المتوكل .. قصة كفاح إستثنائية
-المقدمة-
بقلم: صادق ناشر
المشرف على موقع المتوكل
قبل أكثر من عامين اتصلت بالراحل العزيز يحيى المتوكل ، كان الهدف من الاتصال إجراء حوار صحافي، وكان يعتقد ، كما عرفت بعد وصولي إلى منزله العامر ، أن اللقاء سيكون ككل اللقاءات السياسية التي أجريتها معه في فترة سابقة ويجريها معه آخرون ، لكنه لم يكن يعلم أنني جئت غازياً وطامعاً على غير كل مرة .
قلت له حينها إنني أريد نبش دفاتره القديمة وذاكرته التي كانت لا تزال حية تختزن مئات ، بل آلاف الأسرار ، وأريد منه حواراً مختلفاً هذه المرة ، ابتسم كعادته ، وقال لي إنه مستعد لأي حوار ، يومها مهدت لغزوتي بحديث مطول عن حوارين كنت قد أجريتهما مع الشيخ سنان أبو لحوم وعبدالسلام صبرة ونشرا في " الخليج " تحت عنوان " شهادات القرن " ، ولم يكن الراحل بحاجة إلى مزيد من الشرح ، فقد كان مستوعباً المهمة التي جئت من أجلها .
الذين اقتربوا من يحيى المتوكل يعلمون جيداً كيف كان يتعامل مع ضيوفه ، وأنا هنا لن أضيف شيئاً جديداً إلى ما يعرفه الكثيرون عن يحيى المتوكل ، الإنسان المتواضع أشد التواضع ، المحب لغيره أشد الحب ، الرقيق في تعامله مع الناس أشد الرقة ، فقد كان رحمه الله شديد الإقتراب من مشاعر الناس ، ولم يحدث أن أشعر ضيفه بغير مشاعره الحقيقية ، لأنه في الحقيقة لم يكن يتصنعها .
تحت هذه المشاعر والضيافة الكريمة احتضننا ركن منزو من منزله في لقاءات دامت لمدة سبع ساعات تقريباً في أربع جلسات ولأيام مختلفة شعرت خلالها أنني أعيش الثورة اليمنية بتفاصيلها لحظة لحظة ، وأتعرف على الإنسان والقرية والمدينة والشوارع والشخصيات التي كان لها إسهام كبير في تفجير ثورة السادس والعشرين من سبتمبر المجيدة .
كان يحيى المتوكل في الحوار بمثابة كتاب مفتوح ، قلبت أوراقه من مختلف الزوايا ، وأعترف هنا أنني تجاوزت قراءة بعض الصفحات ، لأنني لم أكن أعلم أن لحظة رحيله ستكون قريبة .
وبعدما أفرغت ما بجوف الأشرطة من حديث وقمت بطباعته أعدته إليه ليقوم بمراجعته ، وأشه هنا أن المتوكل لم يغير شيئاً مما قاله في الأشرطة ، لكنه أضاف أسماء شخصيات نساها في الحديث وكان حريصاً على إعطائها حقها من الوفاء .
وعندما عدت إليه بعد أشهر من نشر الحوار في " الخليج " وإعادة نشره في " الأيام " قلت له إن الحوار أثار الكثير من الإرتياح في أوساط السياسيين وعامة الناس ، وأن لدي الرغبة في إصداره في كتاب ، قال لي بحنان الأب إنه شعر بهذا الإرتياح ، وقد قرر قبل مجيئي إليه الحديث معي حول نفس الفكرة ، لكنه قال إن علي الإنتظار قليلاً ليجهز نفسه ونعيد قراءة الأوراق التي تجاوزناها في كتاب حياته المليئة بالأحداث المتلاحقة .
وتتابعت الأحداث وجاءت محنة رحيل نجله الأكبر أحمد لتعيق مشروعي ، فقد كنت أشعر بالحزن في عينيه وفي نبرات صوته ، على الرغم من أنه كان حريصاً على عدم إظهار ذلك أمام الناس ، ثم جاءت النكبة الأخرى التي هزت الراحل ، وتمثلت في رحيل الأمين العام المساعد للحزب الإشتراكي اليمني جارالله عمر ، والذي كان له بمثابة التوأم السياسي .
وفي آخر اتصال لي به عندما كان في تعز قبل حادثة رحيله بأيام قليلة لم يكن هناك من قضية في حديثنا القصير سوى قضية مقتل جارالله عمر .
وفي صباح ذات يوم الثالث عشر من شهر يناير الماضي والذي صادف يوم الإثنين الأسود ، وهو اليوم نفسه الذي شهد أحداث الثالث عشر من شهر يناير من العام 1986 في مدينة عدن حمل لي الأستاذ محمد غالب أحمد خبر رحيل المتوكل المفاجئ فدارت بي الدنيا وبكيت .
لم استوعب الصدمة يومها ، وأعدت شريط العلاقة الجميلة التي حظيت بها مع الراحل الأحب طوال علاقة امتدت لأكثر من 12 عاماً ؛ فقد كان أول سياسي من العيار الثقيل أتعرف عليه بعد قيام دولة الوحدة وأقترب منها كل هذا الإقتراب ، شريط من الذكريات واللقاءات لا يمكن أن يمحى من الذاكرة مهما مرت عليه السنوات .
اليوم رحل المتوكل ، هذه حقيقة لا يمكن نكرانها أو القفز عليها ، لكن المتوكل الشهم لا يزال يعيش بين جوانحي وفي كل مشاعري ، عندما رحل المتوكل شعرت أنني فقدت شيئاً غالياً في حياتي ، فلم تكن علاقتي بالمتوكل مجرد علاقة صحافي بسياسي كبير ، بقدر ما كانت علاقة أب بإبنه ، فأنا لن أنسى مواقفه الداعمة لي لترتيب أمور حياتي ، فقد كان ، كما كان جارالله عمر رحمه الله كثير السؤال عن أخباري وأخبار أسرتي بين وقت وآخر .
رحل المتوكل وترك في قلوبنا غصة ، فيما تحجرت الدموع في مآقيها ، صحيح أن الناس يرحلون ، إلا أن رحيل المتوكل فاق كل الصدمات التي تعرضت لها في حياتي ، لا زلت أتذكر الساعات الطويلة التي قضيناها في الحوار وخارج الحوار ، لا زلت أتذكر ضحكته المجلجلة البريئة التي كانت تعبر عن صدق في المشاعر وحب الحياة .
اليوم أعيش هذه الذكريات وفي أغلب الأحيان أبكي ، فقد خسرت واحداً من أحب الناس إلى قلبي وأصدقهم إلى نفسي ، كان أكثر الناس نبلاً في المشاعر وصدقاً في التعامل ، فلم يكن ينظر إلى اللون السياسي للذي يقف أمامه ، لم يكن يضع أصدقائه وخصومه معاً في المربع السياسي كما كان يعمل البعض .
كان الإشتراكي لديه ، كما هو حال المؤتمري أو الإصلاحي أو الناصري والبعثي ، لذلك عندما رحل بكاه الجميع أحزاباً وأفراداً ، فما أن يذكر يحيى المتوكل حتى يبدأ الجميع بسرد ذكرياتهم معه ، يتذكرون الذكريات الجميلة التي جمعتهم به ولحظات الصدق التي تعامل بها معهم .
الكتاب الذي بين يديك عزيزي القارئ هو خلاصة لمسيرة كفاح لحياة المتوكل تمتد من الأربعينات إلى أواخر التسعينيات من القرن الماضي ، فيها الكثير من المحطات الهامة التي تعكس حالة البؤس التي عاشتها اليمن في فترة ما قبل الثورة وما بعدها .
في الحوار نجد يحيى المتوكل شاهداً حياً ومشاركاً في قلب الأحداث ، بدءاً من دخوله كلية الطيران ، مروراً بإلتحاقه بتنظيم الضباط الأحرار ومساهمته في قيام الثورة وصولاً إلى التحديات الكبيرة التي عاشتها الثورة في أحلك ظروف اليمن ، فقد كان المتوكل في قلب الأحداث والمعارك في مختلف الجبهات للذود عن الثورة ، الصمود في وجه الملكيين أثناء حصار صنعاء ، وفي السلم كان المتوكل رجل سلم ، قاد مع محسن العيني لواء المصالحة الوطنية لعودة اللحمة اليمنية التي تمزقت أوصالها في الحرب اللعينة وفي الحرب الأهلية الأخيرة كان المتوكل صاحب رؤية ناضجة تسعى إلى الحل وتجنب الحرب .
في الحوار قدم شهادات لا يمكن أن يقدمها إلا يحيى المتوكل ، وتبقى شهاداته عن مرحلة حكم الرئيس إبراهيم الحمدي واحدة من الشهادات القليلة جداً التي تنشر عن هذه المرحلة الهامة من تأريخ اليمن .
عندما كان يصل مع أصدقائه إلى طريق مسدود كان يفضل الإنسحاب إلى الخارج حتى لا يخسرهم ويخسروه ، حدث ذلك أكثر من مرة ، بخاصة مع صديقه إبراهيم الحمدي وفي أكثر من مرحلة ، وعمل سفيراً في القاهرة ، باريس وواشنطن وغيرها ، وفي كل مرة كان المتوكل صاحب النظرة الثاقبة للأحداث .
كان المتوكل في الحوار صادقاً مع نفسه ومع محاوره ومع التأريخ ، وعندما نشرت المقابلة في " الخليج " ومن ثم " الأيام " شعرت كم كان الرجل عظيماً ، وكم كانت ردود الأفعال عليها مبهجة ، كان ربما ذلك مصدر سرور لي أكثر ، لأن هذه المقابلة أو " الشهادة الإستثنائية " كما أسميتها في الحوار ، منحتني مزيداً من الثقة في التعامل مع الحوارات التي أجريتها مع آخرين .
ومن الصدف الغريبة التي حركتها حادثتا إغتيال جارالله عمر ورحيل يحيى المتوكل أنني أجريت الحوارين معهما في وقت واحد ، لم يفصل بينهما سوى أيام قليلة فقط ، لكن نشر المقابلتين تمتا بزمنين مختلفين ، فقد شاءت الصدف أن تنشر " الخليج " حوار المتوكل بعد إرساله بثلاثة أسابيع ، لكنها أجلت حوار جارالله عمر إلى ما بعد يوم من إغتياله ، وحتى اللحظة لم أعرف السبب وراء هذا التأجيل .
في مثل هذا الوقت الفاجع بعد رحيل المتوكل أشعر وكأن شيئاً ما انتزع من حياتي ، صحيح أن الأعمار بيد الله ، لكن القدر كان أسرع هذه المرة وخطف الأحبة واحداً تلو الآخر .
صحيح أن الموت حق ، إلا أنه خطف منا أجمل الناس الذين كانوا يضيفون إلى حياتنا شيئاً من البهجة .
رحل المتوكل هامة شامخة يسبقها حب الناس وودهم ، رحل في وقت كنا في أشد الحاجة إليه ، لكن عزاؤنا في نجليه محمد وعلي الذين سيرثان المتوكل السياسي ، المتوكل الحكيم ، وعزاؤنا في الأفكار التي أبقاها الرجل مغروسة في حياتنا ، وفي الجيل الجديد الذي لم يتعرف على الثورة أكثر من تعرفه عليها من المتوكل .
أيها الراحل الخالد ، ها أنت قد رحلت وتركت لنا حسرة وألماً ودموعاً وذكرى ، يوم ما سنلقاك ونعيد الذكريات ونروي لك صور الوفاء التي عبر عنها الناس يوم ووري جثمانك الطاهر الثرى في مقبرة الشهداء .
الوفاء لك أن نتمثل أفكارك ونستلهم من سفر نضالك الطويل زاداً لمواصلة النضال من أجل غد لليمن واليمنيين ، كما كنت تتمناه .
أيها الغالي ، أيها الحبيب الأعز ، رحلت دون وداع وتركت لنا الدموع ، لكنك باق حياً في القلوب ، فلك الرحمة كل الرحمة ولنا الصبر كل الصبر على تحمل هذا الرحيل الفاجع .
28 فبراير 2003
Bookmarks