لمّا حجّ هشام بن عبد الملك في أيّام أبيه عبد الملك، طاف بالبيت الحرام، وجهد أنْ يصل إلى الحجر الأسود ليستلمه فلم يقدر على ذلك لكثرة الزحام، فَنُصب له كرسي وجلس عليه ينظر إلى الناس ومعه جماعة من أعيان الشام، فبينما هو كذلك إذ أقبل الإمام زين العابدين عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب فطاف بالبيت، فلمّا انتهى إلى الحجر الأسود تنحّى له الناس حتّى استلم الحجر، فقال رجل من أهل الشام لهشام بن عبد الملك: مَن هذا الذي هابه الناس هذه الهيبة؟ فقال هشام: لا أعرفه، مخافة أنْ يرغب فيه أهل الشام.
وكان الشاعر العربي المسلم المعروف الفرزدق حاضراً في ذلك الموقف، فقال بقوّة واعتداد أنا أعرفه، ثم اندفع بهذه القصيدة المشهورة:
________________________________________

هذا الذي تعرف البطحاء وطأته ... و البيت يعرفه و الحل و الحرم

هذا ابن خير عباد الله كلهم ... هذا التقى النقي الطاهر العلم

هذا ابن فاطمةٍ إن كنت جاهله ... بجده أنبياء الله قد ختموا

و ليس قولك : من هذا ؟ بضائره ... العرب تعرف من أنكرت و العجم

كلتا يديه غياثٌ عم نفعهما ... يستوكفان و لا يعروهما عدم

سهل الخليقة لا تخش بوادره ... يزينه اثنان حسن الخلق و الشيم

حمال أثقال أقوامٍ إذا افتدحوا ... حلو الشمائل تحلو عنده نعم

ما قال : لا ، قط إلا في تشهده ... لولا التشهد كانت لاءه نعم

عم البرية بالإحسان فانقشعت ... عنها الغياهب و الإملاق و العدم

إذا رأته قريشٌ قال قائلها ... إلى مكارم هذا ينتهي الكرم


يغضي حياءً و يغضى من مهابته ... فما يكلم إلا حين يبتسم

بكفه خيزرانٌ ريحه عبقٌ ... من كف أروع في عرنينه شحم

يكاد يمسكه عرفان راحته ... ركن الحطيم إذا ما جاء يستلم

الله شرفه قدماً و عظمه ... جرى بذاك له في لوحه القلم

أي الخلائق ليست في رقابهم ... لأولية هذا أو له نعم

من يشكر الله يشكر أولية ذا ... فالدين من بيت هذا ناله الأمم

ينمى إلى ذروة الدين التي قصرت ... عنها الأكف و عن إدراكها القدم

من جده دان فضل الأنبياء له ... و فضل أمته دانت له الأمم

مشتقةٌ من رسول الله نبعته ... طابت مغارسه و الخيم و الشيم


ينشق ثوب الدجى عن نور عزته ... كالشمس تنجاب عن إشراقها الظلم

من معشرٍ حبهم دينٌ و بغضهم ... كفرٌ و قربهم منجىً و معتصم

مقدمٌ بعد ذكر الله ذكرهم ... في كل بدءٍ و مختومٌ به الكلم

إن عد أهل التقى كانوا أئمتهم ... أو قيل : من خير أهل الأرض قيل هم

لا يستطيع جوادٌ بعد جودهم ... و لا يدانيهم قومٌ و إن كرموا

هم الغيوث إذا ما أزمةٌ أزمت ... و الأسد أسد الشرى و البأس محتدم

لا ينقص العسر بسطاً من أكفهم ... سيان ذلك إن أثروا و إن عدموا

يستدفع الشر و البلوى بحبهم ... و يسترب به الإحسان و النعم