تجار اليمن: الرجعة للوراء تكسر البنادق


[04/ديسمبر/2008]
صنعاء – سبأنت:
إدارة التحقيقات الصحفية: أسامة غالب نصر وشاكر أحمد خالد

بين موجة الارتفاعات السعرية التي شهدها العالم منتصف العام الجاري وموجة الانهيار المالي في الأشهر الأخيرة، والذي معه انخفضت الأسعار، بدا التجار اليمنيون خارج الدائرة.
فتجار اليمن (حسب مواطن): يرفعون الأسعار كلّما أعلن عن انخفاضها، ويضاعفونها أكثر حين يشعرون بارتفاعها.. يتحججون كثيرا بارتفاعات عالمية في الأسعار، ولا يتذكرون العودة حتى لسعرها الأصلي حين تنخفض في العالم، ولسان حالهم يقول: "الرجعة تكسر البنادق"، وهو مثل عكس المثل الذي يلتزم به المواطن "الرجعة للحق فضيلة".

انخفاضات عالمية وارتفاعات محلية:
في السوق اليمنية فقط، لا يشعر أحد بأي تأثر لموجة الانخفاضات السعرية الكبيرة في أنحاء العالم.. فأسعار القمح تراجعت عالميا حتى وصلت منتصف نوفمبر إلى 294 دولارا للطن الواحد، أي بنسبة 60 بالمائة مقارنة بالأسعار السابقة التي وصل عندها الطن بين 500 و600 دولار، والطن يساوي 20 كيسا زنة 50 كيلوغراما.
مع مطلع العام الجاري كانت القيمة الحقيقية المقدّرة للكيس عالميا لم تتعدى 4 آلاف ريال، في حين وصل في اليمن إلى 7 آلاف ريال، وهي زيادة تقارب ضعف القيمة، ولا تتناسب إطلاقا مع حجم الارتفاع العالمي للأسعار حتى لو أضيف إليها كلفة النقل إلى الموانئ اليمنية.
في مارس الماضي كان بداية العد التنازلي لانخفاض أسعار القمح، إذ قُدر سعر الطن بـ495 دولارا، وفي مايو الماضي كان الانخفاض قد بلغ 343 دولارا، بينما سعر الكيس الواحد في السوق المحلية كان ما يزال يباع بـ6600 ريال، وبفارق ربح مقدّر بأكثر من ثلاثة آلاف ريال في كل كيس.
وزارة الصناعة عمدت إلى وضع تسعيرات لمختلف أنواع مادة القمح والدقيق، لكن ما يلاحظ أن هناك تفاوتا في الأسعار بين تاجر وآخر للنوع نفسه.
فالوزارة سعّرت الكيس من دقيق "الجزيرة" عبوة 50 كجم بـ4800 ريال، في حين يبيعه تجار في سوق الحصبة بـ5500 ريال، وعند آخرين بـ5200 ريال.


الرغيف يضاهي الذهب:
ورغم التراجع الذي تسجله أسعار القمح والمواد الأساسية بشكل مطّرد مؤخرا، يظل المواطن يشكو من عدم شعوره بانخفاض حقيقي للأسعار في السوق المحلية كالارتفاع الذي كان سريعا تحت مبرر "ارتفاع عالمي".
عند ارتفاع أسعار القمح عالميا تدخلت الجهات المعنية بوضع تسعيرة للمخابز حددت فيه الكيلو بـ180 ريالا، على أن يكون الرغيف الخبز يزن 100 جرام بـ20 ريالا، وألزمت المخابز وقتها بتكبير حجم الرغيف الذي كاد أن ينقرض مع مضاعفة سعره، وقتها كان التزام الأفران شكليا، حيث ضاعفوا سعر الرغيف مع التحايل في وزنه، فشكّل هذا الأمر عبئا على المستهلك فقط.
وبعد الانخفاضات السعرية ظل الأمر كما هو، رغم تعميم المجلس المحلي في أمانة العاصمة، نوفمبر الماضي، ببيع الكيلو الخبز بـ150 ريالا على أن يكون وزن الرغيف الواحد 100 جرام.
صادق (مواطن عادي) صدّق الإعلان الذي قرأه في أحد مخابز حدة، وحين عاد إلى منزله في شارع مارب طلب من صاحب الفرن محاسبته بسعر الكيلو وليس بعدد الأرغفة، وبعد شد وجذب مع صاحب الفرن الذي كان يرفض ذلك، وافق على إعطائه كيلو خبزا بـ180 ريالا.
يقول صادق: "لم يزن لي، وإنما قال إن الكيلو يساوي 11 رغيفا، وحين أخذته وجدت وزنه 700 جرام، وبنقص 300 جرام".
يعني بزيادة سعرية تقارب 30 بالمائة عن السعر المحدد، ونقص في الوزن بـالنسبة نفسها، وعند احتساب قيمة الرغيف الذي يصل وزنه 70 جراما في أكثر الأفران للمستهلك العادي بـ20 ريالا، يصل وزن الكيلو الحقيقي من الأرغفة إلى 280 ريالا، وهو مبلغ يقارب ضعف المبلغ المحدد من قبل محلي أمانة العاصمة في الشهر الماضي.

بين اليأس والجشع:
حمود محسن (عامل) يقول: إنه لم يعد يصدق إشاعات النقصان، "عندنا يرفعوا أيوه لكن ينقِّصوا ما فيش".
مصطفى فرحان (مدرس) يرى أنه "في بلادنا كل شيء ثانٍ، كل يوم في سعر، ومن دكان لآخر هناك فرق".
أما صديقه حسن صالح (سائق) فيقول: "نخاف يأتي يوم لا يُرى فيه الروتي إلا عبر الميكروسكوب".
ويقول المواطن جمال سعد إن التسعيرة الرسمية للخبز والروتي لا تعني له شيئا؛ لأن هناك طرقا مختلفة للتحايل عليها، فضلا عن أن احتياجه لا يقاس بالكيلو.
يضيف: "قد تجد صاحب الفرن يزيدك قرص خبز، ولكن ليس للأمر علاقة بانخفاض السعر، وإنما تفضل معمول به حتى في عز الأزمة".
عبدالرحمن نعمان (باحث اقتصادي) يقول: "هناك مخزون لدى التجار بالأسعار المرتفعة، خصوصا وأن كل التوقعات كانت تشير إلى تفاقم أزمة الغذاء العالمي وحدث أن الأزمة المالية قلبت الأمور رأسا على عقب".
ولا يستبعد أن "يتخذ التجار من المخزون أو أي اتفاقات مبرمة في وقت سابق قميص عثمان لجلد المواطن". ويحمل الأجهزة المختصة "المسؤولية الكاملة في حماية المواطنين من جشع البعض".
أمين عام جمعية المستهلك، محمود النقيب، يؤكد (هنا) على وجود انخفاضات حقيقية لمسها العالم أجمع باستثناء اليمن.
ويقول النقيب: "في الوقت الذي سارع التجار لرفع الأسعار عند علمهم بارتفاعات سعرية عالمية في بلد المنشأ، ها هم يتباطأون في تخفيض الأسعار بعد إعلان انخفاضها في الأسواق الدولية".
ويضيف: "التقارير الدولية تتحدث عن تراجع أسعار السلع الأساسية بسبب الأزمة المالية وتراجع أسعار النفط، الأمر الذي انعكس على انخفاض تكاليف النقل، وبالتالي انخفاض في السعر".
ويُرجع عدم استجابة الأسواق المحلية للأسواق الخارجية إلى "حساسية الظرف الذي تمر به البلد، والأبعاد السياسية وغيرها حالت دون ذلك، وبسبب قوة التأثير الذي يمارسه رجال المال والأعمال".
وعن دور الجمعيات المعنية بحماية المستهلك يقول: "طالبنا مجلس الغذاء بالانعقاد والنظر في هذه القضية بجدية وضرورة قيام الحكومة من خلال مجلس الغذاء بإلزام المستوردين والمنتجين بتخفيض الأسعار".

التاجر خسران:
نائب رئيس اتحاد الغرف التجارية والصناعية، محمد صلاح، يقول: "هناك انخفاض متفاوت في أسعار المواد الأساسية والاستهلاكية، وأنه اتضح من خلال النزول إلى الأسواق أن هناك سلعا انخفضت إلى أكثر من 30 بالمائة، وبعضها إلى 40 بالمائة، كما أن هناك مخزونا سابقا لدى تجار تم شراؤه بسعر مرتفع".
يضيف: "هذا التفاوت بسبب أن بعض السلع ما زالت مرتفعة من المصدر، مقارنة بـالانخفاض الكبير الذي سجلته بعض المواد الأخرى غير الأساسية، كالأدوات الكهربائية والحديد الذي انخفض إلى 90 بالمائة، والنحاس إلى أكثر من 125 بالمائة".
ويؤكد أن التاجر خسران في الارتفاع أو الانخفاض "بسبب اندفاع بعض المواطنين إلى سلعة معيّنة وتخزينها، وهو سبب من أسباب الأزمة".
وزارة الصناعة والتجارة تقول إن فروعها في المحافظات وبالتنسيق مع قيادات السلطة المحلية "تعمل على رقابة الأسواق، وأنه تعزيز لدور الرقابة وبناء على قرارات وأوامر مجلس الوزراء صدر قرار وزير العدل رقم 372 لسنة 2008، الذي قضى بمنح صفة الضبط القضائي لعدد 222 موظفا بوزارة الصناعة والتجارة ومكاتبها في المحافظات".
ويضيف "مدير عام التجارة الداخلية بوزارة الصناعة والتجارة، محمد فرج: "الموارد الاقتصادية الداخلية والرقابة من صلاحيات المجالس المحلية، والوزارة أوكلت هذه المهمة لها".
ويشير إلى أن محليات كلٍ من "أمانة العاصمة، عدن، صنعاء، الحديدة، أبين، صعدة"، اجتمعت لمناقشة هذا الانخفاض وخرجت بتسعيرة جديدة للكيلو الواحد من الخبز "سعر 150 ريالا"، بعد أن كان قد وصل سعر الكيلو إلى 180 ريالا في التسعيرة السابقة.
ويؤكد أن "الوزارة وضعت معيارا للتخفيض هو 10بالمائة للكيلو مقابل ألف ريال انخفاض في سعر الكيس عبوة خمسين كيلوجراما".

قوانين على ورق:
القانون رقم 5 لسنة 2007 بشأن التجارة الداخلية جاء "من أجل تحقيق الاستقرار التمويني للسكان وتوفير احتياجاتهم من البضائع المنتجة محلياً أو المستوردة من الخارج".
ويمنح القانون المستهلك حقوقا كثيرة من بينها: "ضمان توفير المخزون الاحتياطي من السلع الأساسية الضرورية، والعمل مع الجهات ذات العلاقة على توفير وتنظيم المخزون الاحتياطي من السلع الأساسية والضرورية للسكان، وتشجيع إنشاء الصوامع والمطاحن ووحدات الخزن لمادة القمح ومشتقاتها".
ويفرض القانون على التجار الالتزام بتسيير أنشطتهم التجارية بما من شأنه تحقيق المنافسة الحرّة والابتعاد عن الاحتكار لتحقيق وتأمين حاجة المستهلك من مختلف البضائع، ويلزمهم بإشهار أسعار البضائع أمام المستهلك باستخدام وسائل الإعلان المختلفة بما يسهل على المشتري معرفة السعر.
كما يعطي القانون وزارة الصناعة والتجارة حق مراقبة التخفيضات الموسمية وغير الموسمية للتحقق من حدوثها بصورة فعلية، وأنها تحقق مصلحة للمستهلك، لكن تبريرات التجار الحالية تحت مسمى "المخزون السابق" قد لا تجد ضبطية على الواقع.

الخروج من الأزمة:
يظل السؤال الذي يطرح نفسه: كيف ستتعامل الحكومة مع أزمة الغذاء؟ التي هي جزء من أزمة عالمية دفعت العديد من دول العالم إلى طرح خطط وبرامج لمواجهتها.
التصريحات الحكومية، في هذا الصدد، تطرقت لمواضيع: "المتابعة وحصر الكميّات ورصد التعاقدات الجديدة وأسعارها وكمياتها للتأكد من سير عملية التسعيرة بالشكل الطبيعي".
وزير الزراعة، الدكتور منصور الحوشبي، أكد على مساعٍ يمنية لتنفيذ خطة لرفع إنتاج الحبوب إلى 5 آلاف طن العام المقبل.
لكن الإحصاءات الأخيرة تشير إلى ارتفاع الواردات اليمنية من هذه السلعة الأساسية، وبحسب دراسة أعدّها مدير إدارة التجارة الخارجية بوزارة الصناعة والتجارة، فؤاد هويدي، نشرت نهاية يوليو للعام الماضي فإن حجم الاستهلاك المحلي من القمح ارتفع منذ عام 2003 إلى عام 2006 بنسبة 60 بالمائة.
وأظهرت الدراسة زيادة حجم الواردات من القمح من1.638.970 طنا، وبقيمة قدرها 37.298 مليار ريال عام 2003، إلى 2.941.334 طنا، وبقيمة قدرها 70.242 مليار ريال للعام 2006، وبمعدل زيادة قدرها 79 بمائة، وبمتوسط معدل زيادة سنوية قدرها 26.3 بالمائة من الكمية وبمتوسط زيادة سنوية قدرها 29.4 بالمائة من القيمة .
وأرجعت الدراسة أسباب ارتفاع أسعار القمح إلى جانب الأسباب العالمية إلى عدم قدرة الإنتاج المحلي من السلع الأساسية الغذائية والتنموية من الوفاء باحتياجات الاستهلاك المحلي، وبخاصة من القمح، حيث لا يغطي الإنتاج المحلي منه في المتوسط سوى 5.56 بمائة من حجم الاستهلاك السنوي، والباقي قدره 94.44 بالمائة يتم استيراده من الخارج .
وأشارت الدراسة إلى أن عدم توفر بيانات دقيقة عن الاحتياجات الاستهلاكية الفعلية من السلع الأساسية يجعل الزيادات الكبيرة في الواردات منها غير مبررة، وتؤثر مباشرة على ارتفاع الأسعار، خاصة وأن متوسط استهلاك الفرد السنوي وصل إلى متوسط قدره 150 كيلوجراما، بفارق عن متوسط الاستهلاك العالمي بحوالي 40 كيلوجراما .
وبحسب الدراسة، فإن التغيير في سعر صرف الريال أمام الدولار الأميركي أدى إلى ارتفاع أسعار السلع الأساسية خلال الفترة 2000 – 2006، بحوالي 16.2 بالمائة، وبمتوسط ارتفاع سنوي قدره 3.24 بالمائة وانتقدت الدراسة اعتماد المورّدين للقمح وأصحاب المطاحن في تحديد أسعار القمح والدقيق على أسعار القمح الأميركي والاسترالي، والذي يرتفع بحوالي 20-25 بالمائة سنويا عن أسعار المصدّرين الجدد للقمح، مثل: روسيا، أوكرانيا، الهند، باكستان، تركيا، الأرجنتين، كولومبيا، وكازاخستان، الذي تنخفض أسعاره بنسبة تتراوح ما بين 20 -20 بالمائة عن الأميركي والاسترالي، في حين نسبة استيراد القمح من روسيا وأوكرانيا يفوق الـ85 بالمائة من حجم استيراد القمح .
وطالبت الدراسة الحكومة بوضع سياسات استيرادية لتنويع مصادر التوريد أو التعاقد والشراء في مواسم الإنتاج بالأسعار والجودة المناسبة والوقت المناسب، وبناء المخزون الاستراتيجي واستكمال البنية القانونية والمؤسسية والإدارية والبشرية والفنية المنظمة للتجارة الداخلية والخارجية؛ لتجنّب ضعف قدرة الجهات الرقابية في التدخل القوي لتحقيق التوازن للأسعار وحماية كل أطراف التعامل في السوق الخاصة بالمستهلك، وحماية المنافسة ومنع الممارسات الاحتكارية.