التربية الصوفية في ميزان الإسلام
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وبعد:
فإن تربية النفس وتزكيتها والسمو بها إلى مكارم الأخلاق إحدى المهمات التي بُعث من أجلها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما قال - عز وجل -: "هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ" [الجمعة: 2]، والذي شرع الغاية لم ينس الوسيلة - حاشاه - قال - تعالى -: "وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا" [مريم: 64]، فقد شرع الله الغاية وبيَّن الوسائل، وفصلها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتم تفصيل وأوضحها أوضح بيان، إننا عندما نستعرض شعائر الإسلام كلها، ونربطها بهذه الغاية، نتبين أنه ليس للتزكية أعمال خاصة من مجموع العبادات، بل الإسلام كله أعماله غايتها التزكية والتقوى، فالصلاة تزكية لقوله - تعالى -: "إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ" [العنكبوت: 45]، والزكاة تزكية، لقوله - تعالى -: "خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا... " [التوبة: 103]، والصوم تزكية، قال - تعالى -: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ" [البقرة: 183]، وبالجملة فالتوحيد والعبادة كلها تقوى وتزكية، قال - تعالى -: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ" [البقرة: 21].
إذن فالطريق الموصل للتقوى هو العبادة، والعبادة توقيفية بإجماع أهل العلم، ولا تثبت إلا بدليل من الكتاب والسنة، إن العبادة المقيدة بالأدلة الشرعية هي الوسيلة إلى تربية النفس وتزكيتها وليس لها أعمال وأفعال خاصة كما هو الحال عند المتصوفة الذين جعلوا محور التربية في تقديس شيخ يدور في فلكه مريد يلبي له ما يريد وعن أمره لا يحيد، كما زعموا أن تهذيب النفس يكون بالذكر المبتدع المفرد والعبادة لله لذاته لا خوفًا من عذابه ولا طمعًا في ثوابه؛ ضاربين بالنصوص الشرعية عرض الحائط كما يظهر في كتبهم من خلال هذا المقال الذي نبين فيه زيف ما اعتقدوه وضلال ما اعتنقوه:
أولاً: الشيخ المرشد وعلاقته بالمريد
وحتى يحقق التصوف مآربه ألبس رجالاته هالة العصمة، وأوجب على المريد أن يتخذ شيخًا، ليرشده إلى الطريقة، ويدله على الحقيقة.
قال القشيري: «يجب على المريد أن يتأدب بشيخ، فإن لم يكن له أستاذ لا يفلح أبدًا، هذا أبو يزيد يقول: من لم يكن له أستاذ؛ فإمامه الشيطان». [الرسالة القشيرية: ص181].
والعجيب أن من أهم آداب المريد أن يكون مع شيخه كالميت بين يدي مغسله.
قال الغزالي: «وأن لا يخالف شيخه في كل ما يشير». [إحياء علوم الدين: 3/75].
وقال أيضًا: «ومهما أشار عليه المعلم بطريق في التعلم فيقلده، وليدع رأيه؛ فإن خطأ مرشده أنفع له من صوابه في نفسه». [إحياء علوم الدين 1/50].
وقال: «فمعتصَم المريد بعد تقديم الشروط المذكورة شيخه، فليتمسك به تمسك الأعمى على شاطئ النهر بالقائد، بحيث يفوض أمره إليه بالكلية، ولا يخالفه في ورده ولا صدره، ولا يبقى في متابعته شيئًا ولا يذر، وليعلم أن نفعه في خطأ شيخه لو أخطأ أكثر من نفعه في صواب نفسه لو أصاب». [إحياء علوم الدين 3/76].
وقال علي وفا: «المريد الصادق مع شيخه كالميت مع مغسله، ولا كلام، ولا حركة، ولا يقدر أن ينطق بين يديه من هيبته، ولا يدخل، ولا يخرج، ولا يخالط أحدًا، ولا يشتغل بعلم ولا قرآن ولا ذكر إلا بإذنه». [الأنوار القدسية 1/187].
فلا تعدو عيناه تريد أخذ العلم الصوفي عن شيخ آخر.
قال ابن عربي: «إن من شرط الإمام الباطن أن يكون معصومًا، وليس الظاهر إن كان غيره يكون له مقام العصمة». [الفتوحات المكية 3/183]. وقال القشيري: «من أجلِّ الكرامات التي تكون للأولياء دوام التوفيق للطاعة والعصمة من المعاصي والمخالفات». [الرسالة القشيرية ص160].
وقال في «الفتوحات المكية»: «أحسن الظن ولا تنتقد بل اعتقد، وللناس في هذا المعنى كلام كثير، والتسليم أسلم، والله بكلام أوليائه أعلم». ويقول أيضًا:
ما حرمة الشيخ إلا حرمة الله *** فقم بها أدبًا لله بالله
هم الأدلاء والقربى تؤيدهم *** على الدلالة تأييدًا على الله
كالأنبياء تراهم في محاربهم *** لا يسألون من الله سوى الله
فإن بدا منهم حال تولّهم *** عن الشريعة فاتركهم مع الله.
(الفتوحات المكية: باب 181).
سبحان الله كيف يكون التولي عن الشريعة معية مع الله؟!
يقول محمد أمين الكردي: «.. ومنها أن لا يعترض عليه فيما فعله، ولو كان ظاهره حرامًا، ولا يقول: لم فعل كذا؟ لأن من قال لشيخه: لم؟ لا يفلح أبدًا، فقد تصدر من الشيخ صورة مذمومة في الظاهر وهي محمودة في الباطن». [تنوير القلوب: ص528].
ولذلك زخرت كتب المتصوفة بحكايات لترسيخ هذه الأكاذيب في قلوب المريدين المخدوعين.
قال القشيري في باب حفظ قلوب المشايخ وترك الخلاف عليهم: «ومن المشهور أن عمر بن عثمان المكي رأى الحسين بن منصور (هو الحلاج)، يكتب شيئًا، فقال: ما هذا؟ فقال: هو ذا أعارض القرآن! فدعا عليه وهجره، قال الشيوخ: إن ما حلَّ به بعد طول المدة كان لدعاء ذلك الشيخ عليه». [الرسالة القشيرية ص151].
وكذلك كثرت في كتبهم حكايات تروِّج للفساد لأنهم ضمنوا سكوت المريدين ومنها على سبيل المثال لا الحصر:
صوفي يشرب الخمر
قال الدباغ: «يتصور في طور الولاية أن يقعد الولي مع قوم يشربون الخمر، وهو يشرب معهم فيظنونه شارب خمر، وإنما تصورت روحه في صورة من الصور وأظهرت ما أظهرت». [الإبريز 2/41].
وقال: «إن الولي الكبير فيما يظهر للناس يعصي، وهو ليس بعاصٍ، وإنما روحه حجبت ذاته، فظهرت في صورتها، فإذا أخذت في المعصية فليست بمعصية». [الإبريز 2/41].
هكذا تُروِّج كتب المتصوفة للرذيلة وتقرر أنها فضيلة.
وكتب المتصوفة مليئة بمثل هذه الخرافات، مشحونة بتلك الترهات التي سموها كرامات، ليضلوا بها الأمة عن سبيل الله، إن هذه الأمثلة والأقوال سردها يكفي في نقضها ودحضها، لكن يلاحظ المستقرئ للطريقة الصوفية أن الشيخ أهم أركانها كما قالوا:
وصحبة شيخ هي أصل طريقهم
فما نبتت أرض بغير فلاحة
نور الوحي يبدد أوهام الصوفية
ولو عرضنا ما سبق من ضلالات والتي جعلت من الشيخ الصوفي مواصفات إله كما هو ظاهر من أقوال أقطابهم وعارفيهم، على الكتاب والسنة لوجدناها هي الباطل بعينه.
1- فالآيات الدالة على وجوب التحاكم إلي كتاب الله وسنة رسوله، كقوله - تعالى -: "فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ" [النساء: 59] وقوله: "وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ" [الشورى: 10].
هذه الآيات واضحة لا لبس فيها في وجوب الرجوع إلى كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ولكن الصوفية يردون كل شيء إلى شيوخهم ولو خالفوا إجماع أهل العلم والدليل الصحيح الصريح، وتأمل قول علي المرصفي الذي يزعم المتصوفة أنه قرأ في يوم وليلة ثلاثمائة وستين ألف ختمة: « وإن قال للمريد: إن كلام شيخه معارض لكلام العلماء أو دليلهم فعليه الرجوع إلى كلام شيخه، وإذا خرج المريد عن حكم شيخه وقدح فيه فلا يجوز لأحد تصديقه، إنه في حال تهمة، لارتداده عن طريق شيخه » (الطبقات الكبرى 2/128).
انظر أيها القارئ كيف يصادرون علم العلماء الذين هم ورثة الأنبياء وبنص حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -.
2- قال الله - تعالى -: "أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلاَ كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ " [الشورى: 21].
إن كلمات شيوخ المتصوفة مليئة بتشريع ما لم يأذن به الله، واقرأ إن شئت كلمة أحمد الرفاعي أحد الأقطاب عند المتصوفة الذي يزعم المتهوكون أن كراماته تسري في أتباعه من بعده: « من يذكر الله بلا شيخ، لا الله له حصل، ولا نبيه، ولا شيخه»
(قلادة الجواهر ص 177).
أليس هذا تشريعًا مضادًا لدين الله؟!
وإن تعجب فعجب ضمان التيجاني الجنة لمن رآه أو أطعمه لقمة خبز يقول: « أخبرني سيد الوجود يقظة لا منامًا، قال لي: أنت من الآمنين، وكل من رآك من الآمنين، إن مات على الإيمان، وكل من أحسن إليك بخدمة أو غيرها، وكل من أطعمك يدخلون الجنة بلا حساب ولا عقاب » (جواهر المعاني 1/97).
أليس هذا تشريعًا لم يأذن به الله؟! بل هو قول على الله بغير علم، وكذب وافتراء على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي قال: «من كذب عليَّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار». فماذا بعد الحق إلا الضلال؟!
3- قال الله - تعالى -: "وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ" [البقرة: 165].
نعم لقد اتخذ المتصوفة من شيوخهم أندادًا يحبونهم كحب الله بل أشد حبًا، كما تدل علي ذلك أقوالهم.
قال علي وفا: «فكما أن الله لا يغفر أن يُشرك به، فكذلك محبة الأشياخ لا تسامح أن يشرك بها » (الأنوار القدسية 1/187).
وهذا الشعراني يقول: « سمعت أخي أفضل الدين - رحمه الله - يقول: حقيقة حب الشيخ أن يحب الأشياء من أجله، كما هو الشأن في محبة ربنا - عز وجل - » (الأنوار القدسية 1/169).
وقال علي اليشرطي: « الطريق: ذكر الله، ومحبة الشيخ » (نفحات الحق ص 97).
هذه أقوالهم ظاهرة الدلالة على أنهم جعلوا محبة الأشياخ فوق محبة رب العباد، فالويل لهم يوم التناد: "وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ (166) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ" [البقرة: 165 -167].
ثانيًا: الذكر الصوفي بدع ومنكرات
تقوم فلسفة الذكر عند المتصوفة على ترديد كلمة ما بشكل مستمر دون انقطاع، ويا ليتها وردت في أي نص شرعي.
والذاكر يقوم بترديد أي كلمة أو جملة بصورة مستمرة:
قال ابن عطاء الله السكندري: « أما المسلوب الاختيار فهو مع ما يرد عليه من الأذكار وما يرد عليه من جملة الأسرار، فقد تجري على لسانه « الله الله الله »، أو « هو هو هو هو » أو « لا لا لا لا »، أو « آه آه آه آه » أو صوت بغير حرف، أو تخبط، فأدبه التسليم للوارد، وبعد انقضاء الوارد يكون ساكنا ساكتا، وهذه الآداب لمن يحتاج إلي ذكر اللسان، أما الذاكر بالقلب فلا يحتاج إلي هذه الآداب».
(مفتاح الفلاح ص 30 -31).
وقال الشعراني: « وقال سيدي يوسف العجمي - رحمه الله -: وما ذكروه من آداب الذكر محله الذاكر الواعي المختار، أما المسلوب الاختيار فهو مع ما يرد عليه من الأسرار، فقد يجري علي لسانه: » الله الله الله الله « أو » هو هو هو هو » أو « لا لا لا » أو « آه آه آه آه » أو «عا عا عا عا » أو «آ آ آ آ » أو « هـ هـ هـ هـ » أو « ها ها ها ها » أو صوت بغير حرف أو تخبيط، وأدبه عند التسليم للوارد ».
(الأنوار المقدسة 1/39).
وقال ابن عربي: « فاغلق بابك دون الناس، وكذلك باب بيتك بينك وبين أهلك، واشتغل بذكر الله بأي نوع شئته من الأذكار، وأعلاها الاسم المفرد، وهو قولك: «الله الله الله ». (رسالة الأنوار ص6).
ما الدليل على هذا كله؟!
ويؤكد هذا ابن سبعين فيقول: « وجميع ما توجه الضمير إليه اذكره به و لا تبالي، وأي شيء يخطر ببالك سمه به ومن اسمه «الوجود» كيف يخصص بأسماء منحصرة؟! هيهات! الله لا اسم له إلا الاسم المطلق أو المفروض، فإن قلت: نسميه بما يسمي به نفسه أو نبيه، يقال لك: إن من سمي نفسه الله قال لك: أنا كل شيء، وجميع من تنادي أنا … وبعضهم كان يقول: قد قد قد هذا هذا هذا له له له ».
(رسائل ابن سبعين ص 184).
ونحن نسأل: أين قال الله هكذا (وجميع من تنادي أنا؟!)
وبذلك يتبين أن حقيقة الذكر الصوفي ليست مرتبطة بذكر الله - سبحانه - … وأما التزامهم الاسم المفرد فهو لإلباس التصوف لباس الإسلام … ومع ذلك فالذكر بالاسم المفرد بدعة لم يرد بها كتاب ولا سنة.
وأما احتجاجهم بعموميات في القرآن كقوله تعالي: "وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً "[سورة المزمل: 8]،
سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى [الأعلى: 1] فلا يدل علي جواز الذكر بالاسم المفرد، لأن تسبيح الله وذكره لا يكون إلا بالكلام التام المفيد، والاسم المفرد لا يحقق ذلك. وانظروا إلى أذكار الرسول - صلى الله عليه وسلم - هل تجدون فيها ما يقولون؟!
ويحتج آخرون بقوله تعالي: "قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ " [سورة الأنعام: 91].
زاعمين أن الله أمر نبيه بأن يقول الاسم المفرد. وهذا و هم، وتحريف للكلم عن موضعه فإن قوله - تعالى -: "قُلِ اللَّهُ. جواب لقوله: "قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى". الآية، أي: الله الذي نزل الكتاب رد بذلك قول من قال: "مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ" [الأنعام: 91]. ومن ذلك يتبين أن الاسم (الله) مذكور في الأمر بجواب الاستفهام، فالاسم « الله » مبتدأ خبره دل عليه الاستفهام كقولك من صديقه؟ فيقول: زيد.
وقد فند شيخ الإسلام ابن تيميه - رحمه الله - جميع أدلتهم على المسألة في رسالة العبودية (ص 158-169) وقال في نهاية كلامه القيم:« المقصود هنا أن المشروع في ذكر الله - سبحانه - هو ذكره بجملة تامة،وهو المسمى بالكلام، والواحد منه بالكلمة، وهو الذي ينفع القلوب، ويحصل به الثواب والأجر، ويجذب القلوب إلى الله ومعرفته، ومحبته وخشيته، وغير ذلك من المطالب العالية، والمقاصد السامية.
وأما الاقتصار على الاسم المفرد مظهرًا أو مضمرًا فلا أصل له، فضلاً عن أن يكون من ذكر الخاصة والعارفين، بل هو وسيلة إلي أنواع البدع والضلالات، وذريعة إلى تصورات وأحوال فاسدة من أحوال أهل الإلحاد وأهل الاتحاد ». انتهى.
ويكفى في رد هذه البدعة قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: « أفضل الذكر لا إله إلا الله، وأفضل الدعاء الحمد لله». (أخرجه ابن ماجه والترمذي وحسنه الألباني).
ولذلك كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمر بقولها، وكان يقولها في دبر كل صلاة، وكان يقولها إذا قام من الليل.
الذكر عبادة توقيفية
الذكر عبادة من أفضل العبادات، وأعظم الطاعات والعبادة تحتاج إلي نص صحيح صريح وإلا فلا تكون عبادة … أما مشايخ الصوفية فقد أراد كل منهم أن ينصب نفسه مشرعًا لمريديه فوضع لهم من الأذكار ما ليس فيه أثر عن خير البشر محمد - صلى الله عليه وسلم - … وحاول كل منهم أن يجذب مريديه بشتى الطرق ومختلف الوسائل، فمنهم من زعم أن ورده أخذه عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - منامًا، ومنهم من ادعى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعطاه ورده يقظة، ومنهم من زعم أن الخضر هو الذي علمه الأذكار … إلخ.
ولكل طريقة وردٌ خاص بها تفضله على جميع الأوراد الأخرى والطرق الأخرى، ولهذا تعددت صيغ الذكر الصوفي تبعا لتعدد الطرق وتباين الشيوخ، وكل شيخ يحرم على مريديه أن يذكروا بغير ما أذن لهم فيه أو أن يذكروا مع الطرق الأخرى... إن هذا الاختلاف الكبير دليل علي أن هذه الأذكار ليست من دين الله في شيء: "وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا " [سورة النساء: 82].
من نور النبوة
صور من الذكر النبوي
تأمل أخي القارئ في نور الوحي وجلاله من خلال جمال الذكر النبوي، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «سيد الاستغفار أن تقول: اللهم أنت ربي، لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك عليَّ وأبوء بذنبي، فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت».
عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول إذا قام إلى الصلاة من جوف الليل: «اللهم لك الحمد، أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد، أنت قيوم السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد، أنت رب السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد، أنت الحق، ووعدك الحق، وقولك الحق، ولقاؤك حق، والجنة حق، والنار حق، والنبيون حق، ومحمد - صلى الله عليه وسلم - حق، والساعة حق، اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت، فاغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، أنت إلهي لا إله إلا أنت ولا حول ولا قوة إلا بك». متفق عليه.
أرأيت إلى هذا الذكر النبوي الجامع؟ إنها ضراعة النبوة والعبودية الخالصة تفتحت لها أبواب السماء، ما فيه ذكر مفرد، ولا ضرب صدر بذقن ولا هزة الرأس إلى أخمص القدم، وما فيه التناوح بالرأس يمنة ويسرة، ولا نتع من سرة إلى قلب، ما فيه منشد ولا دف، ما فيه دائرة يقف في مركزها نُصُب يُرَقِّص الذاكرين بتصديته إنما فيه قلب مؤمن ضارع، ملأه حب الله خشية ورهبة وتقوى يتوجه إلى خالقه الأعظم، مالك الملك كله في إيمان صادق، وتوحيد خالص، فصلوات الله على محمد عبد الله ورسوله.
ثالثًا: طلب الجنة والفرار من النار منقصة عظيمة عند الصوفية
يعتقد الصوفيون أن طلب الجنة والفرار من النار منقصة عظيمة في حق العابد، وإنما الطلب عندهم والرغبة لديهم - زعموا - في الفناء في الله، ويقولون: من عبد الله رغبة فتلك عبادة التجار، ومن عبده رهبة فتلك عباده العبيد، ومن عبد الله حبًا فتلك عبادة الأحرار.
قال الكلاباذي: «في قوله: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ [سورة التوبة: 111]. «لتعبدوه بالرق لا بالطمع»
(التعرف لمذهب أهل التصوف ص141).
وقال: «دخل جماعة على رابعة يعودونها من شكوى. فقالوا: ما حالك؟ قالت: والله ما أعرف لعلتي سببًا، غير أني عُرضت عليَّ الجنة فملت بقلبي إليها، فأحسب أن مولاي غار عليَّ، فعاتبني فله العتبى» (المصدر السابق 155).
ويستدل على عقيدة القوم بقوله - تعالى -: "كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ" [سورة الحاقة: 24].
فيقول: « أي الخالية عن ذكر الله، لتعلموا أنه بفضله نلتم لا بأعمالكم » (المصدر السابق ص 142).
من يتفق من أهل الإسلام مع الصوفية في هذا التفسير؟!
ويستدل أيضًا بقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه عن ربه: « الصوم لي وأن أجزي به » فيقول: قال أحد الكبراء: أي: أنا الجزاء به» (المصدر السابق 143).
مَن هذا الكبير؟ هل هو من الصحابة أم من التابعين، أم أنهم الكبراء في عقيدته وطريقته.
الأدلة الدامغة على فساد ما ذهب إليه الصوفية
1- استدلالهم بقوله - تعالى -: "إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ". على أن العبودية بالرق وليس بالطمع في الجنة؛ ساقط من وجوه؛ أظهرها أنه قطع الآية عن نهايتها التي تدحض زعمه، وهي قوله - تعالى -: بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ" [التوبة: 111]،
فالعوض هو الجنة التي رغبهم فيها بعبادتهم.
2- استدلاله بقوله - تعالى -: "كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ " [سورة الحاقة: 24] على أنها الخالية من الذكر باطل يعكس معني الآية، فالله - عز وجل - يقول للمؤمنين يوم القيامة: كلوا واشربوا هنيئًا بسبب ما أسلفتم من الأعمال الصالحة في الأيام الخالية.
3- وأما استدلاله بالحديث فهو تحريف وتخريف، ففي رواية لمسلم بيان لمعنى الحديث: « كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبع مائة قال اللهم إلا الصوم، فإنه لي وأنا أجزي به »، أي: أجر الصيام يضاعفه الله أضعافًا كثيرة فيوفى الصائمون أجرهم بغير حساب.
وهذه العقيدة الصوفية مخالفة لكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - لما يلي:
أ- وصف الله حال الأنبياء وعبادتهم وأنها رغبًا ورهبًا: "وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لاَ تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ" [الأنبياء 89-90].
ب- ووصف الله عباده المخلصين بقوله: " إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ (15) تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ "[السجدة: 15-17]
فهؤلاء الذين ورثوا الفردوس الأعلى وصف الله عبادتهم بأنها كانت خوفًا من عذابه وطمعًا في جنته.
جـ- الخوف من النار والطمع في الجنة يدندن حولها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، فقد قال رجل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: والله إني لا أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ، وإنما أقول: اللهم إني أسألك الجنة وأعوذ بك من النار، فقال له - صلى الله عليه وسلم -: «حولها ندندن » (أخرجه أبو داود وابن ماجه) فهل يتصور المتصوفة أنهم أكمل من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصحبه الكرام؟!
يقول بعض السلف: « من عبد الله بالحب وحده فهو زنديق، ومن عبده بالرجاء وحده فهو مرجئ، ومن عبده بالخوف وحده فهو حروري، ومن عبده بالحب والخوف والرجاء فهو مؤمن موحد.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
http://www.altawhed.com/Detail.asp?InNewsItemID=244241
Bookmarks