اعتبرت رسالة الإسلام نقطة تحول في حياة العرب * كان هذا التحول * تحولاً على جميع الأصعدة السياسية والعسكرية والاقتصادية والثقافية والمعرفية والإجتماعية .
الإسلام ... هذا القادم الجديد * تدخل في أدق تفاصيل الحياة العربية بما فيها الشعر * حيث اتخذ الإسلام موقفاً عدائيا من الشعر * لاسيما الشعر الذي حارب الدعوة الإسلامية وناصبها العداء * هذا من ناحية * ومن ناحية أخرى ، عادى الشعر الذي لا يدعو للأخلاق والقيم النبيلة * منفراً من الكلام البذيء * لكنه في الوقت نفسه حث الشعراء من المسلمين على قول الشعر للدفاع عنه كصوت إعلامي مدوٍّ في أرجاء الجزيرة العربية * وقد أجاز الرسول – صلى الله علية وسلم – حسان بن ثابت لقول الشعر * وقدمه على غيره من شعراء المسلمين * وكان الرسول في بعض الأوقات يستمع لبعض الشعر * ويستحسنه ويجيده . وهو مع هذا لا يقول الشعر * حيث قال تعالي في سورة يس – 69 " وما علمناه الشعر وما ينبغى له " . إن هذا النفي – نفى الشعر – عن الرسول عائد إلى أنه سبحانه وتعالي وصف الشعراء بالطيش والسفه إذ يقولون ما لا يفعلون * كما أنهم معروفون منذ القدم بالغلو والكذب سواء في المدح أو الهجاء * ويرى السيوطي في المزهر أن علماء العروض أجمعوا على اعتبار أنه لا فرق بين صناعة الإيقاع وصناعة القريض . أي أنه هناك توافق كما يشير السيوطي بين الصناعيتين * صناعة الغناء وصناعة الشعر * وقد كان الأعشى الشاعر الجاهلي المعروف يعرف بصنّاجة العرب ، لأنه كان يضرب على الصنج لإجادة شعره وتناغم ألفاظه * وهي آلة موسيقية كانت معروفة في زمانه * كما أن هناك ارتباطًا عند العرب بين الشعر والجن * حيث اعتبروا أن عملية إبداع القصيدة نابعة عن قوة الشيطان الذي كان يلازم هذا الشاعر أو ذاك * وقد وضح هذا الاعتقاد الشاعر الأموي الفرزدق * إذ قال : " إن للشعر شيطانان يدعى أحدهما الهوبر والآخر الهوجل * فمن انفرد به الهوبر جاد شعرة ووضح كلامه * ومن انفرد به الهوجل فسد شعره " * فلو كان الرسول شاعراً لاعتبر المشركون ما ينزل عليه من القرآن من وحي شعره ومما ينفثه الشيطان لصاحبه * لهذا فقد أبعد الله صفة الشعر عن رسوله الكريم – صلى الله علية وسلم – ليكون هذا القرآن معجزة بحد ذاته يترفع عن الشعر ونظم الشعراء .
لكن كيف نوفق بين هذا الكلام * وقول رسول الله في إحدى غزواته
كيف نوفق بين هذا الكلام السابق * وهذا القول * وهو من مجزوء بحر الرجز
أنـن نبـىيُ لا كـذب
متفـعـلـنمتفـعـلـن
انب نعـبدل مط طلب
متفـعـلـنمستفعـلـن
إن الشاعر ليس من يقول البيت أو البيتين أو الثلاثة كما تقول المصادر الأدبية * بل الشاعر هو من يملك ملكة الشعراء * وتتوفر فيه الشاعرية الكامنة في داخلة * التي تمكنه وتدفعه لقول الشعر * أي أن الشعر نتاج طبيعي لملكة الشعر * وفي هذا الكلام ليس انتقاصًا من فضل الرسول * أو التقليل من مكانته * فهو أفصح العرب كما قال عن نفسه * وهو الصادق المصدوق * فالرسول يتذوق الشعر * وقد وضع له أسس جديدة لم تعرفها العرب * على الرغم من عدم معرفته بأوزانه وقوافيه * وهذا هو الإعجاز والتحدي الرهباني لعموم العرب وخاصتهم *إذ أخرص ألسنه شعائرهم * وكمم أفواه خطبائهم في هذا القرآن العظيم * وفي بلاغة وفصاحة هذا النبي الكريم الذي لا يجيد الشعر . لهذا لم يكن الرسول شاعراً لأنه لا يملك هذه الملكة * رغم قوله لهذا البيت * ثم أن البيت الذي قاله * وهو من مجزوء الرجز * لا يعد شعراً في مقياس العالمين بفنون الشعر * فهناك فرق واضح بين الراجز والشاعر * وكل من اقتصر شعره على بحر الرجز ومشتقاته يعتبر راجزاً .
لقد حضر الشاعر المعروف بشار بن برد مجلس عتبة بن سلم * وكان الراجز عقبة بن رؤية بن العجاج – وهم كلهم رجاز – ينشده رجزاً يمتدحه فيه * فاستحسن بشار هذه الأرجوزة * فقال له عقبة : هذا طراز لا تحسنه أنت يا أبا معاذ * فرد عليه بشار : ألِمثْلي يقال هذا * أنا والله أرجز منك ومن أبيك ومن جدك * ثم رجع بشار إلى عتبة في اليوم التالي * وأنشده أرجوزته التي يقول في مطلعها
فلو كان الرجز شعراً لما حصل هذا التنافر ، ولما حدث هذا التحدي * ولم يقف حد علماء العربية عند هذا الحد * وهو وصف الناظم على بحر الرجز دون سواه بالراجز بل أطلقوا على هذا البحر لقب " حمار الشعراء " وما يجوز على الحمار لا يجوز على غيره * لأنه يتحمل من الزحافات والعلل ما لا يتحمله أيّ بحر سواه .
من خلال عرض ما سبق ذكره تتضح لنا الحكمة الإلهية من نفي الشعر عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم -
منقول ؟
Bookmarks