد، وضعف الروابط أو انعدامها بالكلية.(8)
الانتحار والعقيدة الدينية
إن الأبحاث التي تجرى في عصرنا تصادق على ما توصل إليه "دوركايم" قبل قرابة قرن؛ إذ من المعلوم أن طرحه الأساسي كان نحو فكرة القول بأن التنظيمات الدينية عوامل مهمة في حماية منتسبيها من الانتحار. فهو لإثبات رأيه هذا قام بمقارنة بين الكاثوليك والبروتستانت، وتوصل إلى أن نسبة حوادث الانتحار في المجتمعات التي تعتنق مذهب الكاثوليك أقل منها في البروتستانتيين. والسبب الأهم لهذا -حسب رأي دوركايم- هو التنظيمات أو الترتيبات الاجتماعية التي تقيمها أصحاب الأديان أو المذاهب. فالذين يشتركون في الدين لا يتشاركون بالعقيدة فحسب بل يتعدى هذا إلى تقاسم القيم نفسها في القضايا الأخلاقية والأسرية والأعمال الاجتماعية. فهذا البناء المتجانس سيؤثر لا محالة على صحتهم النفسية إيجابيا.
إن محاولات الانتحار مع أنها تكون في كل الفئات العمرية إلا أنها تعد مشكلة أهم بالنسبة للمسنين؛ فالمتخصصون الأمريكيون يذكرون أن 10-130% من المسنين في مجتمعهم يعانون من مشاكل نفسية، ويقرر هؤلاء أنه إن لم يعالَج هؤلاء المسنون فستزيد نسبة حوادث الانتحار بينهم بنسبة 50%. إضافة إلى أن الانتحار في المجتمعات الغربية لا يشكل عنصرا مهددا للشيوخ فحسب بل يهدد الشباب أيضا. فنسبة التصرفات المتعلقة بالانتحار في أوساط الشباب تتراوح ما بين 4-60%.(9) وهذا الفرق الإحصائي الكبير بين البيانات نابع من تفاوت الآراء حول عد بعض التصرفات انتحارية أو لا، لأن هذا ينطبق على سلسلة من التصرفات، بدءا من نية الانتحار وانتهاء بتحقيقه بالفعل. وهذه تسمى في اصطلاح علم النفس "عوامل الخطر". وتأتي على رأس هذه العوامل القابليةُ العائلية لهذا المرض، والاكتئابُ، وتعاطي المخدرات، والروح العدائية، وكون أحد أفراد العائلة قد انتحر من قبل... إلخ.
ومن عوامل الانتحار أيضا التكوين الجيني والتشوهات الخلقية، والروح العدائية، وسرعة الغضب، وضعف القابلية على حل المشاكل، واليأس. ويشكل الاكتئاب عامل خطر لدى النساء أكثر منه للرجال. (10)
وقد أظهرت معظم البحوث التي تناولت العلاقة بين التدين والانتحار أن هناك تناسبا عكسيا بينهما؛ إذ من المعلوم أن الإسلام يحرم الانتحار تحريما قطعيا كما أن الديانات الأخرى لا تجيزه.
البحوث الأخرى التي أجريت في هذا المجال أثبتت أن الدين من أكبر العوامل التي تساعد الإنسان على مقاومة تأثير شتى بواعث الضغوط النفسية التي تؤدي إلى الاكتئاب أيضا. وقد لوحظ أن الذين يقومون بواجبات عقائدهم الدينية تقل لديهم نسبة التعرض لـ"عوامل الخطر" التي تؤدي إلى الانتحار مثل إدمان المخدرات والاكتئاب والقنوط.
وأسفر بحث آخر عن أن نسبة حوادث الانتحار في الذين لا يذهبون إلى الكنيسة أكبر بأربعة أضعاف، بالمقارنة بمن يواظبون على ذلك بشكل منظم. وأثبتت دراسة أقيمت في 25 دولة أن هناك تناسبا عكسيا بين التدين والانتحار.(11)
فالدين -على عكس النظم الرأسمالية- يشجع على عيش أبسط وبذلك يحد من الانتحار. فعلى سبيل المثال: الديانات التي ترفع من شأن الفقر (مثل الديانات الشرقية، والنصرانية) أو التي تبجل الاعتدال في الحياة (كما هو في الإسلام) تحفظ الإنسان من الوقوع في مأزق الانهماك في كسب المنافع المادية. وهذا النوع من العقيدة يستطيع أن يساهم في الحفاظ على الصحة النفسية للأفراد.
التدين والقلق
أجريت 76 تجربة حول البحث عن العلاقة بين الدين والقلق (69 منها بحوث ميدانية و 7 سريرية)، فأسفرت 35 منها عن أن نسبة عناصر القلق والخوف لدى الذين يتمتعون بمستوى عال من التدين أقل مقارنة بالذين يقل لديهم التدين. وفي 17 منها لم يعثر على أي علاقة. وفي 7 منها عثر على علاقات معقدة ومتشابكة، وفي عشرة منها كانت نسبة القلق والخوف لدى الذين مستوى التدين لديهم عالية أكثرَ من قليلي التدين.
ومن أهم الجوانب في هذا البحث أنه ظهر في 6 من أصل 7 من البحوث السريرية التي تناولت مستوى العلاقة بين التدين والقلق أن للدين موقعا مهما في التخلص من القلق.(12)
Bookmarks