Page 3 of 4 FirstFirst 1234 LastLast
Results 25 to 36 of 43

Thread: ......... تفسير القران الكريم................

  1. #25


    Join Date
    May 2008
    Location
    يمنيه وافتخر........ حاليا خارج اليمن
    العمر
    35
    Posts
    6,090
    Rep Power
    334

    رد: ......... تفسير القران الكريم................

    إباحة تعدد الزوجات ووجوب إيتاء المهر



    {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلا تَعُولُوا(3)وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا(4)}



    ثم أرشد تعالى إِلى ترك التزوج من اليتيمة إِذا لم يعطها مهر المثل فقال {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} أي إِذا كانت تحت حَجْر أحدكم يتيمة وخاف ألا يعطيها مهر مثلها فليتركها إِلى ما سواها فإِن النساء كثير ولم يضيّق الله عليه {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} أي انكحوا ما شئتم من النساء سواهنَّ إِن شاء أحدكم اثنتين وإِن شاء ثلاثاً وإِن شاء أربعاً.

    {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} أي إِن خفتم من عدم العدل بين الزوجات فالزموا الاقتصار على واحدة {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} أي اقتصروا على نكاح الإِماء لملك اليمين إِذ ليس لهن من الحقوق كما للزوجات {ذَلِكَ أَدْنَى أَلا تَعُولُوا} أي ذلك الاقتصار على نكاح الإِماء لملك اليمين أقرب ألا تميلوا وتجوروا {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} أي أعطوا النساء مهورهنّ عطيةً عن طيب نفسٍ {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا} أي فإِن طابت نفوسهن بهبة شيءٍ من الصَّداق {فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} أي فخذوا ذلك الشيء الموهوب حلالاً طيباً.



    الحجر على السفهاء والصغار وعدم تسليم المال إليهم إلا عند الرشد



    {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفًا(5)وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا(6)}



    {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} أي لا تعطوا المبذرين من اليتامى أموالهم التي جعلها الله قياماً للأبدان ولمعايشكم فيضيعوها. قال ابن عباس: السفهاء هم الصبيان والنساء. وقال الطبري: لا تؤتِ سفيهاً ماله وهو الذي يفسده بسوء تدبيره، صبياً كان أو رجلاً، ذكراً كان أو أنثى {وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ} أي أطعموهم منها واكسوهم {وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفًا} أي قولاً ليناً كقولكم إِذا رَشَدْتم سلمنا إِليكم أموالكم.

    {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ} أي اختبروا اليتامى حتى إِذا بلغوا سنَّ النكاح وهو بلوغ الحلم الذي يصلحون عنده للنكاح {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} أي إِن أبصرتم منهم صلاحاً في دينهم ومالهم فادفعوا إِليهم أموالهم بدون تأخير {وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا} أي لا تسرعوا في إِنفاقها وتبذّروها قائلين ننفق كما نشتهي قبل أن يكبر اليتامى فينتزعوها من أيدينا {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ} أي من كان منكم غنياً أيها الأولياء فليعف عن مال اليتيم ولا يأخذ أجراً على وصايته {وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} أي ومن كان فقيراً فليأخذ بقدر حاجته الضرورية وبقدر أجرة عمله.

    {فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ} أي فإِذا سلمتم إِلى اليتامى أموالهم بعد بلوغهم الرشد فأشهدوا على ذلك لئلا يجحدوا تسليمها {وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا} أي كفى بالله محاسباً ورقيباً.



    على من تُقْسَمُ تركة الميت؟



    {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا(7)وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُوا الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفًا(8)وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا(9)إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا(10)}



    ثم بيّن تعالى أن للرجال والنساء نصيباً من تركة الأقرباء فقال {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ} أي للأولاد والأقرباء حظ من تركة الميت كما للبنات والنساء حظ أيضاً الجميع فيه سواء يستوون في أصل الوارثة وإِن تفاوتوا في قدرها، وسببها أن بعض العرب كانوا لا يورّثون النساء والأطفال وكانوا يقولون: إنما يرث من يحارب ويذبُّ عن الحوزة فأبطل الله حكم الجاهلية {مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ} أي سواء كانت التركة قليلة أو كثيرة { نَصِيبًا مَفْرُوضًا} أي نصيباً مقطوعاً فرضه الله بشرعه العادل وكتابه المبين .

    {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُوا الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ} أي إِذا حضر قسمة التركة الفقراء من قرابة الميت واليتامى والمساكين من غير الوارثين فأعطوهم شيئاً من هذه التركة تطييباً لخاطرهم {وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفًا} أي قولاً جميلاً بأن تعتذروا إِليهم أنه للصغار وأنكم لا تملكونه {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ} نزلت في الأوصياء أي تذكر أيها الوصي ذريتك الضعاف من بعدك وكيف يكون حالهم وعامل اليتامى الذين في حَجْرك بمثل ما تريد أن يُعامل به أبناؤك بعد فقدك {فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا} أي فليتقوا الله في أمر اليتامى وليقولوا لهم ما يقولونه لأولادهم من عبارات العطف والحنان.

    {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا} أي يأكلونها بدون حق {إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} أي ما يأكلون في الحقيقة إِلا ناراً تتأجج في بطونهم يوم القيامة {وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} أي سيدخلون ناراً هائلة مستعرة وهي نار السعير.



    آيات المواريث



    {يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنْ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا(11)وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمْ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوْ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ(12)}



    {يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} أي يأمركم الله ويعهد إِليكم بالعدل في شأن ميراث أولادكم {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} أي للابن من الميراث مثل نصيب البنتين {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ} أي إِن كان الوارث إِناثاً فقط اثنتين فأكثر {فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} أي فللبنتين فأكثر ثلثا التركة {وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} أي وإِن كانت الوارثة بنتاً واحدة فلها نصف التركة ..بدأ تعالى بذكر ميراث الأولاد. ثم ذكر ميراث الأبوين لأن الفرع مقدم في الإِرث على الأصل فقال تعالى {وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} أي للأب السدس وللأم السدس {مِمَّا تَرَكَ} أي من تركة الميت {إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ} أي إِن وجد للميت ابن أو بنت لأن الولد يطلق على الذكر والأنثى {فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} أي فإِن لم يوجد للميت أولاد وكان الوارث أبواه فقط أو معهما أحد الزوجين {فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ} أي فللأم ثلث المال أو ثلث الباقي بعد فرض أحد الزوجين والباقي للأب {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ} أي فإِن وجد مع الأبوين إِخوة للميت "اثنان فأكثر" فالأم ترث حينئذٍ السدس فقط والباقي للأب، والحكمة أن الأب مكلف بالنفقة عليهم دون أمهم فكانت حاجته إِلى المال أكثر {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} أي إِن حق الورثة يكون بعد تنفيذ وصية الميت وقضاء ديونه فلا تقسم التركة إِلا بعد ذلك .

    {آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنْ اللَّهِ} أي إِنه تعالى تولّى قسمة المواريث بنفسه وفرض الفرائض على ما علمه من الحكمة، فقسم حيث توجد المصلحة وتتوفر المنفعة ولو ترك الأمر إِلى البشر لم يعلموا ما هو أنفع لهم فيضعون الأموال على غير حكمة ولهذا أتبعه بقوله {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} أي إنه تعالى عليم بما يصلح لخلقه حكيم فيما شرع وفرض .

    ثم ذكر تعالى ميراث الزوج والزوجة فقال {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ} أي ولكم أيها الرجال نصف ما ترك أزواجكم من المال إِن لم يكن لزوجاتكم أولاد منكم أو من غيركم {فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمْ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ} أي من ميراثهن، وألحق بالولد في ذلك ولد الإِبن بالإِجماع {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} أي من بعد الوصية وقضاء الدين {وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ} أي ولزوجاتكم واحدة فأكثر الربع مما تركتم من الميراث إِن لم يكن لكم ولد منهن أو من غيرهن .

    {فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ} أي فإِن كان لكم ولد منهن أو من غيرهن فلزوجاتكم الثمن مما تركتم من المال {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} وفي تكرير ذكر الوصية والدين من الاعتناء بشأنهما ما لا يخفي. {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً} أي وإِن كان الميت يورث كلالة أي لا والد له ولا ولد وورثه أقاربه البعيدون لعدم وجود الأصل أو الفرع {أَوْ امْرَأَةٌ} عطف على رجل والمعنى أو امرأةٌ تورث كلالة {وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ} أي وللمورّث أخ أو أخت من أم {فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} أي فللأخ من الأم السدس وللأخت للأم السدس أيضاً .

    {فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} أي فإِن كان الإِخوة والأخوات من الأم أكثر من واحد فإِنهم يقتسمون الثلث بالسوية ذكورهم وإِناثهم في الميراث سواء، قال في البحر: وأجمعوا على أن المراد في هذه الآية الإِخوة للأم {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ} أي بقصد أن تكون الوصية للمصلحة لا بقصد الإِضرار بالورثة أي في حدود الوصية بالثلث لقوله عليه السلام (الثلث والثلث كثير) {وَصِيَّةً مِنْ اللَّهِ} أي أوصاكم الله بذلك وصية {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ} أي عالم بما شرع حليم لا يعاجل العقوبة لمن خالف أمره.



    حدود الله تعالى



    {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ(13)وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ(14)}



    {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} أي تلك الأحكام المذكورة شرائع الله التي حدّها لعباده ليعملوا بها ولا يعتدوها {وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} أي من يطع أمر الله فيما حكم وأمر رسوله فيما بيّن، يدخله جنات النعيم التي تجري من تحت أشجارها وأبنيتها الأنهار {خَالِدِينَ فِيهَا} أي ماكثين فيها أبداً {وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} أي الفلاح العظيم {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ} أي ومن يعص أمر الله وأمر الرسول ويتجاوز ما حدّه تعالى له من الطاعات {يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا} أي يجعله مخلداً في نار جهنم لا يخرُج منها أبداً {وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} أي وله عذاب شديد مع الإِهانة والإِذلال والعذاب والنكال.



    جزاء ارتكاب الفاحشة في بداية التشريع الإِسلامي



    {وَاللاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً(15)وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا(16)}



    {وَاللاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} أي اللواتي يزنين من أزواجكم فاطلبوا أن يشهد على اقترافهن الزنا أربعة رجال من المسلمين الأحرار {فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ} أي فإِن ثبتت بالشهود جريمتهن فاحبسوهن في البيوت {حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ} أي احبسوهنَّ فيها إِلى الموت {أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً} أي يجعل الله لهنَّ مخلصاً بما يشرعه من الأحكام، قال ابن كثير: كان الحكم في ابتداء الإِسلام أن المرأة إِذا ثبت زناها بالبيِّنة العادلة حُبست في بيت فلا تُمكَّن من الخروج منه إِلى أن تموت، حتى أنزل الله سورة النور فنسخها بالجلد أو الرجم .

    {وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ} أي واللذان يفعلان الفاحشة والمراد الزاني والزانية بطريق التغليب {فَآذُوهُمَا} أي بالتوبيخ والتقريع والضرب بالنعال {فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا} أي فإِن تابا عن الفاحشة وأصلحا سيرتهما فكفّوا عن الإِيذاء لهما {إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا} أي مبالغاً في قبول التوبة واسع الرحمة. قال الفخر الرازي: "خص الحبس في البيت بالمرأة وخص الإِيذاء بالرجل لأن المرأة إِنما تقع في الزنا عند الخروج والبروز فإِذا حبست في البيت انقطعت مادة هذه المعصية، وأما الرجل فإِنه لا يمكن حبسه في البيت لأنه يحتاج إِلى الخروج في إِصلاح معاشه واكتساب قوت عياله فلا جرم جعلت عقوبتهما مختلفة".





    التوبة ووقت قَبولها



    {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا(17)وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ المَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا(18)}



    {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ} أي إِنما التوبة التي كتب الله على نفسه قبولها هي توبة من فعل المعصية سفهاً وجهالة مقدِّراً قبح المعصية وسوء عاقبتها ثم ندم وأناب {ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} أي يتوبون سريعاً قبل مفاجأة الموت {فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} أي يتقبل الله توبتهم {وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} أي عليماً بخلقه حكيماً في شرعه.

    {وَلَيْسَتْ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ} أي وليس قبول التوبة ممن ارتكب المعاصي واستمر عليها حتى إِذا فاجأه الموت تاب وأناب فهذه توبة المضطر وهي غير مقبولة وفي الحديث (إِن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر) {وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ} أي يموتون على الكفر فلا يُقبل إِيمانهم عند الاحتضار {أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} أي هيأنا وأعددنا لهم عذاباً مؤلماً.



    معاملة النساء في الإِسلام



    {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا(19)وَإِنْ أَرَدْتُمْ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا(20)وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا(21)}



    {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا} أي لا يحل لكم أن تجعلوا النساء كالمتاع ينتقل بالإِرث من إِنسان إِلى آخر وترثوهن بعد موت أزواجهن كرهاً عنهن، قال ابن عباس: كانوا في الجاهليةُ إِذا مات الرجل كان أولياؤه أحقَّ بامرأته إِن شاءوا تزوجها أحدهم، وإِن شاءوا زوجوها غيرهم، وإن شاءوا منعوها الزواج {وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} أي ولا يحل لكم أن تمنعوهن من الزواج أو تضيقوا عليهن لتذهبوا ببعض ما دفعتموه لهن من الصَّداق {إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} أي إِلا في حال إِتيانهن بفاحشة الزنا،وقال ابن عباس: الفاحشة المبينة النشوز والعصيان .

    {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} أي صاحبوهن بما أمركم الله به من طيب القول والمعاملة بالإِحسان {فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} أي فإِن كرهتم صحبتهن فاصبروا عليهن واستمروا في الإِحسان إِليهن فعسى أن يرزقكم الله منهن ولداً صالحاً تَقَرُّ به أعينكم، وعسى أن يكون في الشيء المكروه الخير الكثير وفي الحديث الصحيح (لا يَفْركْ "أي لا يبغض" مؤمنٌ مؤمنة إِن كره منها خُلُقاً رضي منها آخر) .

    ثم حذّر تعالى من أخذ شيء من المهر بعد الطلاق فقال {وَإِنْ أَرَدْتُمْ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ} أي وإِن أردتم أيها المؤمنون نكاح امرأة مكان امرأة طلقتموها {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا} أي والحال أنكم كنتم قد دفعتم مهراً كبيراً يبلغ قنطاراً {فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} أي فلا تأخذوا ولو قليلاً من ذلك المهر {أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} استفهام إِنكاري أي أتأخذونه باطلاً وظلماً؟

    {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ} أي كيف يباح لكم أخذه وقد استمعتم بهن بالمعاشرة الزوجية؟ {وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} أي أخذن منكم عهداً وثيقاً مؤكداً هو "عقد النكاح" قال مجاهد: الميثاق الغليظ عقدة النكاح وفي الحديث (اتقوا الله في النساء فإِنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله).



    المحرَّمات من النساء في الإسلام



    {وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنْ النِّسَاءِ إِلا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلاً(22)حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمْ اللاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنْ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمْ اللاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمْ اللاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمْ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا(23)}



    {وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنْ النِّسَاءِ إِلا مَا قَدْ سَلَفَ} أي لا تتزوجوا ما تزوج آباؤكم من النساء لكن ما سبق فقد عفا الله عنه {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا} أي فإِن نكاحهن أمر قبيح قد تناهى في القبح والشناعة، وبلغ الذروة العليا في الفظاعة والبشاعة، إِذا كيف يليق بالإِنسان أن يتزوج امرأة أبيه وأن يعلوها بعد وفاته وهي مثل أمه؟ {وَسَاءَ سَبِيلاً} أي بئس ذلك النكاح القبيح الخبيث طريقاً.

    ثم بيّن تعالى المحرمات من النساء فقال {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} أي حُرّم عليكم نكاح الأمهات وشمل اللفظ الجدات من قبل الأب أو الأم {وَبَنَاتُكُمْ} وشمل بنات الأولاد وإِن نزلن {وَأَخَوَاتُكُمْ} أي شقيقة كانت أو لأب أو لأم {وَعَمَّاتُكُمْ} أي أخوات آبائكم وأخوات أجدادكم {وَخَالاتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ} أي بنت الأخ وبنت الأخت ويدخل فيهن أولادهن، وهؤلاء المحرمات بالنسب وهنَّ كما تقدم "الأمهات، البنات، الأخوات، العمات، الخالات، بنات الأخ، بنات الأخت" ثم شرع تعالى في ذكر المحرمات من الرضاع فقال {وَأُمَّهَاتُكُمْ اللاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنْ الرَّضَاعَةِ} نزّل الله الرضاعة منزلة النسب حتى سمّى المرضعة أماً للرضيع أي كما يحرم عليك أمك التي ولدتك، كذلك يحرم عليك أمك التي أرضعتك، وكذلك أختك من الرضاع، ولم تذكر الآية من المحرمات بالرضاع سوى "الأمهات والأخوات" وقد وضحت السنة النبوية أن المحرمات بالرضاع سبع كما هو الحال في النسب لقوله عليه السلام (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب).

    ثم ذكر تعالى المحرمات بالمصاهرة فقال {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} أي وكذلك يحرم نكاح أم الزوجة سواء دخل بالزوجة أو لم يدخل لأن مجرد العقد على البنت يحرم الأم {وَرَبَائِبُكُمْ اللاتِي فِي حُجُورِكُمْ} أي بنات أزواجكم اللاتي ربيتموهن، وذكرُ الحجر ليس للقيد وإِنما هو للغالب لأن الغالب أنها تكون مع أمها ويتولى الزوج تربيتها وهذا بالإِجماع {مِنْ نِسَائِكُمْ اللاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} الدخول هنا كناية عن الجماع أي من نسائكم اللاتي أدخلتموهن الستر قاله ابن عباس فإِن لم تكونوا أيها المؤمنون قد دخلتم بأمهاتهن وفارقتموهن فلا جناح عليكم في نكاح بناتهن {وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمْ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ} أي وحُرم عليكم نكاح زوجات أبنائكم الذين ولدتموهم من أصلابكم بخلاف من تبنيتموهم فلكم نكاح حلائلهم {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلا مَا قَدْ سَلَفَ} أي وحُرّم عليكم الجمع بين الأختين معاً في النكاح إِلا ما كان منكم في الجاهلية فقد عفا الله عنه {إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} أي غفوراً لما سلف رحيماً بالعباد.



    حرمة الزواج بالمتزوجات واشتراط المهر للزواج



    {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ النِّسَاءِ إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا(24)}



    {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ النِّسَاءِ إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} أي وحرّم عليكم نكاح المتزوجات من النساء إِلا ما ملكتموهن بالسبي فيحل لكم وطؤهنَّ بعد الاستبراء ولو كان لهنَّ أزواج في دار الحرب لأن بالسبي تنقطع عصمة الكافر {ولا تمسكوا بعِصم الكوافر} {كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} أي هذا فرض الله عليكم {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} أي أُحل لكم نكاح ما سواهنّ {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} أي إِرادة أن تطلبوا النساء بطريق شرعي فتدفعوا لهن المهور حال كونكم متزوجين غير زانين {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً} أي فما تلذذتم به من النساء بالنكاح فآتوهنَّ مهورهن فريضةً فرضها الله عليكم بقوله {وآتوا النساء صدقاتهن نحلة}.

    ثم قال تعالى {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ} أي لا إِثم عليكم فيما أسقطن من المهر برضاهن كقوله {فإِن طبن لكم عن شيء منه نفساً فكلوه هنيئاً مريئاً} قال ابن كثير : أي إِذا فرضت لها صداقاً فأبرأتك منه أو عن شيء منه فلا جناح عليك ولا عليها في ذلك {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} أي عليماً بمصالح العباد حكيماً فيما شرع لهم من الأحكام.



    شروط الزواج بالأَمَةِ وعقوبة فاحشتها



    {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمْ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنْ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ(25)}



    {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ} أي من لم يكن منكم ذا سعة وقدرة أن يتزوج الحرائر المؤمنات {فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمْ الْمُؤْمِنَاتِ} أي فله أن ينكح من الإِماء المؤمنات اللاتي يملكهن المؤمنون {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ} جملة معترضة لبيان أنه يكفي في الإِيمان معرفة الظاهر والله يتولى السرائر {بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} أي إِنكم جميعاً بنو آدم ومن نفسٍ واحدة فلا تستنكفوا من نكاحهن فرب أمة خير من حرة، وفيه تأنيس لهم بنكاح الإِماء فالعبرةُ بفضل الإِيمان لا بفضل الأحساب والأنساب .

    {فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أهْلِهِنَّ} أي تزوجوهن بأمر أسيادهن وموافقة مواليهن {وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} أي ادفعوا لهن مهورهن عن طيب نفسٍ ولا تبخسوهن منه شيئاً استهانة بهن لكونهن إِماء مملوكات {مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ} أي عفيفات غير مجاهرات بالزنى {وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ} أي ولا متسترات بالزنى مع أخدانهن، قال ابن عباس: الخِدنُ هو الصديق للمرأة يزني بها سراً فنهى الله تعالى عن الفواحش ما ظهر منها وما بطن.

    {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنْ الْعَذَابِ} أي فإِذا أُحصنَّ بالزواج ثم زنين فعليهن نصف ما على الحرائر من عقوبة الزنى {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ} أي إِنما يباح نكاح الإِماء لمن خاف على نفسه الوقوع في الزنى {وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ} أي صبركم وتعففكم عن نكاحهن أفضل لئلا يصير الولد رقيقاً وفي الحديث (من أراد أن يلقى الله طاهراً مطهراً فلينكح الحرائر) {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} أي واسع المغفرة عظيم الرحمة.


  2. #26


    Join Date
    May 2008
    Location
    يمنيه وافتخر........ حاليا خارج اليمن
    العمر
    35
    Posts
    6,090
    Rep Power
    334

    رد: ......... تفسير القران الكريم................

    بيانٌ وتوبةٌ وتخفيفٌ من الله تعالى على المؤمنين



    {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ(26)وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيمًا(27)يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا(28)}



    {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ} أي يريد الله أن يفصّل لكم شرائع دينكم ومصالح أموركم {وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} أي يرشدكم إِلى طرائق الأنبياء الصالحين لتقتدوا بهم {وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ} أي يقبل توبتكم فيما اقترفتموه من الإِثم والمحارم {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} أي عليم بأحوال العباد حكيم في تشريعه لهم.

    {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ} كرّره ليؤكد سعة رحمته تعالى على العباد أي يحب بما شرع من الأحكام أن يطهركم من الذنوب والآثام، ويريد توبة العبد ليتوب عليه {وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيمًا} أي ويريد الفجرة أتباع الشيطان أن تعدلوا عن الحق إِلى الباطل وتكونوا فسقة فجرة مثلهم {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} أي يريد تعالى بما يسَّر أن يسهّل عليكم أحكام الشرع {وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا} أي عاجزاً عن مخالفة هواه لا يصبر عن إِتباع الشهوات.



    تحريم أكل أموال الناس بالباطل ومبدأ الرضا في العقود



    {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا(29)وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا(30)}



    ثم حذر تعالى من أكل أموال الناس بالباطل فقال {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} أي يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله لا يأكل بعضكم أموال بعض بالباطل وهو كل طريق لم تبحه الشريعة كالسرقة والخيانة والغصب والربا والقمار وما شاكل ذلك {إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} أي إِلا ما كان بطريق شرعي شريف كالتجارة التي أحلها الله، قال ابن كثير: الاستثناء منقطع أي لا تتعاطوا الأسباب المحرمة في اكتساب الأموال لكن المتاجر المشروعة التي تكون عن تراضٍ من البائع والمشتري فافعلوها {وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} أي لا يسفك بعضكم دم بعض، والتعبير عنه بقتل النفس للمبالغة في الزجر، أو هو على ظاهره بمعنى الانتحار وذلك من رحمته تعالى بكم {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا} أي ومن يرتكب ما نهى الله عنه معتدياً ظالماً لا سهواً ولا خطأً {فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا} أي ندخله ناراً عظيمة يحترق فيها {وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} أي هيناً يسيراً لا عسر فيه لأنه تعالى لا يعجزه شيء.



    جزاء اجتناب الكبائر



    {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيمًا(31)}



    {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} أي إِن تتركوا أيها المؤمنون الذنوب الكبائر التي نهاكم الله عز وجل عنها نمح عنكم صغائر الذنوب بفضلنا ورحمتنا {وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيمًا} أي نُدخلكم الجنة دار الكرامة والنعيم، التي فيها ما لا عينٌ رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر!.



    النهي عن الحسد



    {وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا(32)}



    {وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} أي لا تتمنوا أيها المؤمنون ما خصّ الله تعالى به غيركم من أمر الدنيا أو الدين ذلك يؤدي إِلى التحاسد والتباغض، قال الزمخشري: نهُوا عن الحسد وعن تمني ما فضل الله به بعض الناس على بعض من الجاه والمال لأن ذلك التفضيل قسمة من الله صادرة عن حكمة وتدبير وعلم بأحوال العباد.

    {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ} أي لكلٍ من الفريقين في الميراث نصيبٌ معين المقدار، قال الطبري: كلٌ له جزاء على عمله بحسبه إِن خيراً فخير وإِن شراً فشر {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} أي وسلوا الله من فضله يعطكم فإِنه كريم وهاب {إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} أي ولذلك جعل الناس طبقات ورفع بعضهم درجات.



    إعطاء الورثة حقهم من التركة



    {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا(33)}



    {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ} أي ولكل إِنسانٍ جعلنا عصبةً يرثون ماله ممّا تركه الوالدان والأقارب من الميراث {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} أي والذين حالفتموهم في الجاهلية على النصرة والإِرث فأعطوهم حظهم من الميراث، وقد كان هذا في ابتداء الإِسلام ثم نسخ، قال الحسن: كان الرجل يحالف الرجل ليس بينهما نسبٌ فيرث أحدُهما الآخر فنسخ الله ذلك بقوله {وأولوا الأرحام بعضُهم أولى ببعض} وقال ابن عباس: كان المهاجرون حين قدموا المدينة يرث المهاجريُّ الأنصاريَّ دون ذوي رحمه بالأخوة التي آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم فلما نزلت {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ} نسخ التوراة بين المهاجرين والأنصار {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا} أي مطلعاً على كل شيء وسيجازيكم عليه.



    قوامة الرجال على النساء



    {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا(34)وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقْ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا(35)}



    ثم بيّن تعالى أن الرجال يتولون أمر النساء في المسؤولية والتوجيه فقال {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} أي قائمون عليهن بالأمر والنهي، والإِنفاق والتوجيه كما يقوم الولاة على الرعية {بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} أي بسبب ما منحهم الله من العقل والتدبير، وخصهم به من الكسب والإِنفاق، فهم يقومون على النساء بالحفظ والرعاية والإِنفاق والتأديب، قال أبو السعود: "والتفضيلُ للرجل لكمال العقل وحسن التدبير ورزانة الرأي ومزيد القوة، ولذلك خصوا بالنبوة والإِمامة والولاية والشهادة والجهاد وغير ذلك" .

    {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} هذا تفصيل لحال النساء تحت رياسة الرجل، وقد ذكر تعالى أنهن قسمان : قسم صالحات مطيعات، وقسم عاصيات متمردات، فالنساء الصالحات مطيعات لله ولأزواجهن، قائمات بما عليهن من حقوق، يحفظن أنفسهن عن الفاحشة وأموال أزواجهن عن التبذير كما أنهن حافظات لما يجري بينهن وبين أزواجهن مما يجب كتمه ويجمل ستره وفي الحديث (إِن من شر الناس عند الله منزلةً يوم القيامة، الرجلُ يُفْضي إِلى امرأته وتُفْضي إِليه ثم ينشر أحدهما سرَّ صاحبه) .

    {وَاللاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ} هذا القسم الثاني وهنَّ النساء العاصيات المتمردات أي واللاتي يتكبرن ويتعالين عن طاعة الأزواج فعليكم أيها الرجال أن تسلكوا معهن سبل الإِصلاح {فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنّ َفِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ} أي فخوفوهنَّ الله بطريق النصح والإِرشاد، فإِن لم ينجح الوعظ والتذكير فاهجروهنَّ في الفراش فلا تكلموهن ولا تقربوهن، قال ابن عباس: الهجر ألا يجامعها وأن يضاجعها على فراشها ويوليها ظهره، فإِن لم يرتدعن فاضربوهن ضرباً غير مبرّح {فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً} أي فإِن أطعن أمركم فلا تلتمسوا طريقاً لإِيذائهن {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا} أي فإِن الله تعالى أعلى منكم وأكبر وهو وليهن ينتقم ممن ظلمهن وبغى عليهن .. انظر كيف يعلمنا سبحانه أن نؤدب نسائنا وانظر إِلى ترتيب العقوبات ودقتها حيث أمرنا بالوعظ ثم بالهجران ثم بالضرب ضرباً غير مبرح ثم ختم الآية بصفة العلو والكبر لينبه العبد على أن قدرة الله فوق قدرة الزوج عليها وأنه تعالى عون الضعفاء وملاذ المظلومين !! .

    {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} أي وإِن خشيتم أيها الحكام مخالفةً وعداوةً بين الزوجين فوجهوا حكماً عدلاً من أهل الزوج وحكماً عدلاً من أهل الزوجة يجتمعان فينظران في أمرهما ويفعلان ما فيه المصلحة {إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقْ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} أي إِن قصدا إِصلاح ذات البين وكانت نيتهما صحيحة وقلوبهما ناصحة لوجه الله، بورك في وساطتها وأوقع الله بين الزوجين الوفاق والألفة وألقى في نفوسهما المودة والرحمة {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا} أي عليماً بأحوال العباد حكيماً في تشريعه لهم.



    توجيهات ربانية: توحيد الله، والإحسان إلى الوالدين والأقارب والجيران،

    والتحذير من الرياء



    {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا(36)الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا(37)وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَنْ يَكُنْ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا(38)وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمْ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا(39)}



    {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} أي وحدوه وعظموه ولا تشركوا به شيئاً من الأشياء صنماً أو غيره، واستوصوا بالوالدين برّاً وإِنعاماً وإِحساناً وإِكراماً {وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ} أي واحسنوا إِلى الأقارب عامة وإِلى اليتامى والمساكين خاصة {وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى} أي الجار القريب فله عليك حق الجوار وحق القرابة {وَالْجَارِ الْجُنُبِ} أي الجار الأجنبي الذي لا قرابة بينك وبينه {وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ} قال ابن عباس: هو الرفيق في السفر، وقال الزمخشري: "هو الذي صحبك إِما رفيقاً في سفر، أو جاراً ملاصقاً، أو شريكاً في تعلم علم، أو قاعداً إِلى جنبك في مجلس أو غير ذلك، من له أدنى صحبةٍ التأمت بينك وبينه فعليك أن ترعى ذلك الحق ولا تنساه وقيل: هي المرأة" {وَابْنِ السَّبِيلِ} أي المسافر الغريب الذي انقطع عن بلده وأهله {وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} أي المماليك من العبيد والإِماء {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا} أي متكبراً في نفسه يأنف عن أقاربه وجيرانه فخوراً على الناس مترفعاً عليهم يرى أنه خير منهم، وهذه آية جامعة جاءت حثاً على الإِحسان واستطراداً لمكارم الأخلاق، ومن تدبرها حق التدبر أغنتْه عن كثير من مواعظ البلغاء، ونصائح الحكماء.

    ثم بين تعالى صفات هؤلاء الذين يبغضهم الله فقال {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ} أي يمنعون ما أوجب الله عليهم من الإِنفاق في سبيل الله ويأمرون غيرهم بترك الأنفاق، والآية في اليهود نزلت في جماعة منهم كانوا يقولون للأنصار لا تنفقوا أموالكم في الجهاد والصدقات، وهي مع ذلك عامة {وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} أي يخفون ما عندهم من المال والغنى، ويخفُون نعته عليه السلام الموجود في التوراة {وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا} أي هيأنا للجاحدين نعمة الله عذاباً أليماً مع الخزي والإِذلال لهم.

    {وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ} أي ينفقونها للفخار والشهرة لا ابتغاء وجه الله {ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر} أي ولا يؤمنون الإِيمان الصحيح بالله واليوم الآخر، والآية في المنافقين { وَمَنْ يَكُنْ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا} أي من كان الشيطان صاحباً له وخليلاً يعمل بأمره فساء هذا القرين والصاحب {وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمْ اللَّهُ} الاستفهام للإِنكار والتوبيخ أي ماذا يضيرهم وأي تبعةٍ ووبالٍ عليهم في الإِيمان بالله والإِنفاق في سبيله؟ قال الزمخشري: وهذا كما يقال للمنتقم: ما ضرك لو عفوت؟ وللعاقّ: ما كان يرزؤك لو كنت باراً؟ وهو ذم وتوبيخ وتجهيل بمكان المنفعة {وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا} وعيد لهم بالعقاب أي سيجازيهم بما عملوا.



    إن الله لا يُنْقص أحداً حسناته ولا يزيد في سيئاته



    {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُنْ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا(40) فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا(41)يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوْا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمْ الأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا(42)}



    {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} أي لا يبخس أحداً من عمله شيئاً ولو كان وزن ذرة وهي الهباءة وذلك على سبيل التمثيل تنبيهاً بالقليل على الكثير {وَإِنْ تَكُنْ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا} أي وإِن كانت تلك الذرة حسنة ينمّها ويجعلها أضعافاً كثيرة {وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} أي ويعط من عنده تفضلاً وزيادة على ثواب العمل أجراً عظيماً وهو الجنة .

    {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا} أي كيف يكون حال الكفار والفجار حين نأتي من كل أمةٍ بينها يشهد عليها، ونأتي بك يا محمد على العصاة والمكذبين من أمتك تشهد عليهم بالجحود والعصيان؟! كيف يكون موقفهم؟ وكيف يكون حالهم؟ والاستفهام هنا للتوبيخ والتقريع.

    {يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوْا الرَّسُولَ} أي في ذلك اليوم العصيب يتمنى الفجار الذين جحدوا وحدانية الله وعصوا رسوله {لَوْ تُسَوَّى بِهِمْ الأَرْضُ} أي لو يدفنوا في الأرض ثم تُسوّى بهم كما تُسوَّى بالموتى، أو لو تنشق الأرض فتبتلعهم ويكونون تراباً كقوله {يوم ينظر المرء ما قدمت يداه ويقول الكافر يا ليتني كنتُ تراباً} وذلك لما يرون من أهوال يوم القيامة {وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} أي لا يستطيعون أن يكتموا الله حديثاً لأن جوارحهم تشهد عليهم بما فعلوه.



    التدرّج في تحريم الخمر وتشريع التيمم عند فقد الماء



    {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمْ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا(43)}



    ثم أمر تعالى باجتناب الصلاة في حال السكر والجنابة فقال {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} أي لا تصلوا في حالة السكر لأن هذه الحالة لا يتأتى معها الخشوع والخضوع بمناجاته سبحانه وتعالى، وقد كان هذا قبل تحريم الخمر روى الترمذي عن علي كرم الله وجهه أنه قال "صنع لنا عبد الرحمن بن عوف طعاماً فدعانا وسقانا من الخمر، فأخذت الخمر منا، وحضرت الصلاة فقدموني، فقرأت: "قل يا أيها الكافرون * لا أعبد ما تعبدون* ونحن نعبد ما تعبدون" فأنزل الله:

    {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} الآية {وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} أي ولا تقربوها وأنتم جنب أي غير طاهرين بإِنزال أو إِيلاج إِلا إِذا كنتم مسافرين ولم تجدوا الماء فصلوا على تلك الحالة بالتيمم {وَإِنْ كُنتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ} أي وإِن كنتم مرضى ويضركم الماء، أو مسافرين وأنتم محدثون أو أحدثتم ببولٍ أو غائطٍ ونحوهما حدثاً أصغر ولم تجدوا الماء {أَوْ لامَسْتُمْ النِّسَاءَ} قال ابن عباس: هو الجماع {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} أي فلم تجدوا الماء الذي تتطهرون به {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ} أي اقصدوا عند عدم وجود الماء التراب الطاهر فتطهروا به وامسحوا وجوهكم وأيديكم بذلك التراب {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا} أي يرخّص ويسهّل على عباده لئلا يقعوا في الحرج.



    مكابرة اليهود وعدم انصياعهم للحق



    {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنْ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ(44)وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا(45)مِنْ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمْ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلا قَلِيلاً(46)}



    {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنْ الْكِتَابِ} الاستفهام للتعجيب من سوء حالهم والتحذير عن موالاتهم أي ألم تنظر يا محمد إِلى الذين أعطوا حظاً من علم التوراة وهم أحبار اليهود {يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ} أي يختارون الضلالة على الهدى ويؤثرون الكفر على الإِيمان {وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ} أي ويريدون لكم يا معشر المؤمنين أن تضلوا طريق الحق لتكونوا مثلهم {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ} أي هو تعالى أعلم بعداوة هؤلاء اليهود الضالِّين منكم فاحذروهم {وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا} أي حسبكم أن يكون الله ولياً وناصراً لكم فثقوا به واعتمدوا عليه وحده فهو تعالى يكفيكم مكرهم .

    ثم ذكر تعالى طرفاً من قبائح اليهود اللعناء فقال {مِنْ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} أي من هؤلاء اليهود فريق يبدّلون كلام الله في التوراة ويفسرونه بغير مراد الله قصداً وعمداً فقد غيرّوا نعت محمد صلى الله عليه وسلم وأحكام الرجم وغير ذلك {وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا} أي ويقولون لك إِذا دعوتهم للإِيمان سمعنا قولك وعصينا أمرك، قال مجاهد: سمعنا ما قلته يا محمد ولا نطيعك فيه، وهذا أبلغ في الكفر والعناد {وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ} أي اسمع ما نقول لا سمعتَ والكلام ذو وجهين يحتمل الخير والشر وأصله للخير أي لا سمعتَ مكروهً ولكنَّ اليهود الخبثاء كانوا يقصدون به الدعاء على الرسول صلى الله عليه وسلم أي لا أسمعكَ الله وهو دعاء بالصمم أو بالموت {وَرَاعِنَا} أي ويقولون في أثناء خطابهم راعنا وهي كلمة سبّ من الرعونة وهي الحُمْق، فكانوا سخريةً وهزؤاً برسول الله صلى الله عليه وسلم يكلمونه بكلام محتمل ينوون به الشتيمة والإِهانة ويظهرون به التوقير والإِكرام ولهذا قال تعالى {لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ} أي فتلاً وتحريفاً عن الحق إِلى الباطل وقدحاً في الإِسلام، قال ابن عطية: وهذا موجود حتى الآن في اليهود وقد شاهدناهم يربّون أولادهم الصغار على ذلك ويحفظونهم ما يخاطبون به المسلمين مما ظاهره التوقير ويريدون به التحقير.

    {وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} أي عوضاً من قولهم سمعنا وعصينا {وَاسْمَعْ وَانظُرْنَا} أي عوضاً عن قولهم غير مسمع وراعنا أي لو أن هؤلاء اليهود قالوا للرسول صلى الله عليه وسلم ذلك القول اللطيف بدل ذلك القول الشنيع {لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ} أي لكان ذلك القول خيراً لهم عند الله وأعدل وأصوب {وَلَكِنْ لَعَنَهُمْ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلا قَلِيلاً} أي أبعدهم الله عن الهدى وعن رحمته بسبب كفرهم السابق فلا يؤمنون إِلا إِيماناً قليلاً، قال الزمخشري: أي ضعيفاً ركيكاً لا يُعبأ به وهو إِيمانهم ببعض الكتب والرسل.



    أمرُ أهل الكتاب أن يؤمنوا بالقرآن قبل أن يُلعَنوا



    {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً(47)}



    ثم توعدهم تعالى بالطمس وإِذهاب الحواس فقال {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا} أي يا معشر اليهود آمنوا بالقرآن الذي نزلناه على محمد صلى الله عليه وسلم {مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ} أي مصدقاً للتوراة {مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا} أي نطمس منها الحواس من أنفٍ أو عين أو حاجب حتى تصير كالأدبار، وهذا تشويه عظيم لمحاسن الإِنسان وهو قول ابن عباس {أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ} أي نمسخهم كما مسخنا أصحاب السبت وهم الذين اعتدوا في السبت فمسخهم الله قردة وخنازير {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً} أي إِذا أمر بأمر فإِنه نافذ كائن لا محالة.



    سعة مغفرة الله تعالى



    {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا(48)}



    {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} أي لا يغفر الشرك ويغفر ما سوى ذلك من الذنوب لمن شاء من عباده {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} أي من أشرك بالله فقد اختلق إِثماً عظيماً، قال الطبري: قد أبانت هذه الآية أن كل صاحب كبيرة ففي مشيئة الله إِن شاء عفا عنه وإِن شاء عاقبه عليها ما لم تكن كبيرته شركاً بالله.



    نماذج من افتراءات اليهود وجزاؤهم عليها



    {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلْ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً(49)انظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا(50)أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً(51)أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا(52)أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا(53)أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا(54)فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا(55)}



    ثم ذكر تعالى تزكية اليهود أنفسهم مع كفرهم وتحريفهم الكتاب فقال {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ} أي ألم يبلغك خبر هؤلاء الذين يمدحون أنفسهم ويصفونها بالطاعة والتقوى؟ والاستفهام للتعجيب من أمرهم، قال قتادة: ذلكم أعداء الله اليهود زكُّوا أنفسهم فقالوا {نحن أبناء الله وأحباؤه} وقالوا: لا ذنوب لنا {بَلْ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ} أي ليس الأمر بتزكيتهم بل بتزكية الله فهو أعلم بحقائق الأمور وغوامضها يزكي المرتضين من عباده وهم الأطهار الأبرار لا اليهود الأشرار {وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً} أي لا ينقصون من أعمالهم بقدر الفتيل وهو الخيط الذي في شق النواة وهو مثلٌ للقلة كقوله {إِن الله لا يظلم مثقال ذرة} .

    {انظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} هذا تعجيب من افترائهم وكذبهم أي انظر يا محمد كيف اختلقوا على الله الكذب في تزكيتهم أنفسهم وادعائهم أنهم أبناء الله وأحباؤه؟ {وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا} أي كفى بهذا الأفتراء وزراً بيناً وجرماً عظيماً {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنْ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} الاستفهام للتعجيب والمراد بهم أيضاً اليهود أُعطوا حظاً من التوراة وهم مع ذلك يؤمنون بالأوثان والأصنام وكلّ ما عبد من دون الرحمن {وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً} أي يقول اليهود لكفار قريش أنتم أهدى سبيلاً من محمد وأصحابه، قاله ابن كثير: يفضّلون الكفار على المسلمين بجهلهم وقلة دينهم وكفرهم بكتاب الله الذي بأيديهم قال تعالى إِخباراً عن ضلالهم {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمْ اللَّهُ} أي طردهم وأبعدهم عن رحمته {وَمَنْ يَلْعَنْ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا} أي من يطرده من رحمته فمن ينصره من عذاب الله ويمنع عنه آثار اللعنة وهو العذاب العظيم؟ {أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنْ الْمُلْكِ} أي أم لهم حظٌ من الملك؟ وهذا على وجه الإِنكار يعني ليس لهم من الملك شيء {فَإِذًا لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا} أي لو كان لهم نصيب من الملك فإِذاً لا يؤتون أحداً مقدار نقير لفرط بخلهم، والنقير مثلٌ في القلة كالفتيل والقطمير وهو النكتة في ظهر النواة، ثم انتقل إِلى خصلة ذميمة أشد من البخل فقال {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} قال ابن عباس: حسدوا النبي صلى الله عليه وسلم على النبوة وحسدوا أصحابه على الإِيمان والمعنى: بل أيحسدون النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين على النبوة التي فضل الله بها محمداً وشرّف بها العرب ويحسدون المؤمنين على ازدياد العز والتمكين؟ { فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا} أي فقد أعطينا أسلافكم من ذرية إِبراهيم النبوة وأنزلنا عليهم الكتب وأعطيناهم الملك العظم مع النبوة كداود وسليمان فلأي شيء تخصون محمداً صلى الله عليه وسلم بالحسد دون غيره ممن أنعم الله عليهم؟ والمقصود الرد على اليهود في حسدهم للنبي صلى الله عليه وسلم وإِلزام لهم بما عرفوه من فضل الله على آل إِبراهيم .

    {فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ} أي من اليهود من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم وهم قلة قليلة ومنهم من أعرض فلم يؤمن وهم الكثرة كقوله {فمنهم مهتدٍ وكثيرٌ منهم فاسقون} {وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا} أي كفى بالنار المسعّرة عقوبة لهم على كفرهم وعنادهم.



    عقاب الكافرين وثواب المؤمنين



    {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا(56)وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاً ظَلِيلاً(57)}



    ثم أخبر تعالى بما أعده للكفرة الفجرة من الوعيد والعذاب الشديد فقال {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا} أي سوف ندخلهم ناراً عظيمة هائلة تشوي الوجوه والجلود {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} أي كلما انشوت جلودهم واحترقت احتراقاً تاماً بدلناهم جلوداً غيرها ليدوم لهم ألم العذاب، قال الحسن البصري: تُنْضجهم النار في اليوم سبعين ألف مرة كلما أكلتهم قيل لهم عودوا فعادوا كما كانوا، وقال الربيع: جلد أحدهم أربعون ذراعاً، وبطنُه لو وضع فيه جبل لوسعه، فإِذا أكلت النار جلودهم بدلوا جلوداً غيرها وفي الحديث (يعظم أهل النار في النار حتى إِن بين شحمة أذن أحدهم إِلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام، وإِن غلظ جلده سبعون ذراعاً وإِن ضرسه مثل أحد) {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا} أي عزيز لا يمتنع عليه شيء حكيم لا يعذّب إِلا بعدل .

    {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} هذا إِخبار عن مآل السعداء أي سندخلهم جنات تجري فيها الأنهار في جميع فجاجها وأرجائها حيث شاءوا وأين أرادوا مقيمين في الجنة لا يموتون { لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ} أي لهم في الجنة زوجات مطهرات من الأقذار والأذى، قال مجاهد: مطهرات من البول والحيض والنخام والبزاق والمني والولد {وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاً ظَلِيلاً} أي ظلاً دائماً لا تنسخه الشمس ولا حر فيه ولا برد، قال الحسن: وُصف بأنه ظليل لأنه لا يدخله ما يدخل ظل الدنيا من الحرّ والسموم، وفي الحديث (إِن في الجنة لشجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها).





    الأمر بأداء الأمانة والحكم بالعدل وإطاعة الله ورسوله وولاة الأمور



    {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا(58)يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاُ(59)}



    {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} الخطاب عام لجميع المكلفين كما الأمانات تعم جميع الحقوق المتعلقة بالذمم سواءً كانت حقوق الله أو العباد، قال الزمخشري: الخطاب عام لكل أحد في كل أمانة، والمعنى يأمركم الله أيها المؤمنون بأداء الأمانات إِلى أربابها، قال ابن كثير: يأمر تعالى بأداء الأمانات إِلى أهلها وهو يعم جميع الأمانات الواجبة على الإِنسان من حقوق الله عز وجل على عباده من الصلاة والزكاة والصيام والكفارات وغيرها، ومن حقوق العباد بعضهم على بعض كالودائع وغيرها {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} أي ويأمركم أن تعدلوا بين الناس في أحكامكم {إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ} أي نعم الشيء الذي يعظكم به {إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} فيه وعدٌ ووعيد أي سميع لأقوالكم بصير بأفعالكم .

    {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأمْرِ مِنْكُمْ} أي أطيعوا الله وأطيعوا رسوله بالتمسك بالكتاب والسنة، وأطيعوا الحكام إِذا كانوا مسلمين متمسكين بشرع الله إِذ لا طاعة لمخلوقٍ في معصية الخالق، وفي قوله {مِنْكُمْ} دليل على أن الحكام الذين تجب طاعتهم يجب أن يكونوا مسلمين حسّاً ومعنى، لحماً ودماً، ولا يكفي أن يكونوا مسلمين صورة وشكلاً {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} أي فإِن اختلفتم في أمرٍ من الأمور فاحتكموا فيه إِلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم {إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} أي إِن كنتم مؤمنين حقاً وهو شرط حذف جوابه لدلالة ما سبق أي فردوه إِلى الله والرسول والغرض منه الحث على التمسك بالكتاب والسنة كما يقول القائل: إِن كنت ابني فلا تخالفني {ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاُ} أي الرجوع إِلى كتاب الله وسنة رسوله خير لكم وأصلح وأحسن عاقبة ومآلاً.


  3. #27


    Join Date
    May 2008
    Location
    يمنيه وافتخر........ حاليا خارج اليمن
    العمر
    35
    Posts
    6,090
    Rep Power
    334

    رد: ......... تفسير القران الكريم................

    مزاعم المنافقين ومواقفهم



    {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاُ بَعِيدًا(60)وإذا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا(61)فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا(62)أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاُ بَلِيغًا(63)}



    ثم ذكر تعالى صفات المنافقين الذين يدّعون الإِيمان وقلوبهم خاوية منه فقال {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} تعجيبٌ من أمر من يدّعي الإِيمان ثم لا يرضى بحكم الله أي ألا تعجب من صنيع هؤلاء المنافقين الذين يزعمون الإِيمان بما أنزل إِليك وهو القرآن وما أنزل من قبلك وهو التوراة والإِنجيل {يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ} أي يريدون أن يتحاكموا في خصومتهم إِلى الطاغوت قال ابن عباس هو "كعب بن الأشرف" أحد طغاة اليهود سمي به لإِفراطه في الطغيان وعداوته للرسول عليه السلام {وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ} أي والحال أنهم قد أمروا بالإِيمان بالله والكفر بما سواه كقوله {فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى} {وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاُ بَعِيدًا} أي ويريد الشيطان بما زيّن لهم أن يحرفهم عن الحق والهدى .

    {وإذا قيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ} أي وإِذا قيل لأولئك المنافقين تعالوا فتحاكموا إِلى كتاب الله وإِلى الرسول ليفصل بينكم فيما تنازعتم فيه {رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} أي رأيتهم لنفاقهم يعرضون عنك إِعراضاً {فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} أي كيف يكون حالهم إِذا عاقبهم الله بذنوبهم وبما جنته أيديهم من الكفر والمعاصي أيقدرون أن يدفعوا عنهم العذاب؟ {ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا} أي ثم جاءك هؤلاء المنافقون للاعتذار عما اقترفوه من الأوزار يقسمون بالله ما أردنا بالتحاكم إِلى غيرك إِلا الصلح والتأليف بين الخصمين وما أردنا رفض حكمك قال تعالى تكذيباً لهم. {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ} أي هؤلاء المنافقون يكذبون والله يعلم ما في قلوبهم من النفاق والمكر والخديعة وهم يريدون أن يخدعوك بهذا الكلام المعسول {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} أي فأعرضْ عن معاقبتهم للمصلحة ولا تُظهر لهم علمك بما في بواطنهم ولا تهتك سترهم حتى يبقوا على وجلٍ وحذر {وَعِظْهُمْ} أي ازجرهم عن الكيد والنفاق بقوارع الآيات {وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاُ بَلِيغًا} أي انصحهم فيما بينك وبينهم بكلام بليغ مؤثر يصل إِلى سويداء قلوبهم يكون لهم رادعاً ولنفاقهم زاجراً.





    وجوب طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم



    {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا(64)فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا(65)}



    ثم أخبر تعالى عن بيان وظيفة الرسل فقال {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} أي لم نرسل رسولاً من الرسل إِلا ليطاع بأمر الله تعالى فطاعته طاعةٌ لله ومعصيته معصيةٌ لله {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ} أي لو أن هؤلاء المنافقين حين ظلموا أنفسهم بعدم قبول حكمك جاءوك تائبين من النفاق مستغفرين الله من ذنوبهم معترفين بخطئهم {وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ الرَّسُولُ} أي واستغفرت لهم يا محمد أي سألت الله أن يغفر لهم ذنوبهم {لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} أي لعلموا كثرة توبة الله على عباده وسعة رحمته لهم.

    ثم بين تعالى طريق الإِيمان الصادق فقال {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} اللام لتأكيد القسم أي فوربك يا محمد لا يكونون مؤمنين حتى يجعلوك حكماً بينهم ويرضوا بحكمك فيما تنازعوا فيه واختلفوا من الأمور {ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} أي ثم لا يجدوا في أنفسهم ضيقاً من حكمك وينقادوا انقياداً تاماً كاملاً لقضائك، من غير معارضة ولا مدافعة ولا منازعة، فحقيقةُ الإِيمان الخضوع والإِذعان.



    التزام أوامر الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم



    {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنْ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوْ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا(66)وَإِذًا لآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا(67)وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا(68)}



    {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنْ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوْ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ} أي لو فرضنا على هؤلاء المنافقين ما فرضنا على من قبلهم من المشقات وشدّدنا التكليف عليهم فأمرناهم بقتل النفس والخروج من الأوطان كما فرض ذلك على بني إِسرائيل {مَا فَعَلُوهُ إِلا قَلِيلٌ مِنْهُمْ} أي ما استجاب ولا انقاد إِلا قليل منهم لضعف إِيمانهم .

    {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} أي ولو أنهم فعلوا ما يؤمرون به من طاعة الله وطاعة رسوله لكان خيراً لهم في عاجلهم وآجلهم وأشدَّ تثبيتاً لإِيمانهم، وأبعد لهم عن الضلال والنفاق {وَإِذًا لآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا} أي أرشدناهم إِلى الطريق المستقيم الموصل إِلى جنات النعيم.



    جزاء طاعة الله ورسوله



    {وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا(69)ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنْ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا(70)}



    ثم ذكر تعالى ثمرة الطاعة لله ورسوله فقال {وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} أي ومن يعمل بما أمره الله به ورسوله ويجتنب ما نهى الله عنه ورسوله، فإِن الله عز وجل يسكنه دار كرامته في دار الخلد مع المقربين {مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ} أي مع أصحاب المنازل العالية في الآخرة وهم الأنبياء الأطهار والصديقون الأبرار وهم أفاضل أصحاب الأنبياء والشهداء الأخيار وهم الذين استشهدوا في سبيل الله ثم مع بقية عباد الله الصالحين {وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا} أي ونعمت رفقة هؤلاء وصحبتهم، وحَسُن رفيق أولئك الأبرار، عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم في شكواه التي قُبض فيها يقول {مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ} فعلمتُ أنه خيِّر.

    {ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنْ اللَّهِ} أي ما أُعطيه المطيعون من الأجر العظيم إِنما هو بمحض فضله تعالى {وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا} أي وكفى به تعالى مجازياً لم أطاع عالماً بمن يستحق الفضل والإِحسان.



    قواعد القتال الشرعية



    {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانفِرُوا ثُبَاتٍ أَوْ انفِرُوا جَمِيعًا(71)وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا(72)وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا(73)فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا(74)وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا(75)الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا(76)}



    {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ} أي يا معشر المؤمنين احترزوا من عدوكم واستعدوا له {فَانفِرُوا ثُبَاتٍ أَوْ انفِرُوا جَمِيعًا} أي اخرجوا إِلى الجهاد جماعات متفرقين، سريةً بعد سرية أو اخرجوا مجتمعين في الجيش الكثيف، فخيَّرهم تعالى في الخروج إِلى الجهاد متفرقين ومجتمعين {وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ} أي ليتثاقلنَّ ويتخلفنَّ عن الجهاد، {فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ}أي قتلٌ وهزيمة {قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا} أي قال ذلك المنافق قد تفضَّل الله عليَّ إِذ لم أشهد الحرب معهم فأُقتل ضمن من قتل .

    {وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ} أي ولئن أصابكم أيها المؤمنون نصر وظفر وغنيمة {لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا} أي ليقولنَّ هذا المنافق قول نادم متحسر كأن لم يكن بينكم وبينه معرفة وصداقة يا ليتني كنتُ معهم في الغزو لأنال حظاً وافراً من الغنيمة، وجملة {كأن لم تكن} اعتراضية للتنبيه على ضعف إِيمانهم، وهذه المودة في ظاهر المنافق لا في اعتقاده فهو يتمنى أن لو كان مع المؤمنين لا من أجل عزة الإِسلام بل طلبً للمال وتحصيلاً للحطام، ولما ذم تعالى المبطئين عن القتال في سبيل الله رغب المؤمنين فيه فقال {فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ} أي فليقاتل المخلصون الباذلون أنفسهم وأموالهم في سبيل الله الذين يبيعون الحياة الفانية بالحياة الباقية {وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا}وهذا وعدٌ منه سبحانه بالأجر العظيم لمن قاتل في سبيل الله سواءً غَلَبَ أو غُلِبَ أي من يقاتل في سبيل الله لإِعلاء كلمة الله فيُستشهد أو يظفر على الأعداء فسوف نعطيه ثواباً جزيلاً فهو فائز بإِحدى الحسنيين: الشهادة أو الغنيمة كما في الحديث (تضمن الله لمن خرج في سبيله لا يُخرجه إِلا جهادٌ في سبيلي، وإِيمانٌ بي وتصديقٌ برسلي فهو عليَّ ضامن أن أُدخله الجنة أو أرجعه إِلى مسكنه الذي خرج منه نائلاً ما نال من أجر أو غنيمة).

    {وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ} الاستفهام للحث والتحريض على الجهاد أي وما لكم أيها المؤمنون لا تقاتلون في سبيل الله وفي سبيل خلاص المستضعفين من إِخوانكم الذين صدَّهم المشركون عن الهجرة فبقوا مستذلين مستضعفين يلقون أنواع الأذى الشديد؟! وقوله {مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ} بيانٌ للمستضعفين، قال ابن عباس: كنتُ أنا وأمي من المستضعفين، وهم الذين كان يدعو لهم الرسول صلى الله عليه وسلم فيقول: اللهم أنْج الوليد بن الوليد وسلمة بن هشام إلخ كما في الصحيح .

    {الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ} أي الذين يدعون ربهم لكشف الضُرً عنهم قائلين: ربنا أخرجنا من هذه القرية وهي مكة إِذ أنها كانت موطن الكفر ولذا هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم منها {الظَّالِمِ أَهْلُهَا} بالكفر وهم صناديد قريش الذين منعوا المؤمنين من الهجرة ومنعوا من ظهور الإِسلام فيها {وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا} أي اجعل لنا من هذا الضيق فرجاً ومخرجاً وسخّر لنا من عندك وليّاً وناصراً، وقد استجاب الله دعاءهم فجعل لهم خير وليّ وناصر وهو محمد صلى الله عليه وسلم حين فتح مكة ولما خرج منها ولّى عليهم "عتّاب بن أسيد" فأنصف مظلومهم من ظالمهم.

    ثم شجع تعالى المجاهدين ورغبهم في الجهاد فقال {الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} أي المؤمنون يقاتلون لهدف سامٍ وغاية نبيلة وهي نصرة دين الله وإِعلاء كلمته ابتغاء مرضاته فهو تعالى وليهم وناصرهم {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ} أي وأما الكافرون فيقاتلون في سبيل الشيطان الداعي إِلى الكفر والطغيان {فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ} أي قاتلوا يا أولياء الله أنصار وأعوان الشيطان فإِنكم تغلبونهم، فشتان بين من يقاتل لإِعلاء كلمة الله وبين من يقاتل في سبيل الشيطان، فمن قاتل في سبيل الله فهو الذي يَغْلب لأن الله وليُّه وناصرُه، ومن قاتل في سبيل الطاغوت فهو المخذول المغلوب ولهذا قال {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} أي سعيُ الشيطان في حد ذاته ضعيف فكيف بالقياس إِلى قدرة الله؟! قال الزمخشري: كيدُ الشيطان للمؤمنين إِلى جنب كيد الله للكافرين أضعف شيء وأوهنه.



    فُرض القتال امتحان للإيمان



    {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنْ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً(77)أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمْ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا(78)مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنْ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا(79)}



    {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} ألا تعجب يا محمد من قوم طلبوا القتال وهم بمكة فقيل لهم: أمسكوا عن قتال الكفار فلم يحن وقته وأعدّوا نفوسكم بإِقامة الصلاة وإِيتاء الزكاة .

    {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً} أي فلما فرض عليهم قتال المشركين إِذا جماعة منهم يخافون ويجبنون ويفزعون من الموت كخشيتهم من عذاب الله أو أشد من ذلك، قال ابن كثير: كان المؤمنون في ابتداء الإِسلام وهم بمكة مأمورين بالصلاة والزكاة والصبر على أذى المشركين وكانوا يتحرقون لو أُمروا بالقتال ليشتفوا من أعدائهم فلما أمروا بما كانوا يودونه جزع بعضهم وخاف من مواجهة الناس خوفاً شديداً {وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ} أي وقالوا جزعاً من الموت ربنا لم فرضت علينا القتال؟ {لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ} لولا للتحضيض بمعنى هلاّ أي هلاّ أخرتنا إِلى أجل قريب حتى نموتَ بآجالنا ولا نقتل فيفرح بنا الأعداء!

    {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنْ اتَّقَى} أي قل لهم يا محمد إِن نعيم الدنيا فانٍ ونعيم الآخرة باقٍ فهو خير من ذلك المتاع الفاني لمن اتقى وامتثل أمره {وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً} أي لا تُنقصون من أجور أعمالكم أدنى شيء ولو كان فتيلاً وهو الخيط الذي في شق النواة، قال في التسهيل: إِن الآية في قومٍ من الصحابة كانوا قد أُمروا بالكف عن القتال فتمنوا أن يؤمروا به، فلما أُمروا به كرهوه لا شكاً في دينهم ولكن خوفاً من الموت، وقيل هي في المنافقين وهو أليق في سياق الكلام .

    {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمْ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} أي في أي مكانٍ وجدتم فلا بدّ أن يدرككم الموت عند انتهاء الأجل ويفاجئكم ولو تحصنتم منه بالحصون المنيعة فلا تخشوا القتال خوف الموت {وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} أي إِن تصب هؤلاء المنافقين حسنةٌ من نصر وغنيمة وشبه ذلك يقولوا هذه من جهة الله ومن تقديره لما علم فينا من الخير {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ} أي وإِن تنلهم سيئة من هزيمة وجوع وشبه ذلك يقولوا هذه بسبب اتباعنا لمحمد ودخولنا في دينه يعنون بشؤم محمد ودينه، وقال السدي: يقولون هذا بسبب تركنا ديننا واتباعنا محمداً أصابنا هذا البلاء كما قال تعالى عن قوم فرعون {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ} [الأعراف: 131] {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} أُمر صلى الله عليه وسلم بأن يرد زعمهم الباطل ويلقمهم الحجر ببيان أن الخير والشر بتقدير الله أي قل يا محمد لهؤلاء السفهاء: الحسنةُ والسيئة والنعمةُ والنقمة كلُّ ذلك من عند الله خلقاً وإِيجاداً لا خالق سواه فهو وحده النافع الضار وعن إِرادته تصدر جميع الكائنات {فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} أي ما شأنهم لا يفقهون أن الأشياء كلها بتقدير الله؟ وهو توبيخ لهم على قلة الفهم .. ثم قال تعالى مبيناً حقيقة الإِيمان.

    {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنْ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} الخطاب لكل سامع أي ما أصابك يا إنسان من نعمة وإِحسان فمن الله تفضيلاً منه وإِحساناً وامتناناً وامتحاناً، وما أصابك من بلية ومصيبة فمن عندك لأنك السبب فيها بما ارتكبت يداك كقوله {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير} .. ثم قال تعالى مخاطباً الرسول {وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} أي وأرسلناك يا محمد رسولاً للناس أجمعين تبلغهم شرائع الله وحسبك أن يكون الله شاهداً على رسالتك.



    طاعة الرسول طاعةٌ لله، والتدبر في القرآن يرشد إلى أنه من عند الله



    {مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا(80)وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً(81)أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا(82)}



    ثم رغب تعالى في طاعة الرسول فقال {مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} أي من أطاع أمر الرسول فقد أطاع الله لأنهم مبلّغٌ عن الله {وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} أي ومن أعرض عن طاعتك فما أرسلناك يا محمد حافظاً لأعمالهم ومحاسباً لهم عليها إِن عليك إِلا البلاغ {وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ} أي ويقول المنافقون: أمرك يا محمد طاعة كقول القائل "سمعاً وطاعةً" فإِذا خرجوا من عندك دبّر جماعة منهم غير الذي تقوله لهم وهو الخلاف والعصيان لأمرك {وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ} أي يأمر الحفظة بكتابته في صحائف أعمالهم ليجازوا عليه {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} أي اصفح عنهم وفوّض أمرك إِلى الله وثق به {وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً} أي فهو سبحانه ينتقم لك منهم وكفى به ناصراً ومعيناً لمن توكل عليه، ثم عاب تعالى المنافقين بالإِعراض عن التدبر في القرآن في فهم معانيه المحكمة وألفاظه البليغة ففي تدبره يظهر برهانه ويسطع نوره وبيانه فقال: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} أي لو كان هذا القرآن مختلقاً كما يزعم المشركون والمنافقون لوجدوا فيه تناقضاً كبيراً في أخباره ونظمه ومعانيه ولكنه منزه عن ذلك فأخباره صدق، ونظمه بليغ، ومعانيه محكمة، فدلَّ على أنه تنزيل الحكيم الحميد.


  4. #28


    Join Date
    May 2008
    Location
    يمنيه وافتخر........ حاليا خارج اليمن
    العمر
    35
    Posts
    6,090
    Rep Power
    334

    رد: ......... تفسير القران الكريم................

    إذاعة الأخبار من غير تأكُّد من صحتها مفسَدَةٌ



    {وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأمْنِ أَوْ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمْ الشَّيْطَانَ إِلا قَلِيلاً(83)}



    {وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأمْنِ أَوْ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ} أي إِذا جاء المنافقين خبرٌ من الأخبار عن المؤمنين بالظفر والغنيمة أو النكبة والهزيمة أذاعوا به أي أفشوه وأظهروه وتحدثوا به قبل أن يقفوا على حقيقته وكان في إِذاعتهم له مفسدة على المسلمين {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} أي لو ترك هؤلاء الكلام بذلك الأمر الذي بلغهم وردوه إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإِلى كبراء الصحابة وأهل البصائر منهم لعلمه الذين يستخرجونه منهم أي من الرسول وأولي الأمر {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمْ الشَّيْطَانَ إِلا قَلِيلاً} أي لولا فضل الله عليكم أيها المؤمنون بإِرسال الرسول ورحمته بإِنزال القرآن لاتبعتم الشيطان فيما يأمركم به من الفواحش إِلا قليلاً منكم.



    تحريض المؤمنين على الجهاد في سبيل الله



    {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنكِيلاً(84)}



    ثم أمر الرسول بالجهاد فقال {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلا نَفْسَكَ} أي قاتل يا محمد لإِعلاء كلمة الله ولو وحدك فإِنك موعود بالنصر ولا تهتم بتخلف المنافقين عنك {وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ} أي شجِّعهم على القتال ورغبْهم فيه {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا} هذا وعدٌ من الله بكفهم و {عَسَى} من الله تفيد التحقيق أي بتحريضك المؤمنين يكف الله شرّ الكفرة والفجار، وقد كفهم الله بهزيمتهم في بدر وفتح مكة {وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنكِيلاً} أي هو سبحانه أشد قوة وسطوة، وأعظم عقوبة وعذاباً.



    الشفاعة الحسنة، وردّ التحية وإثبات البعث



    {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا(85)وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا(86)اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ حَدِيثًا(87)}



    {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا} أي من يشفع بين الناس شفاعة موافقة للشرع يكن له نصيب من الأجر {وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا} أي ومن يشفع شفاعة مخالفة للشرع يكن له نصيب من الوزر بسببها {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا} أي مقتدراً فيجازي كل أحدٍ بعمله .

    {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} أي إِذا سلّم عليكم المسلم فردوا عليه بأفضل مما سلّم أو رُدُّوا عليه بمثل ما سلّم {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا} أي يحاسب العباد على كل شيء من أعمالهم الصغيرة والكبيرة.

    {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ} هذا قسم من الله بجمع الخلائق يوم المعاد أي الله الواحد الذي لا معبود سواه ليحشرنكم من قبوركم إِلى حساب يوم القيامة الذي لا شك فيه وسيجمع الأولين والآخرين في صعيد واحدٍ للجزاء والحساب {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ حَدِيثًا} لفظه استفهام ومعناه النفي أي لا أحد أصدق في الحديث والوعد من الله رب العالمين.





    أوصاف المنافقين وكيفية معاملتهم



    {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً(88)وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا(89)إِلا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنْ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمْ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً(90)سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّمَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمْ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُوْلَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا(91)}



    المنَــاسَـــبَة:

    لما ذكر تعالى مواقف المنافقين المخزية، عقّبه بذكر نوعٍ آخر من أحوال المنافقين الشنيعة، ثم ذكر حكم القتل الخطأ والقتل العمد، وأمر بالتثبت قبل الإِقدام على قتل إنسان لئلا يُفضي إلى قتل أحد من المسلمين، ثم ذكر تعالى مراتب المجاهدين ومنازلهم الرفيعة في الآخرة.



    سبب النزول:

    أ- عن زيد بن ثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إِلى أُحد فرجع ناسٌ ممن كان معه، فكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فيهم فرقتين فقال بعضهم: نقتلهم، وقال بعضهم: لا، فأنزل الله {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ..} الآية فقال صلى الله عليه وسلم: (إِنها طيبة تنفي الخبَث كما تنفي النار خبث الحديد) أخرجه الشيخان.

    ب- يروى أن "الحارث بن يزيد" كان شديداً على النبي صلى الله عليه وسلم فجاء مهاجراً وهو يريد الإِسلام فلقيه "عياش بن أبي ربيعة" - والحارث يريد الإِسلام وعياش لا يشعر - فقتله فأنزل الله {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلا خَطَأً} [النساء: 92].

    ج- عن ابن عباس قال: لحق المسلمون رجلاً في غنيمةٍ له فقال: السلام عليكم فقتلوه وأخذوا غنيمته فنزلت هذه الآية {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمْ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا..} [النساء: 94].



    {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا} أي ما لكم أيها المؤمنون أصبحتم فرقتين في شأن المنافقين، بعضكم يقول نقتلهم وبعضكم يقول لا نقتلهم والحال أنهم منافقون والله نكسَّهم وردّهم إِلى الكفر بسبب النفاق والعصيان {أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ} أي أتريدون هداية من أضله الله، والاستفهام للإِنكار والتوبيخ في الموضعين والمعنى لا تختلفوا في أمرهم ولا تظنوا فيهم الخير لأن الله حكم بضلالهم {وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً} أي من يضلله الله فلن تجد له طريقاً إِلى الهدى والإِيمان .

    {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} أي تمنى هؤلاء المنافقون أن تكفروا مثلهم فتستووا أنتم وهم وتصبحوا جميعاً كفاراً {فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} أي لا توالوا ولا تصادقوا منهم أحداً حتى يؤمنوا ويحققوا إِيمانهم بالهجرة والجهاد في سبيل الله {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} أي إِن أعرضوا عن الهجرة في سبيل الله فخذوهم أيها المؤمنون واقتلوهم حيث وجدتموهم في حلٍّ أو حرم {وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا} أي لا تستنصروهم ولا تستنصحوهم ولا تستعينوا بهم في الأمور ولو بذلوا لكم الولاية والنصرة .

    {إِلا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ} أي إِلا الذين ينتهون ويلجأون إِلى قوم عاهدوهم فدخلوا فيهم بالحِلْف فحكمهم حكم أولئك القوم في القتال أي وإلا الذين جاءوكم وقد ضاقت صدورهم عن قتالكم وقتال قومهم فهم قوم ليسوا معكم ولا عليكم {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ} أي من لطفه بكم أن كفّهم عنكم ولو شاء لقوّاهم وجرُأهم عليكم فقاتلوكم {فَإِنْ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمْ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً} أي فإِن لم يتعرضوا لكم بقتال وانقادوا واستسلموا لكم فليس لكم أن تقاتلوهم طالما سالموكم .

    {سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ} أي ستجدون قوماً آخرين من المنافقين يريدون أن يأمنوكم بإِظهار الإِيمان ويأمنوا قومهم بإِظهار الكفر إِذا رجعوا إِليهم، قال أبو السعود: هم قوم من "أسد وغطفان" كانوا إِذا أتوا المدينة أسلموا وعاهدوا ليأمنوا من المسلمين فإِذا رجعوا إِلى قومهم كفروا ونكثوا عهودهم ليأمنوا قومهم {كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا} أي كلما دعوا إِلى الكفر أو قتال المسلمين عادوا إِليه وقُلبوا فيه على اسوأ شكل فهم شرٌ من كل عدو شرير { فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمْ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ} أي فإِن لم يجتنبوكم ويستسلموا إِليكم ويكفوا أيديهم عن قتالكم {فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} أي فأسروهم واقتلوهم حيث وجدتموهم وأصبتموهم {وَأُوْلَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا} أي جعلنا لكم على أخذهم وقتلهم حجة واضحة وبرهاناً بيناً بسبب غدرهم وخيانتهم.



    جزاء القتل الخطأ والقتل العمد



    {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنْ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا(92)وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا(93)}



    {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلا خَطَأً} أي لا ينبغي لمؤمنٍ ولا يليق به أن يقتل مؤمناً إِلا على وجه الخطأ لأن الإِيمان زاجرٌ عن العدوان {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلا أَنْ يَصَّدَّقُوا} أي ومن قتل مؤمناً على وجه الخطأ فعليه إِعتاق رقبةٍ مؤمنة لأن إِطلاقها من قيد الرق كإِحيائها، وعليه كذلك ديةٌ مؤداة إِلى ورثة المقتول إِلا إِذا عفا الورثة عن القاتل فأسقطوا الدية، وقد أوجب الشارع في القتل الخطأ شيئين: الكفارة وهي تحرير رقبة مؤمنة في مال القاتل، والدية وهي مائةٌ من الإِبل على العاقلة .

    {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} أي إِن كان المقتول خطأً مؤمناً وقومه كفاراً أعداء وهم المحاربون فإِنما على قاتله الكفارة فقط دون الدية لئلا يستعينوا بها على المسلمين {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} أي وإِن كان المقتول خطاً من قوم كفرة بينكم وبينهم عهد كأهل الذمة فعلى قاتله دية تدفع إِلى أهله لأجل معاهدتهم ويجب أيضاً على القاتل إِعتاق رقبة مؤمنة {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} أي فمن لم يجد الرقبة فعليه صيام شهرين متتابعين عوضاً عنها{تَوْبَةً مِنْ اللَّهِ} شرع تعالى لكم ذلك لأجل التوبة عليكم {وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} عليماً بخلقه حكيماً فيما شرع .

    ثم بين تعالى حكم القتل العمد وجريمته النكراء وعقوبته الشديدة فقال {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} أي ومن يقدم على قتل مؤمن عالماً بإِيمانه متعمداً لقتله فجزاؤه جهنم مخلداً فيها على الدوام، وهذا محمول عند الجمهور على من استحل قتل المؤمن كما قال ابن عباس لأنه باستحلال القتل يصبح كافراً {وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} أي ويناله السخط الشديد من الله والطرد من رحمة الله والعذاب الشديد في الآخرة.



    الحرص على التثبُّت في الأحكام



    {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمْ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا(94)}



    {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا} أي إِذا سافرتم في الجهاد لغزو الأعداء فتثبتوا ولا تعجلوا في القتل حتى يتبين لكم المؤمن من الكافر {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمْ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا} أي ولا تقولوا لمن حياكم بتحية الإِسلام لست مؤمناً وإِنما قلت هذا خوفاً من القتل فتقتلوه {تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أي حال كونكم طالبين لماله الذي هو حطامٌ سريع الزوال {فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ} أي فعند الله ما هو خير من ذلك وهو ما أعده لكم من جزيل الثواب والنعيم {كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا} أي كذلك كنتم كفاراً فهداكم للإِسلام ومنَّ عليكم بالإِيمان فتبينوا أن تقتلوا مؤمناً وقيسوا حاله بحالكم {إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} أي مطلعاً على أعمالكم فيجازيكم عليها.



    التفاضل بين المجاهدين والقاعدين عن الجهاد



    {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا(95)دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا(96)}



    ثم أخبر تعالى بفضيلة المجاهدين فقال {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ} أي لا يتساوى من قعد عن الجهاد من المؤمنين مع من جاهد بماله ونفسه في سبيل الله غير أهل الأعذار كالأعمى والأعرج والمريض، قال ابن عباس: هم القاعدون عن بدر والخارجون إِليها، ولما نزلت الآية قام ابن أم مكتوم فقال يا رسول الله: هل لي من رخصة فوالله لو أستطيع الجهاد لجاهدتُ - وكان أعمى - فأنزل الله {غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ} {فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً} أي فضل الله المجاهدين على القاعدين من أهل الأعذار درجة لاستوائهم في النية كما قال صلى الله عليه وسلم: (إِن بالمدينة أقواماً ما سرتم من مسير ولا قطعتم من وادٍ إِلا وهم معكم فيه قالوا: وهم بالمدينة يا رسول الله؟ قال:نعم حبسهم العذر) {وَكُلاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} أي وكلاً من المجاهدين والقاعدين بسبب ضررٍ لحقهم وعدهم الله الجزاء الحسن في الآخرة .

    {وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} أي وفضل الله المجاهدين في سبيل الله على القاعدين بغير عذر بالثواب الوافر العظيم {دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُغَفُورًا رَحِيمًا} أي منازل بعضها أعلى من بعض مع المغفرة والرحمة وفي الحديث (إِن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض).





    هجرة المستضعفين



    {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا(97)إِلا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً(98)فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا(99)}



    المنَــاسَـــبَة:

    لما ذكر تعالى ثواب المجاهدين الأبرار، أتبعه بذكر عقاب القاعدين عن الجهاد الذين سكنوا في بلاد الكفر، ثم رغب تعالى في الهجرة من دار الكفر إِلى دار الإِيمان وذكر ما يترتب عليها من السعة والأجر والثواب، ثم لما كان الجهاد والهجرة سبباً لحدوث الخوف والسفر بين تعالى صلاة المسافر وطريقة صلاة الخوف، ثم أتبع ذلك بذكر أروع مثل في الانتصار للعدالة سجله التاريخ ألا وهو إِنصاف رجل يهودي اتهم ظلماً بالسرّقة وإِدانة الذين تآمروا عليه وهم أهل بيت من الأنصار في المدينة المنورة.



    سبب النزول:

    أ- عن ابن عباس قال: كان قوم من المسلمين أقاموا بمكة - وكانوا يستخفون بالإِسلام - فأخرجهم المشركون يوم بدر معهم فأصيب فقال المسلمون: كان أصحابنا هؤلاء مسلمين وأُكرهوا على الخروج فنزلت {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ..} الآية.

    ب- كان ضمرة بن القيس من المستضعفين بمكة وكان مريضاً فلما سمع ما أنزل الله في الهجرة قال لأولاده احملوني فإِني لستُ من المستضعفين وإِني لأهتدي الطريق، والله لا أبيت الليلة بمكة فحملوه على سرير ثم خرجوا به فمات في الطريق بالتنعيم فأنزل الله {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ}.

    ج- روي أن رجلاً من الأنصار يقال له "طُّعمة بن أُبيرق" من بني ظفر سرق درعاً من جاره "قتادة ابن النعمان" في جراب دقيق، فجعل الدقيق ينتثر من خرقٍ فيه فخبأها عند "زيد بن السمين" اليهودي فالتُمست الدرع عند طعمة فلم توجد وحلف ما أخذها وما له بها علم فتركوه واتبعوا أثر الدقيق حتى انتهوا إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألوه أن يجادل عن صاحبهم وشهدوا ببراءته وسرقة اليهودي فهمَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفعل فنزلت الآية {إِنَّا أنزلنا إِليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ..} الآية وهرب طُعْمة إِلى مكة وارتد ونقب حائطاً بمكة ليسرق أهله فسقط الحائط عليه فقتله.



    {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ} أي تتوفاهم الملائكة حال كونهم ظالمي أنفسهم بالإِقامة مع الكفار في دار الشرك وترك الهجرة إِلى دار الإِيمان {قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ} أي تقول لهم الملائكة في أيّ شيء كنتم في أمر دينكم؟ وهو سؤال توبيخ وتقريع {قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأرْضِ} قالوا معتذرين: كنا مستضعفين في أرض مكة عاجزين عن إِقامة الدين فيها.

    {قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا}؟ أي قالت لهم الملائكة توبيخاً: أليست أرض الله واسعة فتهاجروا من دار الكفر إِلى دارٍ تقدرون فيها على إِقامة دين الله كما فعل من هاجر إِلى المدينة وإِلى الحبشة؟ قال تعالى بياناً لجزائهم {فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا} أي مقرهم النار وساءت مقراً ومصيراً.

    ثم استثنى تعالى منهم الضعفة والعاجزين عن الهجرة فقال {إِلا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً} أي لكن من كان منهم مستضعفاً كالرجال والنساء والأطفال الذين استضعفهم المشركون وعجزوا لإِعسارهم وضعفهم عن الهجرة ولا يستطيعون الخلاص ولا يِهتدون الطريق الموصل لدار الهجرة {فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ} أي لعل الله أن يعفو عنهم لأنهم لم يتركوا الهجرة اختياراً {وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا} أي يعفو ويغفر لأهل الأعذار، وعسى في كلام الله تفيد التحقيق.



    قصر الصلاة في السفر وصلاة الخوف



    {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا(100)وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنْ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا(101)وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمْ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا(102)فَإِذَا قَضَيْتُمْ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا(103)}



    {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً} هذا ترغيبٌ في الهجرة أي من يفارق وطنه ويهرب فراراً بدينه من كيد الأعداء يجد مُهَاجراً ومتجولاً في الأرض كبيراً يُراغم به أنف عدوه ويجد سعةً في الرزق فأرض الله واسعة ورزقه سابغ على العباد {يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإِياي فاعبدون} {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} أخبر تعالى أن من خرج من بلده مهاجراً من أرض الشرك فاراً بدينه إِلى الله ورسوله ثم مات قبل بلوغه دار الهجرة فقد ثبت أجر هجرته على الله تعالى {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} أي ساتراً على العباد رحيماً بهم .

    {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنْ الصَّلاةِ} أي وإِذا سافرتم للغزو أو التجارة أو غيرهما فلا إِثم عليكم أن تقصروا من الصلاة فتصلوا الرباعية ركعتين {إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي إِن خشيتم أن ينالكم مكروه من أعدائكم الكفرة، وذكرُ الخوف ليس للشرط وإِنما هو لبيان الواقع حيث كانت أسفارهم لا تخلو من خوف العدو لكثرة المشركين ويؤيده حديث "يَعْلَى بن أُمَيَّة" قال قلت لعمر بن الخطاب: إِن الله يقول: {إِنْ خِفْتُمْ} وقد أمن الناس فقال: عجبتُ مما عجبتَ منه فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال (صدقةٌ تصدَّق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته) {إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا} أي إِن الكافرين أعداء لكم مظهرون للعداوة ولا يمنعهم فرصة اشتغالكم بمناجاة الله أن يقتلوكم .

    {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمْ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ} أي وإِذا كنت معهم يا محمد وهم يصلون صلاة الخوف في الحرب فلتأتم بك طائفة منهم وهم مدججون بأسلحتهم احتياطاً ولتقم الطائفة الأخرى في وجه العدو {فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ} أي فإِذا فرغت الطائفة الأولى من الصلاة فلتأت الطائفة التي لم تصلّ إِلى مكانها لتصلي خلفك {وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ} أي وليكونوا حذرين من عدوهم متأهبين لقتالهم بحملهم السلاح .

    {وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً} أي تمنى أعداؤكم أن تنشغلوا عن أسلحتكم وأمتعتكم فيأخذوكم غرة، ويشدوا عليكم شدة واحدة فيقتلوكم وأنتم تصلون والمعنى لا تتشاغلوا بأجمعكم بالصلاة فيتمكن عدوكم منكم ولكن أقيموها على الوجه الذي أُمرتم به {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ} أي لا إِثم عليكم في حالة المطر أو المرض أن لا تحملوا أسلحتكم إِذا ضعفتم عنها {وَخُذُوا حِذْرَكُمْ} أي كونوا متيقظين واحترزوا من عدوكم ما استطعتم .

    {إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا} أي أعدَّ لهم عذاباً مع الإِهانة، روى ابن كثير عند هذه الآية عن أبي عياش الزُرقي قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعُسفان فاستقبلنا المشركون عليهم خالد بن الوليد - وهم بيننا وبين القبلة - فصلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر فقالوا: لقد كانوا على حالٍ لو أصبنا غرتهم ثم قالوا: يأتي عليهم الآن صلاة هي أحبُّ إِليهم من أبنائهم وأنفسهم قال: فنزل جبريل بهذه الآيات بين الظهر والعصر {وإِذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة} الآية.

    ثم أمر تعالى بكثرة ذكره عقب صلاة الخوف فقال {فَإِذَا قَضَيْتُمْ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ} أي فإِذا فرغتم من الصلاة فأكثروا من ذكر الله في حال قيامكم وقعودكم واضطجاعكم واذكروه في جميع الحالات لعله ينصركم على عدوكم {فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} أي فإِذا أمنتم وذهب الخوف فأتموا الصلاة وأقيموها كما أُمرتم بخشوعها وركوعها وسجودها وجميع شروطها {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} أي فرضاً محدوداً بأوقات معلومة لا يجوز تأخيرها عنه.



    الجهاد والصبر عند الشدائد



    {وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنْ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا(104)}



    ثم حث تعالى على الجهاد والصبر عند الشدائد فقال {وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ} أي لا تضعفوا في طلب عدوكم بل جدّوا فيهم وقاتلوهم واقعدوا لهم كل مرصد {إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنْ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ} أي إِن كنتم تتألمون من الجراح والقتال فإِنهم يتألمون أيضاً منه كما تتألمون ولكنكم ترجون من الله الشهادة والمثوبة والنصر حيث لا يرجونه هم {وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} أي عليماً بمصالح خلقه حكيماً في تشريعه وتدبيره، قال القرطبي: نزلت هذه الآية في حرب أُحد حيث أمر صلى الله عليه وسلم بالخروج في آثار المشركين وكان بالمسلمين جراحات وكان أمر ألا يخرج معه إِلا من حضر في تلك الوقعة، وقيل: هذا في كل جهاد.


  5. #29


    Join Date
    May 2008
    Location
    يمنيه وافتخر........ حاليا خارج اليمن
    العمر
    35
    Posts
    6,090
    Rep Power
    334

    رد: ......... تفسير القران الكريم................

    القضاء بالحق والعدل



    {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا(105)وَاسْتَغْفِرْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا(106)وَلا تُجَادِلْ عَنْ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا(107)يَسْتَخْفُونَ مِنْ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنْ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنْ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا(108)هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً(109)وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرْ اللَّهَ يَجِدْ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا(110)وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا(111)وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدْ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا(112)وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا(113)}



    {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} أي إِنا أنزلنا إِليك يا محمد القرآن متلبساً بالحق لتحكم بين الناس بما عرّفك الله وأوحى به إِليك {وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} أي لا تكن مدافعاً ومخاصماً عن الخائنين تجادل وتدافع عنهم، والمراد به "طعمة بن أبيرق" وجماعته {وَاسْتَغْفِرْ اللَّهَ} أي استغفر الله مما هممتَ به من الدفاع عن طُعْمة اطمئناناً لشهادة قومه بصلاحه {إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} أي مبالغاً في المغفرة والرحمة لمن يستغفره .

    {وَلا تُجَادِلْ عَنْ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ} أي لا تخاصم وتدافع عن الذين يخونون أنفسهم بالمعاصي {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا} أي لا يحب من كان مفرطاً في الخيانة منهمكاً في المعاصي والآثام {يَسْتَخْفُونَ مِنْ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنْ اللَّهِ} أي يستترون من الناس خوفاً وحياءً ولا يستحيون من الله وهو أحق بأن يُستحيا منه ويخاف من عقابه {وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنْ الْقَوْلِ} أي وهو معهم جل وعلا عالم بهم وبأحوالهم سمع ما يدبرونه في الخفاء ويضمرونه في السر من رمي البريء وشهادة الزور والحلف الكاذب {وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا} أي لا يعزب عنه شيء منها ولا يفوت .

    ثم قال تعالى توبيخاً لقوم طُعْمة {هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أي هاأنتم يا معشر القوم دافعتم عن السارق والخائنين في الدنيا {فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} أي فمن يدافع عنهم في الآخرة إِذا أخذهم الله بعذابه؟ {أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً}؟؟ أي من يتولى الدفاع عنه ونصرتهم من بأس الله وانتقامه؟

    ثم دعاهم الله تعالى إِلى الإِنابة والتوبة فقال {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ} أي من يعمل أمراً قبيحاً يسوء به غيره كاتهام بريء أو يرتكب جريمة يظلم بها نفسه كالسرقة {ثُمَّ يَسْتَغْفِرْ اللَّهَ يَجِدْ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا} أي ثم يتوب من ذنبه يجد الله عظيم المغفرة واسع الرحمة، قال ابن عباس: عرض اللهُ التوبة بهذه الآية على بني أُبيرق {وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} أي من يقترف إِثماً متعمداً فإِنما يعود وبال ذلك على نفسه وكان الله عليماً بذنبه حكيماً في عقابه {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا} أي من يفعل ذنباً صغيراً أو إِثماً كبيراً {ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدْ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} أي ثم ينسب ذلك إلى بريء ويتهمه به فقد تحمّل جرماً وذنباً واضحاً.

    ثم بين تعالى فضله على رسوله فقال {وَلَوْلا فضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ} أي لولا فضل الله عليك بالنبوة ورحمته بالعصمة لهمت جماعة منهم أن يضلوك عن الحق، وذلك حين سألوا الرسول صلى الله عليه وسلم أن يبرئ صاحبهم "طُعْمة" من التهمة ويلحقها باليهودي فتفضل الله عز وجل على رسوله بأن أطلعه على الحقيقة {وَمَا يُضِلُّونَ إِلا أَنفُسَهُمْ} أي وبال إِضلالهم راجع عليهم {وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ}{وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} أي القرآن والسنة فكيف يضلونك وهو تعالى يُنزل عليك الكتاب ويوحي إِليك بالأحكام {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} أي علمك ما لم تكن تعلمه من الشرائع والأمور وكان فضله تعالى عليك كبيراً بالوحي والرسالة وسائر النعم الجسيمة.





    حالات النجوى الخيِّرة، والتحذير من مخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم



    {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا(114)وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا(115)}



    المنَــاسَـــبَة:

    لما ذكر تعالى قصة طُعْمة وحادثة السرقة التي اتهم بها اليهودي البريء ودفاع قومه عنه وتآمرهم في السرّ لإِيقاع البرئ بها، ذكر تعالى هنا أن موضوع النجوى لا يخفى على الله وأن كل تدبير في السرّ يعلمه الله، وأنه لا خير في التناجي إِلا ما كان يقصد الخير والإِصلاح، ثم ذكر تعالى أن مخالفة أمر الرسول صلى الله عليه وسلم جرمٌ عظيم وحذَّر من الشيطان وطرق إغوائه، ثم عاد الحديث إلى التحذير من ظلم النساء في ميراثهِن وأكد على وجوب الإِحسان إِليهن، وأعقبه بذكر النشوز والطريق إِلى الإِصلاح بين الزوجين إِما بالوفاق أو بالفراق.



    سبب النزول:

    أ- لما سرق "طعمة بن أبيرق" وحكم النبي صلى الله عليه وسلم عليه بالقطع هرب إلى مكة وارتد عن الإِسلام فأنزل الله {وَمَنْ يُشَاقِقْ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى} [النساء: 115].



    {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ} أي لا خير في كثير مما يُسرّه القوم ويتناجون به في الجفاء {إِلا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} أي إلا نجوى من أمر بصدقةٍ ليعطيها سراً أو أمر بطاعة الله، قال الطبري: المعروف هو كل ما أمر الله به أو ندب إليه من أعمال البر والخير، والإِصلاح هو الإِصلاح بين المختصمَين {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ} أي ومن يفعل ما أمر به من البر والمعروف والإِصلاح طلباً لرضى الله تعالى لا لشيء من أغراض الدنيا {فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} أي فسوف نعطيه ثواباً جزيلاً هو الجنة، قال الصاوي: والتعبير بسوف إشارة إلى أن جزاء الأعمال الصالحة في الآخرة لا في الدنيا لأنها ليست دار جزاء .

    {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى} أي يخالف أمر الرسول فيما جاء به عند الله من بعد ما ظهر له الحق بالمعجزات {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} أي يسلك طريقاً غير طريق المؤمنين ويتبع منهاجاً غير منهاجهم {نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ} أي نتركه مع اختياره الفاسد وندخله جهنم عقوبة له {وَسَاءَتْ مَصِيرًا} أي وساءت جهنم مرجعاً لهم.



    التحذير من الشرك والشيطان وطرق إغوائه، وجزاء الإيمان والعمل الصالح



    {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيدًا(116)إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلا شَيْطَانًا مَرِيدًا(117)لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لأتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا(118)وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا(119)يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمْ الشَّيْطَانُ إِلا غُرُورًا(120)أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا(121)وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ قِيلاً(122)}



    {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} أي لا يغفر ذنب الشرك ويغفر ما دونه من الذنوب لمن يريد {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيدًا} أي فقد بَعُد عن طريق الحق والسعادة بعداً كبيراً {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلا إِنَاثًا} أي ما يدعو هؤلاء المشركون وما يعبدون من دون الله إلا أوثاناً سموها بأسماء الإِناث "اللات والعزى ومناة" قال في التسهيل: كانت العرب تسمي الأصنام بأسماء مؤنثة {وَإِنْ يَدْعُونَ إِلا شَيْطَانًا مَرِيدًا} أي وما يعبدون إلا شيطاناً متمرداً بلغ الغاية في العتو والفجور وهو إبليس الذي فسق عن أمر ربه .

    {لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لأتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا} أي أبعده الله عن رحمته فأقسم الشيطان قائلاً: لأتخذنَّ من عبادك الذين أبعدتني من أجلهم نصيباً أي حظاً مقدراً معلوماً أدعوهم إلى طاعتي من الكفرة والعصاة وفي صحيح مسلم يقول الله تعالى لآدم يوم القيامة "إبعثْ بعثَ النار فيقول: وما بعثُ النار؟ فيقول من كل ألفٍ تسعمائةٌ وتسعة وتسعون" {وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ} أي لأصرفَنَهم عن طريق الهدى وأعدهم الأماني الكاذبة وألقي في قلوبهم طول الحياة وأن لا بعث ولا حساب {وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأنْعَامِ} أي ولآمرنهم بتقطيع آذان الأنعام، قال قتادة: يعني تشقيقها وجعلها علامة للبحيرة والسائبة كما كانوا يفعلون في الجاهلية {وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} أي ولآمرنهم بتغيير خلق الله كخصباء العبيد والحيوان والوشم وغيره وقيل: المراد به تغيير دين الله بالكفر والمعاصي وإحلال ما حرّم الله وتحريم ما أحل {وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي ومن يتول الشيطان ويطعْه ويترك أمر الله {فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا} أي خسر دنياه وآخرته لمصيره إلى النار المؤبدة وأي خسرانٍ أعظم من هذا؟

    ثم قال تعالى عن إبليس {يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ} أي يعدهم بالفوز والسعادة ويمنيهم بالأكاذيب والأباطيل، قال ابن كثير: هذا إخبارٌ عن الواقع فإن الشيطان يعد أولياءه ويمنيهم بأنهم هم الفائزون في الدنيا والآخرة وقد كذب وافترى في ذلك {وَمَا يَعِدُهُمْ الشَّيْطَانُ إِلا غُرُورًا} أي وما يعدهم إلا باطلاً وضلالاً، قال ابن عرفة: الغُرور ما له ظاهر محبوب وباطن مكروه، فهو مزيّن الظاهر فاسد الباطن .

    {أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ} أي مصيرهم ومآلهم يوم القيامة نار جهنم {وَلا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا} أي ليس لهم منها مفر ولا مهرب، ثم ذكر تعالى حال السعداء الأبرار وما لهم من الكرامة في دار القرار فقال {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} أي مخلدين في دار النعيم بلا زوال ولا انتقال {وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا} أي وعداً لا شك فيه ولا ارتياب {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ قِيلاً} أي ومن أصدق من الله قولاً؟ والاستفهام معناه النفيُ أي لا أحد أصدق قولاً من الله، قال أبو السعود: والمقصود معارضة مواعيد الشيطان الكاذبة لقرنائه بوعد الله الصادق لأوليائه.



    استحقاق الجنة ليس بالأماني، والعبرة بحسن العمل



    {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا(123)وَمَنْ يَعْمَلْ مِنْ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا(124)وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً(125)وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا(126)}



    قال قتادة: تفاخر المؤمنون وأهل الكتاب فقال أهل الكتاب: نبينا قبل نبيكم، وكتابنا قبل كتابكم ونحن أحقٌ بالله منكم، وقال المؤمنون: نبينا خاتم النبيين وكتابنا يقضي على سائر الكتب فنزلت {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ} [النساء: 123].

    {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ} أي ليس ما وعد الله تعالى من الثواب يحصل بأمانيكم أيها المسلمون ولا بأماني أهل الكتاب وإنما يحصل بالإِيمان والعمل الصالح، قال الحسن البصري: ليس الإِيمان بالتمني ولكنْ ما وقر في القلب وصدّقه العمل، إن قوماً ألهتهم الأماني حتى خرجوا من الدنيا ولا حسنة لهم وقالوا نحسن الظن بالله، وكذبوا لو أحسنوا الظن به لأحسنوا العمل {مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} أي من يعمل السوء والشر ينال عقابه عاجلاً أو آجلاً {وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا} أي لا يجد من يحفظه أو ينصره من عذاب الله .

    {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنْ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ} أي ومن يعمل الأعمال الصالحة سواءً كان ذكراً أو أنثى بشرط الإِيمان {فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا} أي يدخلهم الله الجنة ولا يُنقصون شيئاً حقيراً من ثواب أعمالهم كيف لا والمجازي أرحم الراحمين!! وإنما قال {وَهُوَ مُؤْمِنٌ} ليبيّن أن الطاعة لا تنفع من دون الإِيمان، ثم قال تعالى {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ}؟ أي لا أحد أحسن ديناً ممن انقاد لأمر الله وشرعه وأخلص عمله لله {وَهُوَ مُحْسِنٌ} أي مطيعٌ لله مجتنبٌ لنواهيه {وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} أي واتبع الدين الذي كان عليه إبراهيم خليل الرحمن، مستقيماً على منهاجه وسبيله وهو دين الإِسلام {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} أي صفياً اصطفاه لمحبته وخلته قال ابن كثير: فإنه انتهى إلى درجة الخلة التي هي أرفع مقامات المحبة وما ذاك إلا لكثرة طاعته لربه .

    {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ} أي جميع ما في الكائنات ملكه وعبيده وخلقه وهو المتصرف في جميع ذلك، لا رادّ لما قضى ولا معقب لما حكم {وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا} أي علمه نافذ في جميع ذلك لا تخفى عليه خافية.



    التحذير من ظلم النساء في مِيراثهن، والصلح بين الزوجين بسبب النشوز،

    والعدل بين النساء



    {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلْ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا(127)وَإِنْ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الأنفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا(128)وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا(129)وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلاً مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا(130)}



    {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ} أي يسألونك عما يجب عليهم في أمر النساء {قُلْ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ} أي قل لهم يا محمد: يبين الله لكم ما سألتم في شأنهنَّ ويبين لكم ما يتلى في القرآن من أمر ميراثهن {فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنكِحُوهُنَّ} أي ويفتيكم أيضاً في اليتيمات اللواتي ترغبون في نكاحهن لجمالهن أو لمالهنَّ ولا تدفعون لهن مهورهنَّ كاملة فنهاهم الله عز وجل عن ذلك، قال ابن عباس: كان الرجل في الجاهلية تكون عنده اليتيمة فيلقي عليها ثوبه فإِذا فعل ذلك لم يقدر أحد أن يتزوجها أبداً فإن كانت جميلة واحبها تزوجها وأكل مالها، وإن كانت دميمةً منعها الرجال حتى تموت فإذا ماتت ورثها، فحرم الله ذلك ونهى عنه {وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ} أي ويفتيكم في المستضعفين الصغار أن تعطوهم حقوقهم وأن تعدلوا مع اليتامى في الميراث والمهر، وقد كان أهل الجاهلية لا يورثون الصغار ولا النساء ويقولون: كيف نعطي المال من لا يركب فرساً ولا يحمل سلاحاً ولا يقاتل عدواً! فنهاهم الله عن ذلك وأمرهم أن يعطوهم نصيبهم من الميراث {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا} أي وما تفعلوه من عدلٍ وبرٍّ في أمر النساء واليتامى فإن الله يجازيكم عليه، قال ابن كثير: وهذا تهييجٌ على فعل الخيرات وامتثال الأوامر وأن الله سيجزي عليه أوفر الجزاء.

    ثم ذكر تعالى حكم نشوز الرجل فقال {وَإِنْ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا} أي وإذا علمت امرأة أو شعرت من زوجها الترفع عليها أو الإِعراض عنها بوجهه بسبب الكره لها لدمامتها أو لكبر سنها وطموح عينه إلى من هي أشبُّ وأجمل منها {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا} أي فلا حرج ولا إثم على كل واحد من الزوجين من المصالحة والتوفيق بينهما بإسقاط المرأة بعض حقوقها من نفقةٍ أو كسوةٍ أو مبيت لتستعطفه بذلك وتستديم مودته وصحبته، روى ابن جرير عن عائشة أنها قالت: هذا الرجل يكون له امرأتان إحداهما قد عجزت أو دميمة وهو لا يحبها فتقول: لا تطلقني وأنت حلٍّ من شأني {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} أي والصلح خيرٌ من الفراق {وَأُحْضِرَتِ الأنفُسُ الشُّحَّ} أي جبلت الأنفس على الشح وهو شدة البخل فالمرأة لا تكاد تسمح بحقها من النفقة والاستمتاع، والرجل لا تكاد نفسه تسمح بأن يقسم لها وأن يمسكها إذا رغب عنها وأحبَّ غيرها {وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا} أي وإن تحسنوا في معاملة النساء وتتقوا الله بترك الجور عليهن {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} أي فإن الله عالم بما تعملون وسيجزيكم عليه أوفر الجزاء .

    ثم ذكر تعالى أن العدل المطلق بين النساء بالغٌ من الصعوبة مبلغاً لا يكاد يطاق، وهو كالخارج عن حد الاستطاعة فقال {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ} أي لن تستطيعوا أيها الرجال أن تحققوا العدل التام الكامل بين النساء وتسوّوا بينهن في المحبة والأُنس والاستمتاع {وَلَوْ حَرَصْتُمْ} أي ولو بذلتم كل جهدكم لأن التسوية في المحبة وميل القلب ليست بمقدور الإِنسان {فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} أي لا تميلوا عن المرغوب عنها ميلاً كاملاً فتجعلوها كالمعلقة التي ليست بذات زوج ولا مطلقة، شبّهت بالشيء المعلَّق بين السماء والأرض، فلا هي مستقرة على الأرض ولا هي في السماء، وهذا من أبلغ التشبيه.

    {وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا} أي وإن تصلحوا ما مضى من الجور وتتقوا الله بالتمسك بالعدل {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} أي يغفر ما فرط منكم ويرحمكم {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلاً مِنْ سَعَتِهِ} أي وإن يفارق كل واحد منهما صاحبه، فإن الله يغنيه بفضله ولطفه، بأن يرزقه زوجاً خيراً من زوجه، وعيشاً أهنأ من عيشه {وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا} أي واسع الفضل على العباد حكيماً في تدبيره لهم.



    حقيقة الملك وكمال القدرة والمشيئة لله تعالى وثواب الدنيا والآخرة



    {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا(131)وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً(132)إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا(133)مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا(134)}



    {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ} أي ملكاً وخلقاً وعبيداً {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ} أي وصينا الأولين والآخرين وأمرناكم بما أمرناهم به من امتثال الأمر والطاعة {أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} أي وصيناكم جميعاً بتقوى الله وطاعته {وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ} أي وإن تكفروا فلا يضره تعالى كفركم لأنه مستغنٍ عن العباد وهو المالك لما في السماوات والأرض {وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا} أي غنياً عن خلقه، محموداً في ذاته، لا تنفعه طاعة الطائعين، ولا تضره معصية العاصين .

    {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً} أي كفى به حافظاً لأعمال عباده {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ} أي لو أراد الله لأهلككم وأفناكم وأتى بآخرين غيركم {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا} أي قادراً على ذلك {مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} أي من كان يريد بعمله أجر الدنيا فعند الله ما هو أعلى وأسمى وهو أجر الدنيا والآخرة فلم يطلب الأخسّ ولا يطلب الأعلى؟ فليسأل العبد ربه خيري الدنيا والآخرة فهو تعالى سميع لأقوال العباد بصير بأعمالهم.





    العدل في القضاء والشهادة بحق، والإيمان بالله والرسول والكتب السماوية



    {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوْ الْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا(135)يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيدًا(136)}



    المنَـاسَــبَة:

    لما أمر تعالى بالإِحسان إِلى النساء والعدل في معاملتهن، أمر هنا بالعدل العام في جميع الأحكام، ودعا إِلى أداء الشهادة على الوجه الأكمل سواء كان المشهود عليه غنياً أو فقيراً، وحذّر من اتباع الهوى، ثم دعا إِلى الإِيمان بجميع الملائكة والكتب والرسل، ثم أعقب ذلك بذكر أوصاف المنافقين المخزية وما لهم من العذاب والنكال في دركات الجحيم.



    {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ} أي يا من آمنتم بالله وصدقتم كتابه كونوا مجتهدين في إِقامة العدل والاستقامة وأتى بصيغة المبالغة في {قَوَّامِينَ} حتى لا يكون منهم جورٌ أبداً {شُهَدَاءَ لِلَّهِ} أي تقيمون شهاداتكم لوجه الله دون تحيز ولا محاباة {وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوْ الْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ} أي ولو كانت تلك الشهادة على أنفسكم أو على آبائكم أو أقربائكم فلا تمنعنكم القرابة ولا المنفعة عن أداء الشهادة على الوجه الأكمل فإِن الحق حاكم على كل إِنسان.

    {إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا} أي إِن يكن المشهود عليه غنياً فلا يراعى لغناه، أو فقيراً فلا يمتنع من الشهادة عليه ترحماً وإِشفاقاً {فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا} أي فالله أولى بالغني والفقير وأعلم بما فيه صلاحهما فراعوا أمر الله فيما أمركم به فإِنه أعلم بمصالح العباد منكم {فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا} أي فلا تتبعوا هوى النفس مخافة أن تعدلوا بين الناس، قال ابن كثير: أي لا يحملنكم الهوى والعصبية وبغض الناس إِليكم على ترك العدل في شؤونكم بل الزموا العدل على كل حال {وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا} أي وإِن تلووا ألسنتكم عن شهادة الحق أو تُعرضوا عن إِقامتها رأساً {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} فيجازيكم عليه.

    {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} أي اثبتوا على الإِيمان ودوموا عليه {وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ} أي آمنوا بالقرآن الذي نزل على محمد صلى الله عليه وسلم {وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ قَبْلُ} أي وبالكتب السماوية التي أنزلها من قبل القرآن، قال أبو السعود: المراد بالكتاب الجنس المنتظم لجميع الكتب السماوية {وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيدًا} أي ومن يكفر بشيء من ذلك فقد خرج عن طريق الهدى، وبَعُد عن القصد كل البعد.


  6. #30


    Join Date
    May 2008
    Location
    يمنيه وافتخر........ حاليا خارج اليمن
    العمر
    35
    Posts
    6,090
    Rep Power
    334

    رد: ......... تفسير القران الكريم................

    صفات المنافقين وجزاؤهم مواقفهم من المؤمنين



    {إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ءامَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً(137)بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا(138)الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا(139)وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا(140)الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً(141)}



    {إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ءامَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا} هذه الآية في المنافقين آمنوا ثم ارتدوا ثم آمنوا ثم ارتدوا ثم ماتوا على الكفر، قال ابن عباس: دخل في هذه الآية كل منافق كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم في البر والبحر، وقال ابن كثير: يخبر تعالى عمن دخل في الإِيمان ثم رجع ثم عاد إِلى الإِيمان ثم رجع واستمر على ضلاله ولهذا قال تعالى {لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً} أي لم يكن الله ليسامحهم على ذلك ولا ليهديهم طريقاً إِلى الجنة، قال الزمخشري: ليس المعنى انهم لو أخلصوا الإِيمان بعد تكرار الردة لم يُقبل منهم ولم يُغفر لهم ولكنه استبعاد له واستغراب كأنه أمر لا يكاد يكون، وهكذا ترى الفاسق الذي يتوب ثم يرجع ثم يتوب ثم يرجع لا يكاد يرجى منه الثبات، والغالب أنه يموت على شر حال، ثم أخبر تعالى عن مآل المنافقين فقال {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} عبّر تعالى بلفظ {بَشِّر} تهكماً بهم أي أخبر يا محمد المنافقين بعذاب النار الأليم .

    {الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} أي أولئك هم الذين يوالون الكافرين ويتخذونهم أعواناً وأنصارً لما يتوهمونه فيهم من القوة ويتركون ولاية المؤمنين {أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ} أي أيطلبون بموالاة الكفار القوة والغلبة؟ والاستفهام إِنكاري أي إِنّ الكفار لا عزة لهم فكيف تُبْتَغى منهم {فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} أي العزة لله ولأوليائه قال ابن كثير والمقصود من هذا التهييجُ على طلب العزة من جناب الله {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ} أي نزّل عليكم في القرآن، والخطابُ لمن أظهر الإِيمان من مؤمن ومنافق {أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ ءايَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا} أي أنزل عليكم أنه إِذا سمعتم القرآن يَكْفر به الكافرون ويَسْتهزئ به المستهزئون {فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} أي لا تجلسوا مع الكافرين الذين يستهزئون بآيات الله حتى يتحدثوا بحديث آخر ويتركوا الخوض في القرآن {إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ} أي إِنكم إِن قعدتم معهم كنتم مثلهم في الكفر {إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا} أي يجمع الفريقين الكافرين والمنافقين في الآخرة في نار جهنم لأن المرء مع من أحب، وهذا الوعيد منه تعالى للتحذير من مخالطتهم ومجالستهم .

    ثم ذكر تعالى تربصهم السوء بالمؤمنين فقال {الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ} أي ينتظرون بكم الدوائر {فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ} أي غلبةٌ على الأعداء وغنيمة {قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ} أي فأعطونا مما غنمتموه من الكافرين {وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ} أي ظفرٌ عليكم يا معشر المؤمنين {قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} أي قالوا للمشركين ألم نغلبكم ونتمكنْ من قتلكم وأسركم فأبقينا عليكم وثبطنا عزائم المؤمنين حتى انتصرتم عليهم؟ فهاتوا نصيبنا مما أصبتم لأننا نواليكم ولا نترك أحداً يؤذيكم قال تعالى بياناً لمآل الفريقين {فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} أي يحكم بين المؤمنين والكافرين ويفصل بينهم بالحق {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} أي لن يمكّنَ الكفرة من رقاب المؤمنين فيبيدوهم ويستأصلوهم، قال ابن كثير: وذلك بأن يسلطوا عليهم استيلاء استئصال بالكلية وإِن حصل لهم ظفر في بعض الأحيان، فإِن العاقبة للمتقين في الدنيا والآخرة.



    بعض مواقف المنافقين وعقابهم والنهي عن موالاة الكافرين



    {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلا قَلِيلاً(142)مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً(143)يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا(144)إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا(145)إِلا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا(146)مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَءامَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا(147)}



    {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} أي يفعلون ما يفعل المخادع من إِظهار الإِيمان وإِبطال الكفر والله يجازيهم على خداعهم ويستدرجهم بأمر المؤمنين بحقن دمائهم، وقد أعدّ لهم الدرك الأسفل من النار في الآخرة، فسمّى تعالى جزاءهم خداعاً بطريق المشاكلة لأن وبال خداعهم راجع عليهم {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى} أي يصلون وهم متثاقلون متكاسلون، لا يرجون ثواباً ولا يخافون عقاباً {يُرَاءُونَ النَّاسَ} أي يقصدون بصلاتهم الرياء والسمعة ولا يقصدون وجه الله {وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلا قَلِيلاً} أي لا يذكرون الله سبحانه إِلا ذكراً قليلاً.

    {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ} أي مضطربين مترددين بين الكفر والإِيمان، وصفهم تعالى بالحيرة في دينهم {لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ} أي لا ينتسبون إِلى المؤمنين ولا إِلى الكافرين {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً} أي ومن يضلله الله فلن تجد له طريقاً إلى السعادة والهدى.

    ثم حذّر تعالى المؤمنين من موالاة أعداء الدين فقال {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} أي لا تتركوا موالاة المؤمنين وتوالوا الكفرة المجرمين بالمصاحبة والمصادقة {أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا} أي أتريدون أن تجعلوا لله حجة بالغة عليكم أنكم منافقون؟ قال ابن عباس: كل سلطانٍ في القرآن حجةٌ.

    ثم أخبر تعالى عن مآل المنافقين فقال {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأسْفَلِ مِنْ النَّارِ} أي في الطبقة التي في قعر جهنم وهي سبع طبقات، قال ابن عباس: أي في أسفل النار، وذلك لأنهم جمعوا مع الكفر الاستهزاء بالإِسلام وأهله، والنارُ دركات كما أن الجنة درجات {وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} أي لن تجد لهؤلاء المنافقين ناصراً ينصرهم من عذاب الله {إِلا الَّذِينَ تَابُوا} وهذا استثناء أي تابوا عن النفاق {وَأَصْلَحُوا} أي أعمالهم ونياتهم {وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ} أي تمسكوا بكتاب الله ودينه {وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ} أي لم يبتغوا بعملهم إِلا وجه الله {فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} أي في زمرتهم يوم القيامة {وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} أي يعطيهم الأجر الكبير في الآخرة وهو الجنة {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَءامَنْتُمْ} أي أيُّ منفعةٍ له سبحانه في عذابكم؟ أيتشفى به من الغيظ، أم يدرك به الثأر، أم يدفع به الضر ويستجلب النفع وهو الغنى عنكم؟ {وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا} أي شاكراً لطاعة العباد مع غناه عنهم يعطي على العمل القليل الثواب الجزيل.





    الجهر بالسوء والعفو عنه، وإبداء الخير وإخفاؤه



    {لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا(148)إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا(149)}



    المنَــاسَـــبَة:

    لما ذكر تعالى المنافقين وفضحهم في الآيات السابقة، ذكر هنا أنه لا يحب إظهار الفضائح والقبائح، إِلا في حق من زاد ضررُه وعظُم خطرُه، فلا عجب أن يكشف الله عن المنافقين الستر، ثم تحدث عن اليهود وعدَّد بعض جرائمهم الشنيعة مثل طلبهم لرؤية الله، وعبادتهما للعجل، وادعائهم صلب المسيح، واتهامهم مريم البتول بالفاحشة إلى غير ما هنالك من قبائح وجرائم شنيعة.



    {لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلا مَنْ ظُلِمَ} أي لا يحب الله الفُحْش في القول والإِيذاء باللسان إِلا المظلوم فإِنه يباح له أن يجهر بالدعاء على ظالمه وأن يذكره بما فيه من السوء، قال ابن عباس: المعنى لا يحب الله أن يدعو أحد على أحد إِلا أن يكون مظلوماً {وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا} أي سميعاً لدعاء المظلوم عليماً بالظالم.

    {إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ} أي إِن أظهرتم أيها الناس عمل الخير أو أخفيتموه أو عفوتم عمن أساء إِليكم {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا} أي كان مبالغاً في العفو مع كمال قدرته على المؤاخذة، قال الحسن: يعفو عن الجانين مع قدرته على الانتقام فعليكم أن تقتدوا بسنة الله تعالى، وقد حثّ تعالى على العفو وأشار إِلى أنه عفوٌّ مع قدرته فكيف لا تعفون مع ضعفكم وعجزكم؟‍



    جزاء الكفر والإيمان



    {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً(150)أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا(151)وَالَّذِينَ ءامَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُوْلَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا(152)}



    {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} الآية في اليهود والنصارى لأنهم آمنوا بأنبيائهم وكفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم وغيره، جعل كفرهم ببعض الرسل كفراً بجميع الرسل، وكفرَهُم بالرسل كفراً بالله تعالى {وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ} التفريقُ بين الله ورسله أن يؤمنوا بالله ويكفروا برسله، وكذلك التفريق بين الرسل هو الكفر ببعضهم والإِيمان ببعضهم وقد فسره تعالى بقوله بعد {وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ} أي نؤمن ببعض الرسل ونكفر ببعض، قال قتادة: أولئك أعداء الله اليهود والنصارى، آمنت اليهود بالتوراة وموسى وكفروا بالإِنجيل وعيسى، وآمنت بالنصارى بالإِنجيل وعيسى وكفروا بالقرآن وبمحمد صلى الله عليه وسلم وتركوا الإِسلام دين الله الذي بعث به رسله {وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً} أي طريقاً وسطاً بين الكفر والإِيمان ولا واسطة بينهما .

    {أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا} أي هؤلاء الموصوفون بالصفات القبيحة هم الكافرون يقيناً ولو ادعوا الإِيمان {وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا}أي هيأنا لهم عذاباً شديداً مع الإِهانة والخلود في نار جهنم {وَالَّذِينَ ءامَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ} أي صدّقوا الله وأقروا بجميع الرسل وهم المؤمنون أتباع محمد صلى الله عليه وسلم لم يفرقوا بين أحد من رسله بل آمنوا بجميعهم {أُوْلَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ} أي سيعطيهم الله ثوابهم الكامل على الإِيمان بالله ورسله {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} أي غفوراً لما سلف منهم من المعاصي والآثام متفضلاً عليهم بأنواع الإِنعام.



    من مواقف اليهود المتعنتة



    {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وءاتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا(153)وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا(154)فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الأنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلا قَلِيلاً(155)وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا(156)وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا(157)بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا(158)وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا(159)}



    {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ} نزلت في أحبار اليهود حين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم إِن كنت نبياً فأتنا بكتاب من السماء جملة كما أتى به موسى جملة، وإِنما طلبوا ذلك على وجه التعنت والعناد، فذكر تعالى سؤالهم ما هو أفظع وأشنع من ذلك تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم وليتأسى بمن سبقه من الرسل فقال {فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً} أي سألوا موسى رؤية الله عز وجل عياناً {فَأَخَذَتْهُمْ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ} أي جاءتهم من السماء نار فأهلكتهم بسبب ظلمهم .

    {ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءتْهُمْ الْبَيِّنَاتُ} أي ثم اتخذوا العجل إِلهاً وعبدوه من بعد ما جاءتهم المعجزات والحجج الباهرات من العصا واليد وفلق البحر وغيرها، قال أبو السعود: وهذه المسألة - وهي طلب رؤية الله - وإِن صدرت عن أسلافهم لكنهم لما كانوا مقتدين بهم في كل ما يأتون ويذرون أسندت إِليهم {فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ} أي عفونا عما ارتكبوه مع عظم جريمتهم وخيانتهم {وَءاتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا} أي حجة ظاهرة تظهر صدقه وصحة نبوته، قال الطبري: وتلك الحجة هي الآيات البينات التي آتاه الله إِياها {وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ} أي رفعنا الجبل فوقهم لما امتنعوا عن قبول شريعة التوراة بسبب الميثاق ليقبلوه {وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا} أي ادخلوا باب بيت المقدس مطأطئين رؤوسكم خضوعاً لله فخالفوا ما أُمروا به ودخلوا يزحفون على أستاههم وهم يقولون حنطة في شعرة استهزاءً {وَقُلْنَا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ} أي لا تعتوا باصطياد الحيتان يوم السبت فخالفوا واصطادوا {وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} أي عهداً وثيقاً مؤكداً .

    {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ} أي فبسبب نقضهم الميثاق لعنّاهم وأذللناهم و{ما} لتأكيد المعنى {وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ} أي وبجحودهم بالقرآن العظيم {وَقَتْلِهِمُ الأنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ} كزكريا ويحيى عليهما السلام {وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ} أي قولهم للنبي صلى الله عليه وسلم قلوبنا مغشّاة بأغشية لا تعي ما تقوله يا محمد، قال تعالى رداً عليهم {بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً} أي بل ختم تعالى عليها بسبب الكفر والضلال فلا يؤمن منهم إِلا القليل كعبد الله بن سلام وأصحابه.

    {وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا} أي وبكفرهم بعيسى عليه السلام أيضاً ورميهم مريم بالزنى وقد فضلها الله على نساء العالمين {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ} أي قتلنا هذا الذي يزعم أنه رسول الله، وهذا إِنما قالوه على سبيل "التهكم والاستهزاء" كقول فرعون{إِن رسولكم الذي أُرسل إِليكم لمجنون} وإِلاّ فهم يزعمون أن عيسى ابن زنى وأمه زانية ولا يعتقدون أنه رسول الله تعالى {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} أي وما قتلوا عيسى ولا صلبوه ولكن قتلوا وصلبوا من أُلقي عليه شَبَهُه، قال البيضاوي: روي أن رجلاً كان ينافق لعيسى فخرج ليدل عليه فألقى الله عليه شبهه فأُخذ وصُلب وهم يظنون أنه عيسى .

    {وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ} أي وإِن الذين اختلفوا في شأن عيسى لفي شك من قتله، روي أنه لما رُفع عيسى وأُلقي شبهه على غيره فقتلوه قالوا: إِن كان هذا المقتول عيسى فأين صاحبنا؟ وإِن كان هذا صاحبنا فأين عيسى؟ فاختلفوا فقال بعضهم هو عيسى وقال بعضهم ليس هو عيسى بل هو غيره، فأجمعوا أن شخصاً قد قتل واختلفوا من كان {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلا اتِّبَاعَ الظَّنِّ} أي ما لهم بقتله علم حقيقي ولكنهم يتبعون فيه الظنَّ الذي تخيَّلوه {وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا * بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} أي وما قتلوه متيقنين أنه هو بل شاكين متوهمين ونجّاه الله من شرهم فرفعه إِلى السماء حياً بجسده وروحه كما دلت على ذلك الأحاديث الصحيحة {وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} أي عزيزاً في ملكه حكيماً في صنعه .

    {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} أي ليس أحد من اليهود والنصارى إِلا ليؤمننَّ قبل موته بعيسى وبأنه عبد الله ورسوله حين يعاين ملائكة الموت ولكن لا ينفعه إِيمانه، قال ابن عباس: لا يموت يهودي حتى يؤمن بعيسى قيل له: أرأيت إِن ضرُبت عُنق أحدهم؟ قال: يلجلج بها لسانه وكذا صحّ عن مجاهد وعكرمة وابن سيرين {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا} أي يشهد عيسى على اليهود بأنهم كذبوه وعلى النصارى بأنهم دعوه ابن الله.



    عاقبة ظلم اليهود وارتكابهم المنهي عنه، وثواب المؤمنين منهم



    {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا(160)وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا(161)لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أُوْلَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا(162)}



    {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} أي بسبب ظلم اليهود وما ارتكبوه من الذنوب العظيمة حرمنا عليهم أنواعاً من الطيبات التي كانت محلّلة لهم {وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا} أي وبمنعهم كثيراً من الناس عن الدخول في دين الله، قال مجاهد: صدوا أنفسهم وغيرهم عن الحق {وَأَخْذِهِمْ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ} أي تعاطيهم الربا وقد حرمه الله عليهم في التوراة {وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ} أي بالرشوة وسائر الوجوه المحرمة {وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} أي وهيأنا لمن كفر من هؤلاء اليهود العذاب المؤلم الموجع .

    {لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ} أي لكن المتمكنون في العلم منهم والثابتون فيه كعبد الله بن سلام وجماعته {وَالْمُؤْمِنُونَ} أي من المهاجرين والأنصار أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من غير أهل الكتاب {يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} أي يؤمنون بالكتب والأنبياء {وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ} أي أمدح المقيمين الصلاة فهو نصبٌ على المدح {وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} أي المعطون زكاة أموالهم {وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} أي والمؤمنون بوحدانية الله وبالبعث بعد الموت {أُوْلَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا} أي هؤلاء الموصوفون بالأوصاف الجليلة سنعطيهم ثواباً جزيلاً على طاعتهم هو الخلود في الجنة.







    وحدة الوحي الإلهي والحكمة من إرسال الرسل



    {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَءاتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا(163)وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا(164)رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا(165)لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا(166)}



    المنَـاسَــبَة:

    لما حكى تعالى جرائم اليهود التي من ضمنها كفرهم بعيسى ومحمد وزعمهم أنهم صلبوا المسيح، ذكر تعالى هنا أن الإِيمان بجميع الرسل شرط لصحة الإِيمان، وأنه أرسل سائر المرسلين مبشرين ومنذرين، ثم دعا النصارى إِلى عدم الغلو في شأن المسيح باعتقادهم فيه أنه ابن الله أو ثالث ثلاثة، فليس هو ابن الله كما يزعم النصارى وليس ابن زنى كما يزعم اليهود فكلا الفريقين واقع بين الإِفراط والتفريط، ثم ختمت السورة الكريمة بما ابتدأت به من رعاية حقوق الورثة من الأقرباء.



    {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} أي نحن أوحينا إِليك يا محمد كما أوحينا إِلى نوحٍ والأنبياء من بعده، وإِنما قدّم صلى الله عليه وسلم في الذكر وإِن تأخرت نبوته لتقدمه في الفضل {وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَءاتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا} أي وأوحينا إِلى سائر النبيين إِبراهيم وإِسماعيل وغيرهم وقد خصَّ تعالى بالذكر هؤلاء تشريفاً وتعظيماً لهم وبدأ بعد محمد صلى الله عليه وسلم بنوحٍ لأنه شيخ الأنبياء وأبو البشر الثاني ثم ذكر إِبراهيم لأنه الأب الثالث ومنه تفرعت شجرة النبوة كما قال تعالى {وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ} [العنكبوت: 27] وقدّم عيسى على أنبياء كانوا قبله لشدة العناية بأمره لغلو اليهود في الطعن فيه والنصارى في تقديسه {وءاتينا داود زبوراً} أي وخصصنا داود بالزبور، قال القرطبي: كان فيه مائة وخمسون سورة ليس فيها حكمٌ من الأحكام وإِنما هي حِكَمٌ ومواعظ.

    {وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ} أي وأرسلنا رسلاً منهم من ذكرنا أخبارهم لك يا محمد في غير هذه السورة {وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ} أي ورسلاً آخرين لم نخبرك عن أحوالهم {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} أي وخصّ الله موسى بأن كلّمه بلا واسطة ولهذا سُمي الكليم، وإِنما أكَّد {تَكْلِيمًا} رفعاً لاحتمال المجاز قال ثعلب: لولا التأكيد لجاز أن تقول: قد كلمت لك فلاناً بمعنى كتبت إِليه رقعة أو بعثت إِليه رسولاً فلما قال تكليماً لم يكن إِلا كلاماً مسموعاً من الله تعالى.

    {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ} أي يبشرون بالجنة من أطاع وينذرون بالنار من عصى {لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} أي بعثهم الله ليقطع حجة من يقول لو أُرسل إِليَّ رسولٌ لآمنتُ وأطعت فقطع الله حجة البشر بإِرسال الرسل وإِنزال الكتب {وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} أي عزيزاً في ملكه حكيماً في صنعه.

    ثم ذكر تعالى رداً على اليهود حين أنكروا نبوة محمد فقال {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ} أي إِن لم يشهد لك هؤلاء بالنبوة فالله يشهد لك بذلك بما أنزل إِليك من القرآن المعجز {أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ} أي أنزله بعلمه الخاص الذي لا يعلمه غيره بأسلوب يعجز عنه كل بليغ، والملائكة يشهدون كذلك بما أنزل الله إِليك ويشهدون بنبوتك {وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} أي كفى الله شاهداً فشهادته تعالى تغنيك وتكفيك وإِن لم يشهد غيره.





    جزاء الكافرين والدعوة للإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم



    {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيدًا(167)إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا(168)إِلا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا(169)يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا(170)}



    {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيدًا} أي كفروا بأنفسهم ومنعوا الناس عن الدخول في دين الله قد ضلوا عن طريق الرشاد ضلالاً بعيداً لأنهم جمعوا بين الضلال والإِضلال فضلالهم في أقصى الغايات {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا} قال الزمخشري: أي جمعوا بين الكفر والمعاصي {لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا} أي لن يعفو الله عنهم ولن يهديهم إِلى طريق الجنة لأنهم ماتوا على الكفر {إِلا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} أي لن يهديهم إِلا إِلى الطريق الموصلة إِلى جهنم {وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} لا يصعب عليه ولا يستعظمه .

    {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ} أي يا أيها الناس قد جاءكم محمد بالدين الحق والشريعة السمحة من عند ربكم {فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ} أي صدّقوا ما جاءكم من عند ربكم يكن الإِيمان خيراً لكم { وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ} أي وإِن تستمروا على الكفر فإِن الله غني عنكم لا يضره كفركم إِذ له ما في الكون ملكاً وخلقاً وعبيداً {وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} أي عليماً بأحوال العباد حكيماً فيما دبره لهم.



    سبب النزول:

    جاء وفد من النصارى إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا يا محمد: لم تعيب صاحبنا؟ قال: ومن صاحبكم؟ قالوا عيسى قال: وأي شيء أقول فيه؟ قالوا تقول: إِنه عبد الله ورسوله، فقال لهم: إِنه ليس بعار أن يكون عبداً لله قالوا: بلى فأنزل الله {لَنْ يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ} [النساء: 172].



    الرد على ضلالات النصارى وإفراطهم في تعظيم المسيح



    {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا علَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً(171)لَنْ يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا(172)فَأَمَّا الَّذِينَ ءامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا(173)}



    ولما ردّ تعالى شبهة اليهود فيما سبق أخذ في الردّ على ضلالات النصارى في إِفراطهم فقال {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} أي يا معشر النصارى لا تتجاوزوا الحدَّ في أمر الدين بإفراطكم في شأن المسيح وادعاء ألوهيته وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ} أي لا تصفوا الله بما لا يليق من الحلول والاتحاد واتخاذ الصاحبة والولد.

    {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ} أي ما عيسى إِلا رسولٌ من رسل الله وليس ابن الله كما زعمتم {وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ} أي وقد خلق بكلمته تعالى "كنْ" من غير واسطة أب ولا نطفة {وَرُوحٌ مِنْهُ} أي ذو روح مبتدأةٍ من الله وهو أثر نفخة جبريل في صدر مريم حيث حملت بتلك النفخة بعيسى، وإِنما أضيف إِلى الله تشريفاً وتكريماً {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} أي آمنوا بوحدانيته وصدقوا رسله أجمعين {وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ} أي لا تقولوا الآلهة ثلاثة: الله، والمسيح، ومريم، أو الله ثلاثة: الأب والإِبن وروح القدس، فنهاهم تعالى عن التثليث وأمرهم بالتوحيد لأن الإِله منزّه عن التركيب وعن نسبة المركب إِليه {انتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ} أي انتهوا عن التثليث يكن ذلك خيراً لكم.

    {إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ} أي منفرد في ألوهيته ليس كما تزعمون أنه ثالث ثلاثة {سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ} أي تنزّه الله عن أن يكون له ولد {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ} خلقاً وملكاً وعبيداً وهو تعالى لا يماثله شيء حتى يتخذه ولداً {وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً} تنبيه على غناه عن الولد أي كفى الله أن يقوم بتدبير مخلوقاته وحفظها فلا حاجة له إِلى ولدٍ أو معين لأنه مالك كل شيء.

    ثم ردّ تعالى على النصارى مزاعمهم الباطلة فقال {لَنْ يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ} أي لن يأنف ويتكبر المسيح الذي زعمتم أنه إِلهٌ عن أن يكون عبداً لله {وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} أي لا يستنكفون أيضاً أن يكونوا عبيداً لله {وَمَنْ يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا} أي ومن يأنف ويتكبر عن عبادة الله سبحانه فسيبعثهم يوم القيامة للحساب والجزاء {فَأَمَّا الَّذِينَ ءامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ} أي يوفيهم ثواب أعمالهم {وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} أي بإِعطائهم ما لا عينٌ رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر {وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} أي وأما الذين أنفوا وتعظّموا عن عبادته فسيعذبهم عذاباً موجعاً شديداً {وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا} أي ليس لهم من يتولاهم أو ينصرهم من عذاب الله.



    دعوة الناس للإيمان بالقرآن



    {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا(174)فَأَمَّا الَّذِينَ ءامَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا(175)}



    {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ} أي أتاكم حجة من الله وهو محمد رسول الله المؤيد بالمعجزات الباهرة {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا} أي أنزلنا عليكم القرآن ذلك النور الوضاء {فَأَمَّا الَّذِينَ ءامَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ} أي صدقوا بوحدانية الله وتمسكوا بكتابه المنير {فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ} أي سيدخلهم في جنته دار الخلود {وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} أي يهديهم إِلى دين الإِسلام في الدنيا وإِلى طريق الجنة في الآخرة.



    ميراث الكلالة: الإخوة والأخوات لأب وأم أو لأب



    {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالاً وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ(176)}



    {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ} أي يستفتونك يا محمد في شأن الميت إذا لم يكن له والدٌ أو ولد من يرثه؟ {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ} أي قل لهم من مات وليس له والدٌ أو ولد وهي الكلالة {وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} أي وله أخت شقيقة أو أخت لأب فلها نصف ما ترك أخوها {وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ} أي وأخوها الشقيق أو لأب يرث جميع ما تركت إِن لم يكن لها ولد.

    {فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ} أي إِن كانت الأختان اثنتين فأكثر فلهما الثلثان مما ترك أخوهم {وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالاً وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} أي وإِن كان الورثة مختلطين إِخوة وأخواتٍ فللذكر منهم مثل نصيب الأختين {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} أي يبيّن الله لكم أحكامه وشرائعه خشية أن تضلوا {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} أي يعلم ما فيه مصلحتكم ومنفعتكم فهو تعالى العالم بمصالح العباد في المحيا والممات.




  7. #31


    Join Date
    May 2008
    Location
    يمنيه وافتخر........ حاليا خارج اليمن
    العمر
    35
    Posts
    6,090
    Rep Power
    334

    رد: ......... تفسير القران الكريم................

    سورة المائدة



    الوفاء بالعقود ومنع الاعتداء والأمر بالتعاون على الخير وتعظيم شعائر الله

    بيان الأطعمة المحرمة وإكمال الدين وبيان حال وأحكام الضرورة

    المطعومات الحلال والزواج بالكتابيات

    فرضية الوضوء والغسل من الجنابة والتيمم

    الشهادة بالقسط والحكم بالعدل ووعد المؤمنين بالمغفرة والكافرين بالعذاب

    التذكير بنعمة الله ونقض اليهود والنصارى للميثاق

    كشف الرسول صلى الله عليه وسلم لما كان يخفيه أهل الكتاب، وهداية القرآن للحق

    الرد على معتقدات اليهود والنصارى

    تذكير موسى لقومه بنعم الله عليهم، وأمره لهم بدخول بيت المقدس

    قصة قابيل وهابيل، وأول جريمة قتل في الدنيا

    عقوبة قُطَّاع الطُّرق

    أَمَرَ الله المؤمنين بالتقوى والجهاد وبيَّن حال الكافرين في الآخرة

    حد السرقة

    "كلمة وجيزة حول قطع يد السارق"

    التوراة هدى ونور شُرِعَ القصاص فيها، وإلزام النصارى بالحكم بما فيها

    الحكم بشريعة القرآن

    النهي عن موالاة اليهود والنصارى

    المرتدُّون ومعاداتهم للمسلمين

    أسباب النهي عن موالاة الكفار

    من أقبح أقوال اليهود ، وإلقاء العداوة والبغضاء بينهم ، وجزاء إيمان أهل الكتاب

    أَمْرُ الرسول صلى الله عليه وسلم بتبليغ الوحي، وعصمته من الناس، ودعوة أهل الكتاب للإِيمان برسالة النبي صلى الله عليه وسلم

    تكذيب اليهود رسلَهم وقتلهم إياهم

    كفر النصارى بتأليههم المسيح، وما هو إلا بَشَرٌ رسول

    مناقشة النصارى في تأليه عيسى عليه السلام، ومطالبة أهل الكتاب بعدم الغلوّ في الدين،ولعنة بني إسرائيل لعدم نهيهم عن المنكر

    اليهود والنصارى في الميزان

    النهي عن تحريم الطيِّبات

    أنواع الأيمان وكفَّاراتها

    التحريم الصريح لعادات جاهلية

    قتل الصيد في الإحرام وما يترتب عليه من أحكام

    تعظيم البيت الحرام وجعله حرماً آمناً

    نفي المساواة بين الخبيث والطيب

    النهي عن الأسئلة غير المفيدة

    التحليل والتحريم لله وحده سبحانه وتعالى

    الهداية من الله والمرجع إليه

    الحض على الوصية والاهتمام بأمرها

    تذكير باليوم الآخر

    معجزات عيسى عليه السلام

    قصة المائدة

    عيسى عليه السلام ينفي عن نفسه مزاعم النصارى





    بَين يَدَيْ السُّورَة



    * سورة المائدة من السور المدنية الطويلة، وقد تناولت كسائر السور المدنية جانب التشريع بإِسهاب مثل سورة البقرة، والنساء، والأنفال، إِلى جانب موضوع العقيدة وقصص أهل الكتاب، قال أبو ميسرة: المائدة من آخر ما نزل من القرآن ليس فيها منسوخ وفيها ثمان عشرة فريضة.



    * نزلت هذه السورة منصرفَ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية، وجِمَاعها يتناول الأحكام الشرعية لأن الدولة الإِسلامية كانت في بداية تكوينها وهي بحاجة إِلى المنهج الرباني الذي يعصمها من الزلل، ويرسم لها طريق البناء والاستقرار.



    * أما الأحكام التي تناولتها السورة فنلخصها فيما يلي: "أحكام العقود، الذبائح، الصيد، الإِحرام، نكاح الكتابيات، الردة، أحكام الطهارة، حدّ السرقة، حدّ البغي والإفساد في الأرض، أحكام الخمر والميسر، كفارة اليمين، قتل الصيد في الإِحرام، الوصية عند الموت، البحيرة والسائبة، الحكم على من ترك العمل بشريعة الله" إِلى آخر ما هنالك من الأحكام التشريعية.



    * وإِلى جانب التشريع قصَّ تعالى علينا في هذه السورة بعض القصص للعظة والعبرة، فذكر قصة بني إِسرائيل مع موسى وهي قصة ترمز إِلى التمرد والطغيان ممثلة في هذه الشرذمة الباغية من "اليهود" حين قالوا لرسولهم {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة: 24] وما حصل لهم من التشرد والضياع إِذ وقعوا في أرض التيه أربعين سنة.





    *ثم قصة ابني آدم وهي قصةٌ ترمز إِلى الصراع العنيف بين قوتي الخير والشر، ممثلة في قصة "قابيل وهابيل" حيث قتل قابيل أخاه هابيل وكانت أول جريمة نكراء تحدث في الأرض أريق فيها الدم البريء الطاهر، والقصة تعرض لمنوذجين من نماذج البشرية: نموذج النفس الشريرة الأثيمة، ونموذج النفس الخيّرة الكريمة {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [المائدة: 30] كما ذكرت السورة قصة "المائدة" التي كانت معجزة لعيسى بن مريم ظهرت على يديه أمام الحواريين.

    والسورة الكريمة تعرض أيضاً لمناقشة "اليهود والنصارى" في عقائدهم الزائفة، حيث نسبوا إِلى الله ما لا يليق من الذرية والبنين، ونقضوا العهود والمواثيق، وحرفوا التوراة والإِنجيل، وكفروا برسالة محمد عليه السلام إِلى آخر ما هنالك من ضلالات وأباطيل، وقد ختمت السورة الكريمة بالموقف الرهيب يوم الحشر الأكبر حيث يُدْعى السيد المسيح عيسى بن مريم على رؤوس الأشهاد ويسأله ربه تبكيتاً للنصارى الذين عبدوه من دون الله {ءأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} [المائدة: 116] ويا له من موقف مخزٍ لأعداء الله، تشيب لهوله الرؤوس، وتتفطر من فزعه النفوس!!



    فضــلهَــا:

    عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: أُنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة المائدة وهو راكب على راحلته فلم تستطع أن تحمله فنزل عنها.





    التسميَة:

    سميت سورة "المائدة" لورود ذكر المائدة فيها حيث طلب الحواريون من عيسى عليه السلام آية تدل على صدق نبوته وتكون لهم عيداً وقصتها أعجبُ ما ذكر فيها لاشتمالها على آيات كثيرة ولطفٍ عظيم من الله العليّ الكبير.



    الوفاء بالعقود ومنع الاعتداء والتعاون على الخير وتعظيم شعائر الله



    {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامنوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ(1)يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا ءامِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ(2)}



    {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} الخطاب بلفظ الإِيمان للتكريم والتعظيم أي يا معشر المؤمنين أوفوا بالعقود وهو لفظ يشمل كل عقدٍ وعهد بين الإِنسان وربه وبين الإِنسان والإِنسان، قال ابن عباس: العقود العهود وهي ما أحلَّ الله وما حرّم وما فرض في القرآن كله من التكاليف والأحكام {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} أي أُبيح لكم أكل الأنعام وهي الإِبل والبقر والغنم بعد ذبحها إِلا ما حُرّم عليكم في هذه السورة وهي الميتة والدم ولحم الخنزير إلخ { غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} أي أُحلت لكم هذه الأشياء من غير أن تستحلوا الصيد وأنتم محرمون {إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} أي يقضي في خلقه بما يشاء لأنه الحكيم في أمره ونهيه .

    {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ} أي لا تستحلوا حُرمات الله ولا تعتدوا حدوده، قال الحسن: يعني شرائعه التي حدها لعباده، وقال ابن عباس: ما حرّم عليكم في حال الإِحرام {وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ} أي ولا تستحلوا الشهر الحرام بالقتال فيه، ولا ما أُهدي إِلى البيت أو قُلّد بقلادة ليعرف أنه هدي بالتعرض له ولأصحابه { وَلا ءاِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا} أي ولا تستحلوا قتال القاصدين إِلى بيت الله الحرام لحج أو عمرة، نهى تعالى عن الإِغارة عليهم أو صدهم عن البيت كما كان أهل الجاهلية يفعلون {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} أي إِذا تحللتم من الإِحرام فقد أُبيح لكم الصيد .

    { وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا} أي لا يحملنكم بغضُ قوم كانوا قد صدوكم عن المسجد الحرام على أن تعتدوا عليهم {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} أي تعاونوا على فعل الخيرات وترك المنكرات، وعلى ما يقرب إِلى الله {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} أي خافوا عقابه فإِنه تعالى شديد العقاب لمن عصاه.



    بيان الأطعمة المحرمة وإكمال الدين وبيان حال وأحكام الضرورة



    {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ(3)}



    {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ} أي حُرّم عليكم أيها المؤمنون أكل الميتة وهي ما مات حتف أنفه من غير ذكاة والدم المسفوح ولحم الخنزير، قال الزمخشري: كان أهل الجاهلية يأكلون هذه المحرمات: البهيمة التي تموت حتف أنفها والفصيد وهو الدم في الأمعاء يشوونه ويقولون لم يحرم من فُزد - أي فصد - له وإِنما ذكر لحم الخنزير ليبيّن أنه حرام بعينه حتى ولو ذبح بالطريق الشرعي {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ} أي ما ذكر عليه غير اسم الله أو ذبح لغير الله كقولهم باسم اللات والعزّى.

    {وَالْمُنْخَنِقَةُ} هي التي تُخنق بحبلٍ وشبهه {وَالْمَوْقُوذَةُ} هي المضروبة بعصا أو حجر {وَالْمُتَرَدِّيَةُ} هي التي تسقط من جبل ونحوه {وَالنَّطِيحَةُ} هي التي نطحتها بهيمة أُخرى فماتت بالنطح {وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ} أي أكل بعضَه السبع فمات {إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ} أي إِلا ما أدركتم فيه الروح من هذه الأشياء فذبحتموه الذبح الشرعي قبل الموت قال الطبري: معناه إِلاّ ما طهرتموه بالذبح الذي جعله الله طهوراً {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} أي وما ذُبح على الأحجار المنصوبة، قال قتادة: النُّصبُ حجارةٌ كان أهل الجاهلية يعبدونها ويذبحون لها فنهى الله عن ذلك، قال الزمخشري: كانت لهم حجارة منصوبة حول البيت يذبحون عليها ويشرحون اللحم عليها، يعظمونها بذلك ويتقربون به إِليها فنهى الله المؤمنين عن هذا الصنيع.

    {وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلامِ} أي وحُرّم عليكم الاستقسام بالأزلام أي طلب معرفة ما قُسم له من الخير والشر بواسطة ضرب القداح قال في الكشاف: كان أحدهم إِذا أراد سفراً أو غزواً أو تجاره أو نكاحاً أو أمراً من معاظم الأمور ضرب بالقداح وهي مكتوبة على بعضها: نهاني ربي، وعلى بعضها أمرني ربي، وبعضُها غُفْلٌ فإِن خرج الآمر مضى لغرضه وإِن خرج الناهي أمسك وإِن خرج الغفل أعاد {ذَلِكُمْ فِسْقٌ} أي تعاطيه فسقٌ وخروجٌ عن طاعة الله لأنه دخولٌ في علم الغيب الذي استأثر الله به علاّم الغيوب .

    {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ} أي انقطع طمع الكافرين منكم ويئسوا أن ترجعوا عن دينكم، قال ابن عباس: يئسوا أن ترجعوا إِلى دينهم أبداً {فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ} أي لا تخافوا المشركين ولا تهابوهم وخافون أنصركم عليهم وأجعلكم فوقهم في الدنيا والآخرة {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} أي أكملت لكم الشريعة ببيان الحلال والحرام {وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} بالهداية والتوفيق إِلى أقوم طريق {وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} أي اخترت لكم الإِسلام ديناً من بين الأديان وهو الدين المرضي الذي لا يقبل الله ديناً سواه {ومن يبتغ غير الإِسلام ديناً فلن يُقبل منه} {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} أي فمن ألجأته الضرورة إِلى تناول شيء من المحرمات المذكورة، في مجاعة حال كونه غير مائل إِلى الإِثم ولا متعمد لذلك، فإِن الله لا يؤاخده بأكله، لأن الضرورات تُبيح المحظورات.



    المطعومات الحلال والزواج بالكتابيات



    {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ(4)الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا ءاتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ(5)}



    {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ} أي يسألونك يا محمد ما الذي أُحل لهم من المطاعم والمآكل؟ {قُلْ أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ} أي قل لهم أُبيح لكم المستلذات وما ليس منها بخبيث، وحُرّم كل مستقذر كالخنافس والفئران وأشباهها .

    {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ} أي وأُحل لكم صيد ما علمتم من الجوارح وهي الكلاب ونحوها مما يُصطاد به {مُكَلِّبِينَ} أي مُعلمين للكلاب الاصطياد، قال الزمخشري: المكلِّب مؤدبُ الجوارح ورائضها واشتقاقه من الكَلَب لأن التأديب أكثر ما يكون في الكلاب {تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمْ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} أي تعلمونهنَّ طرق الاصطياد وكيفية تحصيل الصيد، إِذا لم تأكل منه، فإِن أكلت فلا يحل أكله لحديث (إِذا أرسلتَ كلبَك المُعلَّم فقتل فكلْ، وإِذا أكل فلا تأكل فإِنما أمسكه على نفسه) وعلامة المعلَّم أن يسترسل إِذا أُرسل، وينزجر إِذا زُجر، وأن يُمسك الصيد فلا يأكل منه، ويشترط أن يذكر اسم الله عند إِرساله فهذه أربع شروط لصحة الأكل من صيد الكلب المعلَّم {وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ} أي عند إِرساله {وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} أي راقبوا الله في أعمالكم فإِنه سريع المجازاة للعباد .

    {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} أي أبيح لكم المستلذات من الذبائح وغيرها {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} أي ذبائح اليهود والنصارى حلالٌ لكم {وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} أي ذبائحكم حلالٌ لهم فلا حرج أن تُطعموهم وتبيعوه لهم {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ} أي وأُبيح لكم أيها المؤمنون زواج الحرائر العفيفات من المؤمنات {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} أي وزواج الحرائر من الكتابيات (يهوديات أو نصرانيات) وهذا رأي الجمهور، وقال عطاء: قد أكثر الله المسلمات وإِنما رخص لهم يومئذٍ {إِذَا ءاتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} أي إِذا دفعتم لهن مهورهن {مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} أي حال كونكم أعفاء بالنكاح غير مجاهرين بالزنى {وَلا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ} أي وغير متخذين عشيقات وصديقات تزنون بهن سراً، قال الطبري: المعنى ولا منفرداً ببغية قد خادنها وخادنته واتخذها لنفسه صديقةً يفجر بها .

    {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} أي ومن يرتد عن الدين ويكفر بشرائع الإِيمان فقد بطل عمله وهو من الهالكين.

  8. #32


    Join Date
    May 2008
    Location
    يمنيه وافتخر........ حاليا خارج اليمن
    العمر
    35
    Posts
    6,090
    Rep Power
    334

    رد: ......... تفسير القران الكريم................

    فرضية الوضوء والغسل من الجنابة والتيمم



    {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ(6)وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ(7)}



    ثم أمر تعالى بإِسباغ الوضوء عند الصلاة فقال {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} أي إِذا أردتم القيام إِلى الصلاة وأنتم محدثون {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} أي اغسلوا الوجوه والأيدي مع المرافق {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} أي امسحوا رؤوسكم واغسلوا أرجلكم إِلى الكعبين أي معهما قال الزمخشري: وفائدة المجيء بالغاية {إِلَى الْكَعْبَيْنِ} لدفع ظن من يحسبها ممسوحة لأن المسح لم تُضرب له غاية في الشريعة وفي الحديث (ويلٌ للأعقاب من النار) وهذا الحديث يردُّ على الإِمامية الذين يقولون بأن الرجلين فرضهما المسحُ لا الغسل، والآية صريحة لأنها جاءت بالنصب {وَأَرْجُلَكُم} فهي معطوفة على المغسول وجيء بالمسح بين المغسولات لإِفادته الترتيب.

    {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} أي إِن كنتم في حالة جنابة فتطهروا بغسل جميع البدن {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ} أي إِن كنتم مرضى ويضركم الماء، أو كنتم مسافرين ولم تجدوا الماء {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} أي أتى من مكان قضاء الحاجة {أَوْ لامَسْتُمْ النِّسَاءَ} أي جامعتموهنَّ { فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} أي ولم تجدوا الماء بعد طلبه فاقصدوا التراب الطاهر للتيمم به.

    {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} أي امسحوا وجوهكم وأيديكم بالتراب بضربتين كما وضحّت السنة النبوية {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} أي ما يُريد بما فرض عليكم من الوضوء والغسل والتيمم تضييقاً عليكم {وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أي يطهركم من الذنوب وأدناس الخطايا بالوضوء والتيمم، وليتم نعمته عليكم ببيان شرائع الإِسلام ولتشكروه على نعمه التي لا تحصى .

    {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} الخطاب للمؤمنين والنعمةُ هنا الإِسلام وما صاروا إِليه من اجتماع الكلمة والعزة أي اذكروا يا أيها المؤمنون نعمة الله العظمى عليكم بالإِسلام وعهده الذي عاهدكم عليه رسوله حين بايعتموه على السمع والطاعة في العسر واليسر، والمنشط والمكره {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} أي اتقوا الله فإِنه عالم بخفايا نفوسكم فيجازيكم عليها.



    الشهادة بالقسط والحكم بالعدل ووعد المؤمنين بالمغفرة والكافرين بالعذاب



    {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ للهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ(8)وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ(9)وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ(10)}



    {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ للهِ} أي كونوا مبالغين في الاستقامة بشهادتكم لله وصيغة قوّام للمبالغة {شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ} أي تشهدون بالعدل {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا } أي لا يحملنكم شدة بغضكم للأعداء على ترك العدل فيهم والاعتداء عليهم { اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} أي العدل مع من تبغضونهم أقرب لتقواكم لله {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} أي مطلع على أعمالكم ومجازيكم عليها، قال الزمخشري: وفي هذا تنبيه عظيم على أن العدل إِذا كان واجباً مع الكفار الذين هم أعداء الله وكان بهذه الصفة من القوة، فما الظن بوجوبه مع المؤمنين الذين هم أولياؤه وأحباؤه؟!

    {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} أي وعد الله المؤمنين المطيعين {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} أي لهم في الآخرة مغفرة للذنوب وثواب عظيم وهو الجنة {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} لما ذكر مآل المؤمنين المتقين وعاقبتهم ذكر مآل الكافرين المجرمين وأنهم في دركات الجحيم دائمون في العذاب، قال أبو حيان: وقد جاءت الجملة فعلية بالنسبة للمؤمنين متضمنة الوعد بالماضي الذي هو الدليل على الوقوع، وفي الكافرين جاءت الجملة إِسمية دالة على ثبوت هذا الحكم لهم وأنهم أصحاب النار فهم دائمون في عذاب الجحيم.



    أراد بنو النضير أن يلقوا على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم الرحى وأن يغدروا به وبأصحابه فأنزل الله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ ..} الآية.



    التذكير بنعمة الله ونقض اليهود والنصارى للميثاق



    {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ(11)وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَءاتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَءامَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ(12)فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلا قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ(13)وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ(14)}



    سبب النزول:



    {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} أي اذكروا فضل الله عليكم بحفظه إِياكم من أعدائكم {إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ} أي يبطشوا بكم بالقتل والإِهلاك {فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ} أي عصمكم من شرهم وردَّ أذاهم عنكم {وَاتَّقُوا اللَّهَ} بامتثال أوامره واجتناب نواهيه {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} أي فليثقْ المؤمنون بالله بإِنه كافيهم وناصرهم.

    ثم ذكر تعالى أحوال اليهود وما تنطوي عليه نفوسهم من الخيانة ونقض الميثاق فقال {وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} أي عهدهم المؤكد باليمين {وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا} أي وأمرنا موسى بأن يأخذ اثني عشر نقيباً - والنقيبُ كبير القوم القائم بأمورهم - من كل سبطٍ نقيبٌ يكون كفيلاً على قومه بالوفاء بالعهد توثقةً عليهم، قال الزمخشري: لما استقر بنو إِسرائيل بمصر بعد هلاك فرعون أمرهم الله تعالى بالسير إِلى "أريحاء" بأرض الشام كان يسكنها الكنعانيون الجبابرة وقال لهم: إِني كتبتها لكم داراً وقراراً فجاهدوا من فيها فإِني ناصركم، وأمر موسى بأن يأخذ من كل سِبْطٍ نقيباً فاختار النقباء وسار بهم فلما دنا من أرض كنعان بعثهم يتجسّسون الأخبار فرأوا قوماً أجسامهم عظيمة ولهم قوةٌ وشوكة فهابوهم ورجعوا وحدثوا قومهم وكان موسى قد نهاهم أن يتحدثوا بما يرون فنكثوا الميثاق وتحدثوا إِلا اثنين منهم .

    {وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ} أي ناصركم ومعينكم {لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَءاتَيْتُمْ الزَّكَاةَ} اللام للقسم أي وأقسم لكم يا بني إِسرائيل لئن أديتم ما فرضتُ عليكم من إِقامة الصلاة وإِيتاء الزكاة {وَءامَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ} أي وصدقتم برسلي ونصرتموهم ومنعتموهم من الأعداء {وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} أي بالإِنفاق في سبيل الخير ابتغاء مرضاة الله {لأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} أي لأمحونَّ عنكم ذنوبكم، وهذا جواب القسم، قال البيضاوي: وقد سدَّ مسدَّ جواب الشرط {وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} أي تجري من تحت غرفها وأشجارها أنهار الماء واللبن والخمر والعسل {فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} أي من كفر بعد ذلك الميثاق، فقد أخطأ الطريق السويّ وضلّ ضلالاً لا شبهة فيه {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ} أي بسبب نقضهم الميثاق طردناهم من رحمتنا {وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً} أي جافة جافية لا تلين لقبول الإِيمان {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} قال ابن كثير: تأولوا كتابه - التوراة - على غير ما أنزله وحملوه على غير مراده وقالوا على الله ما لم يقلْ، ولا جُرْم أعظمُ من الاجتراء على تغيير كلام الله عز وجل {وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} أي تركوا نصيباً وافياً مما أُمروا به في التوراة .

    {وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلا قَلِيلاً مِنْهُمْ} أي لا تزال يا محمد تظهر على خيانةٍ منهم من نقض العهود وتدبير المكايد، فالغدرُ والخيانة عادتُهم وعادةُ أسلافهم إِلا قليلاً منهم ممن أسلم {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} أي لا تعاقبوا واصفح عمن أساء منهم، وهذا منسوخ بآية السيف والجزية كما قال الجمهور {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ} أي ومن الذين ادّعو أنهم أنصار الله وسمّوا أنفسهم بذلك أخذنا منهم أيضاً الميثاق على توحيد الله والإِيمان بمحمد رسول الله {فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} أي فتركوا ما أُمروا به في الإِنجيل من الإِيمان بالأنبياء ونقضوا الميثاق .

    {فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} أي ألزمنا وألصقنا بين فِرَق النصارى العداوة والبغضاء إِلى قيام الساعة، قال ابن كثير: ولا يزالون متباغضين متعادين، يكفِّر بعضهم بعضاً، ويلعن بعضهم بعضاً، وكل فرقةٍ تمنع الأخرى دخول معبدها .. وهكذا نجد الأمم الغربية - وهم أبناء دين واحد - يتفنّن بعضهم في إِهلاك بعض، فمن مخترعٍ للقنبلة الذرية إِلى مخترع للقنبلة الهيدروجينية وهي مواد مدّمرة لا يمكن أن يتصور العقل ما تحدثه من تلفٍ بالغ وهلاك شامل {إِنما يريد الله أن يعذبهم بها في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون} ثم قال تعالى {وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} تهديد لهم أي سيلقون جزاء عملهم القبيح.



    كشف الرسول صلى الله عليه وسلم لما كان يخفيه أهل الكتاب، وهداية القرآن للحق





    {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ(15)يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ(16)}



    {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ} الخطاب لليهود والنصارى أي يا معشر أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم بالدين الحق يبيّن لكم الكثير مما كنتم تكتمونه في كتابكم من الإِيمان به، ومن آية الرجم، ومن قصة أصحاب السبت الذين مسخوا قردة وغير ذلك مما كنتم تخفونه {وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ} أي يتركه ولا يُبيّنه وإِنما يبيّن لكم ما فيه حجة على نبوته وشهادة على صدقه، ولو ذكر كل شيء لفضحكم، قال في التسهيل: وفي الآية دليل على صحة نبوتهلأنه بيّن ما أخفوه في كتبهم وهو أميٌّ لم يقرأ كتبهم.

    {قَدْ جَاءَكُمْ مِنْ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ} أي جاءكم نور هو القرآن لأنه مزيل لظلمات الشرك والشك وهو كتاب مبين ظاهر الإِعجاز {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ} أي يهدي بالقرآن من اتبع رضا الله طرق النجاة والسلام ومناهج الاستقامة {وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ} أي يخرجهم من ظلمات الكفر إِلى نور الإِيمان بتوفيقه وإِرادته {وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} هو دين الإِسلام.



    الرد على معتقدات اليهود والنصارى



    {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(17)وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ(18)يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(19)}



    ثم ذكر تعالى إِفراط النصارى في حق عيسى حيث اعتقدوا ألوهيته فقال {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} أي جعلوه إِلهاً وهم فرقةٌ من النصارى زعموا أن الله حلَّ في عيسى ولهذا نجد في كتبهم "وجاء الرب يسوع" وأمثاله، ويسوع عندهم هو عيسى {قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} أي قل لهم يا محمد لقد كذبتم فمن الذي يستطيع أن يدفع عذاب الله لو أراد أن يهلك المسيح وأمه وأهل الأرض جميعاً؟ فعيسى عبد مقهور قابلٌ للفناء كسائر المخلوقات ومن كان كذلك فهو بمعزل عن الألوهية ولو كان إِلهاً لقدر على تخليص نفسه من الموت {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} أي من الخلق والعجائب {يخْلُقُ مَا يَشَاءُ} أي هو قادر على أن يخلق ما يريد ولذلك خلق عيسى من غير أب {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي لا يعجزه شيء.

    ثم حكى عن اليهود والنصارى افتراءهم فقال {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} أي نحن من الله بمنزلة الأبناء من الآباء ونحن أحباؤه لأننا على دينه، قال ابن كثير: أي نحن منتسبون إِلى أنبيائه وهم بنوه وله بهم عناية وهو يحبنا {قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ}؟ أي لو كنتم كما تدَّعون أبناءه وأحباؤه فلم أعدَّ لكم نار جهنم على كفركم وافترائكم؟ {بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ} أي أنتم بشر كسائر الناس وهو سبحانه الحاكم في جميع عباده {يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} أي يغفر لمن شاء من عباده ويعذب من شاء لا اعتراض لحكمه ولا رادَّ لأمره {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} أي الجميع ملكه وتحت قهره وسلطانه وإِليه المرجع والمآب.

    ثم دعاهم إِلى الإِيمان بخاتم المرسلين فقال {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ} أي يا معشر اليهود والنصارى لقد جاءكم محمد صلى الله عليه وسلم يوضّح لكم شرائع الدين على انقطاع من الرسلِ ودروسٍ من الدين، وكانت الفترة بين عيسى ومحمد ومدتها خمسمائة وستون سنة لم يُبعث فيها رسول {أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ} أي لئلا تحتجوا وتقولوا: ما جاءنا من رسولٍ يبشر بالخير وينذر من الشر {فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ} هو محمد صلى الله عليه وسلم {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} قال ابن جرير: أي قادرٌ على عقاب من عصاه وثواب من أطاعه.



    تذكير موسى لقومه بنعم الله عليهم، وأمره لهم بدخول بيت المقدس



    {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَءاتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ(20)يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ(21)قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ(22)قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ(23)قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ(24)قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ(25)قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ(26)}



    ثم ذكر تعالى ما عليه اليهود من العناد والجحود فقال {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} أي اذكر يا محمد حين قال موسى لبني إِسرائيل يا قوم تذكّروا نعمة الله العظمى عليكم واشكروه عليها {إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا} أي حين بعث فيكم الأنبياء يرشدونكم إِلى معالم الدين وجعلكم تعيشون كالملوك لا يغلبكم غالب بعد أن كنتم مملوكين لفرعون مقهورين فأنقذكم منه بإِغراقه، قال البيضاوي: لم يُبعث في أمةٍ ما بعث في بني إِسرائيل من الأنبياء {وَءاتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنْ الْعَالَمِينَ} أي من أنواع الإِنعام والإِكرام من فلق البحر وتظليل الغمام وإِنزال المنّ والسلوى ونحوها .

    {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} قال البيضاوي: هي أرض بيت المقدس سميت بذلك لأنها كانت قرار الأنبياء ومسكن المؤمنين ومعنى {الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} أي التي وعدكموها على لسان أبيكم إسرائيل وقضى أن تكون لكم {وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} أي ولا ترجعوا مدبرين خوفاً من الجبابرة، قال في التسهيل: روي أنه لما أمرهم موسى بدخول الأرض المقدسة خافوا من الجبارين الذين فيها وهمّوا أن يرجعوا إِلى مصر {قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ} أي عظام الأجسام طوال القامة لا قدرة لنا على قتالهم وهم العمالقة من بقايا عاد {وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا} أي لن ندخلها حتى يسلّموها لنا من غير قتال { فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ} أي لا يمكننا الدخول ما داموا فيها فإِن خرجوا منها دخلناها.

    {قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا} أي فلما جبنوا حرضهم رجلان من النقباء ممن يخاف أمر الله ويخشى عقابه وفيهما الصلاح واليقين {ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ} أي قالا لهم لا يهولنكم عِظَم أجسامهم، فأجسامهم عظيمة وقلوبهم ضعيفة فإِذا دخلتم عليهم باب المدينة غلبتموهم بإِذن الله {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} أي اعتمدوا على الله فإِنه ناصركم إِن كنتم حقاً مؤمنين .

    {قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} وهذا إِفراط في العصيان ومع سوء الأدب بعبارةٍ تقتضي الكفر والاستهانة بالله ورسوله، وأين هؤلاء من الصحابة الأبرار الذين قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لسنا نقول لك كما قالت بنو إِسرائيل ولكن نقول لك اذهب أنت وربك فقاتلا إِنّا معكما مقاتلون؟! {قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} أي قال موسى حينذاك معتذراً إِلى الله متبرءاً من مقالة السفهاء: يا ربّ لا أملك قومي، لا أملك إِلا نفسي وأخي هارون فافصل بيننا وبين الخارجين عن طاعتك بحكمك العادل .

    {قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ} استجاب الله دعاءه وعاقبهم في التّيه أربعين سنة والمعنى: قال الله لموسى إِن الأرض المقدسة محرم عليهم دخولها مدة أربعين سنة يتيهون في الأرض ولا يهتدون إِلى الخروج منها {فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} أي لا تحزن عليهم فإِنهم فاسقون مستحقون للعقاب، قال في التسهيل: روي أنهم كانوا يسيرون الليل كله فإِذا أصبحوا وجدوا أنفسهم في الموضع الذي كانوا فيه.





    قصة قابيل وهابيل، وأول جريمة قتل في الدنيا



    {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ ءادَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ(27)لَئِنْ بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ(28)إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوأَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ(29)فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ(30)فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَوَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ(31)مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ(32)}



    المناسبة:

    لمّا ذكر تعالى تمرد بني إِسرائيل وعصيانهم لأمر الله في قتال الجبارين، ذكر قصة ابني آدم وعصيان "قابيل" أمر الله وإِقدامه على قتل النفس البريئة التي حرمها الله، فاليهود اقتفوا في العصيان أوَّل عاصٍ لله في الأرض، فطبيعةُ الشر فيهم مستقاةٌ من ولد آدم الأول، فاشتبهت القصتان من حيث التمرد والعصيان، ثم ذكر تعالى عقوبة قُطّاع الطريق والسُرَّاق الخارجين على أمن الدولة والمفسدين في الأرض.



    {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ ءادَمَ بِالْحَقِّ} أي اقرأ يا محمد على هؤلاء الحسدة من اليهود وأشباههم خبر "قابيل وهابيل" ابنيْ آدم ملتبسةً بالحق والصِّدق وذكّرهم بهذه القصة فهي قصة حق {إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ} أي حين قرَّب كلٌ منهما قرباناً فتُقبل من هابيل ولم يُتقبل من قابيل، قال المفسرون: سبب هذا القربان أن حوّاء كانت تلد في كل بطنٍ ذكراً وأنثى وكان يزوّج الذكر من هذا البطن الأنثى من البطن الآخر فلما أراد آدم أن يزوّج قابيلَ أخت هابيل ويزوّج هابيل أخت قابيل رضي هابيل وأبى قابيل لأن توأمته كانت أجمل فقال لهما آدم: قرّبا قرباناً فمن أيكما تُقبل تزوجها، وكان قابيل صاحب زرع فقرّب أرذل زرعه وكان هابيل صاحب غنم فقرّب أحسن كبشٍ عنده فقبل قربانُ هابيل بأن نزلت نارٌ فأكلته فازداد قابيل حسداً وسخطاً وتوعّده بالقتل {قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ} أي قال قابيل لأخيه هابيل لأقتلنك قال: لمَ؟ قال لأنه تقبل قربانك ولم يتقبل قرباني قال: وما ذنبي؟ {قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنْ الْمُتَّقِينَ} أي إِنما يتقبل ممن اتقى ربه وأخلص نيته، قال البيضاوي: توعّده بالقتل لفرط الحسد له على تقبل قربانه فأجابه بأنك أُتيت من قِبَل نفسك بترك التقوى لا من قِبَلي وفيه إِشارة إِلى أن الطاعة لا تُقبل إِلا من مؤمن متّقٍ لله .

    {لَئِنْ بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ} أي لئن مددتَ إِليَّ يدك ظلماً لأجل قتلي ما كنتُ لأقابلك بالمثل، قال ابن عباس: المعنى ما أنا بمنتصر لنفسي {إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} أي لا أمدُّ يدي إِليك لأني أخاف ربَّ العالمين، قال الزمخشري: قيل: كان هابيل أقوى من القاتل ولكنه تحرّج عن قتل أخيه خوفاً من الله {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} أي إِن قتلتني فذاك أحبُّ إِليَّ من أن أقتلك، قال أبو حيان: المعنى إِن سبق بذلك قَدَرٌ فاختياري أن أكون مظلوماً ينتصر الله لي لا ظالماً، وقال ابن عباس: المعنى لا أبدؤك بالقتل لترجع بإِثم قتلي إِن قتلتني، وإِثمك الذي كان منك قبل قتلي فتصير من أهل النار {وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ} أي عقاب من تعدّى وعصى أمر الله.

    {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنْ الْخَاسِرِينَ} أي زيّنت له نفسه وسهّلت له قتل أخيه فقتله فخسر وشقي، قال ابن عباس: خوّفه بالنار فلم ينته ولم ينزجر {فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ} أي أرسل الله غراباً يحفر بمنقاره ورجله الأرض ليُري القاتل كيف يستر جسد أخيه، قال مجاهد: بعث الله غرابين فاقتتلا حتى قتل أحدهما صاحبه ثم حفر له فدفنه، وكان ابن آدم هذا أول من قُتِل، وروي أنه لما قتله تركه بالعراء ولم يدر كيف يدفنه حتى رأى الغراب يدفن صاحبه فلما رآه قال {قَالَ يَاوَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي} أي قال قابيل متحسراً يا ويلي ويا هلاكي أضعفتُ أن أكون مثل هذا الطير فاستر جسد أخي في التراب كما فعل هذا الغراب؟ {فَأَصْبَحَ مِنْ النَّادِمِينَ} أي صار نادماً على عدم الاهتداء إِلى دفن أخيه لا على قتله، قال ابن عباس: ولو كانت ندامته على قتله لكانت الندامة توبةً له .

    {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ} أي من أجل حادثة "قابيل وهابيل" وبسبب قتله لأخيه ظلماً فرضنا وحكمنا على بني إِسرائيل أن من قتل منهم نفساً ظلماً بغير أن يقتل نفساً فيستحق القصاص وبغير فسادٍ يوجب إِهدار الدم كالردّة وقطع الطريق { فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا} أي فكأنه قتل جميع الناس، قال البيضاوي: من حيث أنه هتك حرمة الدماء وسنَّ القتل وجرأ الناس عليه، والمقصود منه تعظيم قتل النفس وإِحيائها في القلوب ترهيباً على التعرض لها وترغيباً في المحاماة عليها {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} أي ومن تسبَّب لبقاء حياتها واستنقذها من الهَلَكة فكأنه أحيا جميع الناس قال ابن عباس في تفسير الآية: من قتل نفساً واحدةً حرّمها الله فهو مثلُ من قتل الناس جميعاً ومن امتنع عن قتل نفسٍ حرمها الله وصان حرمتها خوفاً من الله فهو كمن أحيا الناس جميعاً .

    {وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ} أي بعدما كتبنا على بني إِسرائيل هذا التشديد العظيم وجاءتهم رسلنا بالمعجزات الساطعات والآيات الواضحات {ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ} أي ثم إِنهم بعد تلك الزواجر كلها يسرفون في القتل ولا يبالون بعظمته، قال ابن كثير: هذا تقريعٌ لهم وتوبيخ على ارتكابهم المحارم بعد علمهم بها، وقال الرازي: إِن اليهود مع علمهم بهذه المبالغة العظيمة أقدموا على قتل الأنبياء والرسل وذلك يدل على غاية قساوة قلوبهم ونهاية بعدهم عن طاعة الله تعالى، ولما كان الغرض من ذكر هذه القصص تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم لأنهم عزموا على الفتك به وبأصحابه كان تخصيص بني إِسرائيل بهذه المبالغة العظيمة مناسباً للكلام ومؤكداً للمقصود.

    سبب النزول:

    عن أنسٍ أن رهطاً من عُرينة قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجتووا المدينة استوخموها (لم يناسبهم مناخها فمرضوا) - فبعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلى إِبل الصدقة وأمرهم أن يشربوا من ألبانها وأبوالها، فلما صحُّوا قتلوا راعي النبي صلى الله عليه وسلم واستاقوا النَّعَم فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم في آثارهم فجيء بهم فأمر بهم فقطعت أيديهم وأرجلهم وسُمِرت أعينهم وألقوا في الحرة حتى ماتوا فنزلت {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ..} الآية.



    عقوبة قُطَّاع الطُّرق

  9. #33


    Join Date
    May 2008
    Location
    يمنيه وافتخر........ حاليا خارج اليمن
    العمر
    35
    Posts
    6,090
    Rep Power
    334

    رد: ......... تفسير القران الكريم................

    عقوبة قُطَّاع الطُّرق

    {إِنَّما جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنْ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ(33)إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ(34)}



    ثم ذكر تعالى عقوبة قُطَّاع الطريق فقال {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} أي يحاربون شريعة الله ودينه وأولياءه ويحاربون رسوله {وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا} أي يفسدون في الأرض بالمعاصي وسفك الدماء {أَنْ يُقَتَّلُوا} أي يُقتلوا جزاء بغيهم {أَوْ يُصَلَّبُوا} أي يُقتلوا ويُصلبوا زجراً لغيرهم، والصيغةُ للتكثير {أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ} أي يُطردوا ويُبعدوا من بلدٍ إِلى آخر {ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنيَا} أي ذلك الجزاء المذكور ذلٌ لهم وفضيحة في الدنيا {وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} هو عذاب النار، قال بعض العلماء: الإِمام بالخيار إِن شاء قتل، وإِن شاء صلب، وإِن شاء قطع الأيدي والأرجل، وإِن شاء نفى وهو مذهب مالك. وقال ابن عباس: لكلّ رتبةٍ من الحِرَابة رتبةٌ من العقاب فمن قَتَل قُتل، ومن قتل وأخذ المال قُتل وصُلب، ومن اقتصر على أخذ المال قطعت يده ورجله من خلاف، ومن أخاف فقط نُفي من الأرض، وهذا قول الجمهور .

    {إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} أي لكن الذين تابوا من المحاربين وقُطّاع الطريق قبل القدرة على أخذهم وعقوبتهم {فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} أي واسع المغفرة والرحمة لمن تاب وأناب يقبل توبته ويغفر زلّته.



    أَمَرَ الله المؤمنين بالتقوى والجهاد وبيَّن حال الكافرين في الآخرة



    {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ(35)إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ(36)يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ(37)}



    ثم أمر تعالى المؤمنين بالتقوى والعمل الصالح فقال {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} أي خافوا عقابه واطلبوا ما يقربكم إِليه من طاعته وعبادته، قال قتادة: تقربوا إِليه بطاعته والعمل بما يرضيه {وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} أي جاهدوا لإِعلاء دينه لتفوز بنعيم الأبد.

    {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ} أي لو كان لكل كافر جميع ما في الأرض من خيرات وأموال ومثله معه {لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي وأراد أن يفتدي بها نفسه من عذاب الله ما نفعه ذلك وله عذاب مؤلم موجع {يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} أي دائم لا ينقطع وفي الحديث (يُجاء بالكافر يوم القيامة فيقال له: أرأيتَ لو كان لك ملء الأرض ذهباً أكنتَ تفتدي به؟ فيقول نعم فيقال له: قد كنتَ سُئلتَ ما هو أيسرُ من ذلك ألاّ تشرك بي فأبيت فيؤمر به إِلى النار).



    حد السرقة



    {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ(38)فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ(39)أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(40)}



    ثم ذكر تعالى عقوبة السارق فقال {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} أي كل من سرق رجلاً كان أو امرأة فاقطعوا يده {جَزَاءً بِمَا كَسَبَا} أي مجازاة لهما على فعلهما القبيح {نَكَالاً مِنَ اللَّهِ} أي عقوبة من الله {وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} أي حكيم في شرعه فلا يأمر بقطع اليد ظلماً {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ} أي رجع عن السرقة {وَأَصْلَحَ} أي أصلح سيرته وعمله {فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ} أي يقبل توبته فلا يعذبه في الآخرة {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} أي مبالغ في المغفرة والرحمة.

    ثم نبّه تعالى على واسع ملكه فقال {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي ألم تعلم أيها المخاطب أن الله تعالى له السلطان القاهر والملك الباهر وبيده ملكوت السماوات والأرض والاستفهام للتقرير {يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي يعذّب من يشاء تعذيبه ويغفر لمن يشاء غفران ذنبه وهو القادر على كل شيء الذي لا يعجزه شيء.



    "كلمة وجيزة حول قطع يد السارق"



    يعيب بعض الغربيين على الشريعة الإِسلامية قطع يد السارق ويزعمون أن هذه العقوبة صارمة لا تليق بمجتمع متحضر ويقولون: يكفي في عقوبته السجن ردعاً له، وكان من أثر هذه الفلسفة التي لا تستند على منطقٍ سليم أن زادت الجرائم وكثرت العصابات وأصبحت السجون ممتلئة بالمجرمين وقطاع الطريق الذي يهدّدون الأمن والاستقرار، يسرق السارق وهو آمن مطمئن لا يخشى شيئاً اللهم إِلا ذلك السجن الذي يُطعم ويُكسى فيه فيقضي مدة العقوبة التي فرضها عليه القانون الوضعي ثم يخرج منه وهو إِلى الإِجرام أميل وعلى الشر أقدر، يؤكد هذا ما نقرؤه ونسمعه عن تعداد الجرائم وزيادتها يوماً بعد يوم، وذلك لقصور العقل البشري عن الوصول إلى الدواء الناجع والشفاء النافع لمعالجة مثل هذه الأمراض الخطيرة، أما الإِسلام فقد استطاع أن يقتلع الشر من جذوره ويدٌ واحدة تقطع كافية لردع المجرمين فيا له من تشريع حكيم!!





    مسارعة المنافقين واليهود إلى الكفر وموقف اليهود من أحكام التوراة



    {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا ءامَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ ءاخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ(41)سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ(42)وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ(43)}



    المنَــاسَــبَة:

    لما ذكر تعالى قصة ابني آدم وإِقدام الأخ على قتل أخيه بسبب البغي والحسد وذكر أحكام الحرابة والسرقة، أعقبه بذكر أمر المنافقين وأمر اليهود في حسدهم للنبي صلى الله عليه وسلم وتربصهم به وبأصحابه الدوائر، وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم ألا يحزن لما يناله من أذى من أعداء الإِنسانية فالله سيعصمه من شرهم، وينجيه من مكرهم، ثم ذكر ما أنزل الله من أحكام نورانية في شريعة التوراة.



    سبب النزول:

    عن البراء بن عازب قال: مُرَّ على النبي صلى الله عليه وسلم بيهودي محمّماً مجلوداً فدعاهم فقال: هكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟ قالوا نعم فدعا رجلاً من علمائهم فقال: أنشدك بالله الذي أنزل التوراة على موسى أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟ قال: لا، ولولا أنك نشدتني بهذا لم أخبرك، نجده الرجم ولكنه كثير في أشرافنا فكنا إِذا أخذنا الشريف تركناه، وإِذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد فقلنا: تعالوا فلنجتمعْ على شيء نقيمه على الشريف والوضيع فاجتمعنا على التحميم والجلد مكان الرجم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم إِني أول من أحيا أمرك إِذ أماتوه فأمر به فرجم فأنزل الله {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} إِلى قوله {إِن أوتيتم هذا فخذوه} يقولون: ائتوا محمداً فإِن أمركم بالتحميم والجلد فخذوه وإِن أفتاكم بالرجم فاحذروا.



    {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم على وجه التسلية لا تتأثر يا محمد ولا تحزن لصنيع الذين يتسابقون نحو الكفر ويقعون فيه بسرعة {مِنَ الَّذِينَ قَالُوا ءامَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ} أي من المنافقين الذين لم يُجاوز الإِيمان أفواههم ويقولون بألسنتهم آمنا وقلوبهم كافرة {وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا} أي ومن اليهود {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ} أي هم مبالغون في سماع الأكاذيب والأباطيل وفي قبول ما يفتريه أحبارهم من الكذب على الله وتحريف كتابه {سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ ءاخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ} أي مبالغون في قبول كلام قومٍ آخرين لم يحضروا مجلسك تكبراً وإِفراطاً في العداوة والبغضاء وهم يهود خيبر، والسماعون للكذب هم بنو قريظة.

    {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ} أي يُزيلونه ويُميلونه عن مواضعه بعد أن وضعه الله تعالى فيها والمراد تحريف أحكام الله وتغييرها بأحكام أخرى، قال ابن عباس: هي حدود الله في التوراة غيروا الرجم بالجلد والتحميم - يعني تسويد الوجه - {يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا} أي إِن أمركم محمد بالجلد فاقبلوا وإِن أمركم بالرجم فلا تقبلوا قال تعالى ردّاً عليهم {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} أي ومن يرد الله كفره وضلالته فلن يقدر أحدٌ على دفع ذلك عنه {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ} أي لم يرد الله أن يطهّر قلوبهم من رجس الكفر وخبث الضلالة لقبح صنيعهم وسواء اختيارهم {لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ} أي ذلٌ وفضيحة {وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} هو الخلود في نار جهنم، قال أبو حيان: والآية جاءت تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم وتخفيفاً عنه من ثقل حزنه على مسارعتهم في الكفر وقطعاً لرجائه من فلاحهم.

    {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ} أي الباطل كرره تأكيداً وتفخيماً {أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} أي الحرام من الرشوة والربا وشبه ذلك {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} أي إِن تحاكموا إِليك يا محمد فيما شجر بينهم من الخصومات فأنت مخير بين أن تحكم بينهم وبين أن تُعرض عنهم، قال ابن كثير: أي إِن جاءوك يتحاكمون إِليك فلا عليك ألا تحكم بينهم لأنهم لا يقصدون بتحاكمهم إِليك اتباع الحق بل ما يوافق أهواءهم .

    {وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا} أي لأن الله عاصمك وحافظك من الناس {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} أي فاحكم بينهم بالعدل والحق وإِن كانوا ظلمةً خارجين عن طريق العدل لأن الله يحب العادلين، ثم قال تعالى منكراً عليهم مخالفتهم لأحكام التوراة {وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمْ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ} أي كيف يحكّمك يا محمد هؤلاء اليهود ويرضون بحكمك وعندهم التوراة فيها حكم الله يرونه ولا يعملون به؟ قال الرازي: هذا تعجيبٌ من الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم بتحكيم اليهود إِيّاه بعد علمهم بما في التوراة من حد الزاني ثم تركهم قبول ذلك الحكم، فعدلوا عما يعتقدونه حكماً حقاً إِلى ما يعتقدونه باطلاً طلباً للرخصة فظهر بذلك جهلهم وعنادهم {ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} أي يعرضون عن حكمك الموافق لكتابهم بعد أن وضح لهم الحق وبان {وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} أي ليسوا بمؤمنين لأنهم لا يؤمنون بكتابهم"التوراة" لإِعراضهم عنه وعن حكمك الموافق لما فيه، قال في التسهيل: وهذا إِلزامٌ لهم لأن من خالف كتاب الله وبدّله فدعواه الإِيمان باطلة.



    التوراة هدى ونور شُرِعَ القصاص فيها، وإلزام النصارى بالحكم بما فيها



    {إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ(44)وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ(45)وَقَفَّيْنَا عَلَى ءاثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَءاتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ(46)وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ(47)}



    ثم مدح تعالى التوراة بأنها نور وضياء فقال {إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ} أي أنزلنا التوراة على موسى فيها بيانٌ واضح ونور ساطع يكشف ما اشتبه من الأحكام {يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا} أي يحكم بالتوراة أنبياء بني إِسرائيل الذين انقادوا لحكم الله {لِلَّذِينَ هَادُوا} أي يحكمون بالتوراة لليهود لا يخرجون عن حكمها ولا يُبدّلونها ولا يُحرّفونها {وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ} أي العلماء منهم والفقهاء {بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ} أي بسبب أمر الله إِياهم بحفظ كتابه من التحريف والتضييع {وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ} أي رقباء لئلا يُبدّل ويُغيّر .

    { فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} أي لا تخافوا يا علماء اليهود الناس في إِظهار ما عندكم من نعت محمد صلى الله عليه وسلم والرجم بل خافوا مني في كتمان ذلك {وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً} أي ولا تستبدلوا بآياتي حطام الدنيا الفاني من الرشوة والجاه والعَرَض الخسيس {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} أي من لم يحكم بشرع الله كائناً من كان فقد كفر، وقال الزمخشري: ومن لم يحكم بما أنزل الله مستهيناً به فأولئك هم الكافرون والظالمون والفاسقون وصفٌ لهم بالعتوّ في كفرهم حين ظلموا بآيات الله بالاستهزاء والاستهانة وتمرّدوا بأن حكموا بغيرها، قال أبو حيان: والآية وإِن كان الظاهر من سياقها أن الخطاب فيها لليهود إِلا أنها عامة في اليهود وغيرهم .. وكل آية وردت في الكفار تجرُّ بذيلها على عصاة المؤمنين .

    {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} أي فرضنا على اليهود في التوراة أن النفس تُقتل بالنفس {وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} أي تُفقأ بالعين إِذا فقئت بدون حق {وَالأَنفَ بِالأَنفِ} أي يُجدع بالأنف إِذا قطع ظلماً {وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ} أي تقطع بالأذن {وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ} أي يقلع بالسنِّ {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} أي يُقتص من جانيها بأن يُفعل به مثل ما فعله بالمجني عليه وهذا في الجارح التي يمكن فيها المماثلة ولا يُخاف على النفس منها { فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} قال ابن عباس: أي فمن عفا عن الجاني وتصدَّق عليه فهو كفارةٌ للمطلوب وأجرٌ للطالب، وقال الطبري: من تصدَّق من أصحاب الحق وعفا فهو كفارة له أي للمتصدِّق ويكفّر الله ذنوبه لعفوه وإِسقاطه حقه {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} أي المبالغون في الظلم لمخالة شرع الله .

    {وَقَفَّيْنَا عَلَى ءاثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ} أي أتبعنا على آثار النبيّين بعيسى ابن مريم وأرسلناه عقيبهم مصدقاً لما تقدّمه من التوراة {وَءاتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ} أي أنزلنا عليه الإِنجيل فيه هدى إِلى الحق ونور يُستضاء به في إِزالة الشبهات {وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ} أي مُعترفاً بأنها من عند الله، والتكرير لزيادة التقرير {وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} أي وهادياً وواعظاً للمتقين {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فِيهِ} أي وآتينا عيسى بن مريم الإِنجيل وأمرناه وأتباعه بالحكم به {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} أي المتمردون الخارجون عن الإِيمان وطاعة الله.



    الحكم بشريعة القرآن



    {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا ءاتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ(48)وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ(49)أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ(50)}





    {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} أي وأنزلنا إِليك يا محمد القرآن بالعدل والصدق الذي لا ريب فيه {مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ} أي مصدّقاً للكتب السماوية التي سبقته {وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} أي مؤتمناً عليه وحاكماً على ما قبله من الكتب، قال الزمخشري: أي رقيباً على سائر الكتب لأنه يشهد لها بالصحة والثبات، قال ابن كثير: اسم المهيمن يتضمن ذلك فهو أمينٌ وشاهد وحاكم على كل كتابٍ قبله جمع الله فيه محاسن ما قبله وزاده من الكمالات ما ليس في غيره {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ} أي فاحكم يا محمد بين الناس بما أنزل الله إِليك في هذا الكتاب العظيم .

    {وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ} أي لا توافقهم على أغراضهم الفاسدة عادلاً عمّا جاءك في هذا القرآن، قال ابن كثير: أي لا تنصرفْ عن الحق الذي أمرك الله به إِلى أهواء هؤلاء من الجهلة الأشقياء {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} أي لكل أمةٍ جعلنا شريعة وطريقاً بيناً واضحاً خاصاً بتلك الأمة قال أبو حيان: لليهود شرعةٌ ومنهاج وللنصارى كذلك والمراد في الأحكام وأما المعتقد فواحدٌ لجميع الناس توحيدٌ وإِيمان بالرسل وجميع الكتب وما تضمنته من المعاد والجزاء { وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} أي لو أراد الله لجمع الناس كلهم على دين واحد وشريعة واحدة لا ينسخ شيءٌ منها الآخر {وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا ءاتَاكُمْ} أي شرع الشرائع مختلفة ليختبر العباد هل يذعنون لحكم الله أم يُعرضون، فخالف بين الشرائع لينظر المطيع إلى العاصي {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} أي فسارعوا إِلى ما هو خيرٌ لكم من طاعة الله واتباع شرعه {إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} أي معادكم ومصيركم أيها الناس إِلى الله يوم القيامة فيخبركم بما اختلفتم فيه من أمر الدين ويجازيكم بأعمالكم .

    {وَأَنْ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} أي أُحكم بين أهل الكتاب بهذا القرآن ولا تتّبع أهواءهم الزائفة {وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} أي احذر هؤلاء الأعداء أن يصرفوك عن شريعة الله فإِنهم كذَبةٌ كفرةٌ خونة {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ} أي فإِن أعرضوا عن الحكم بما أنزل الله وأرادوا غيره فاعلم يا محمد أنما يريد الله أن يعاقبهم ببعض إِجرامهم {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ} أي أكثر الناس خارجون عن طاعة ربهم مخالفون للحق منهمكون في المعاصي.

    {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} الاستفهام للإِنكار والتوبيخ والمعنى أيتولون عن حكمك ويبتغون غير حكم الله وهو حكم الجاهلية؟ {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} أي ومن أعدل من الله في حكمه، وأصدقُ في بيانه، وأحكم في تشريعه لقومٍ يصدّقون بالعليّ الحكيم!!.



    النهي عن موالاة اليهود والنصارى

    {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ(51)فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِم يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ(52)وَيَقُولُ الَّذِينَ ءامَنُوا أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ(53)}



    {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ} نهى تعالى المؤمنين عن موالاة اليهود والنصارى ينصرونهم ويستنصرون بهم ويصافونهم ويعاشرونهم معاشرة المؤمنين {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} أي هم يدٌ واحدة على المسلمين لاتحادهم في الكفر والضلال، وملةُ الكفر واحدةٌ {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} أي من جملتهم وحكمُه، قال الزمخشري: وهذا تغليظٌ من الله وتشديدٌ في مجانبة المخالف في الدين واعتزاله كما قال صلى الله عليه وسلم (لا تراءى نارهما) { إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} أي لا يهديهم إِلى الإِيمان.

    {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِم} أي شك ونفاق كعبد الله بن أُبيّ وأصحابه يسارعون من مُوالاتهم ومُعاونتهم { يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ} أي يقولون معتذرين عن موالاة الكافرين نخاف حوادث الدهر وشروره أن يظفر اليهود بالمسلمين فلا يتم الأمر لمحمد قال تعالى رداً على مزاعمهم الفاسدة {فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ} يعني فتح مكة وهذه بشراة للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بوعده تعالى بالفتح والنصر {أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ} أي يُهلكهم بأمرٍ من عنده لا يكون فيه تسبّبٌ لمخلوق كإِلقاء الرعب في قُلوبهم كما فعل ببني النضير {فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ} أي يصير المنافقون نادمين على ما كان منهم من موالاة أعداء الله من اليهود والنصارى {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا} أي يقول المؤمنون تعجباً من حال المنافقين إِذا هتك الله سترهم {أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ} أي حلفوا لكم يا معشر اليهود بأغلظ الإِيمان إِنهم لمعكم بالنصرة والمعونة كما حكى تعالى عنهم {وإِن قوتلتم لننصرنكم} {حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ} أي بطلت أعمالهم بنفاقهم فصاروا خاسرين في الدنيا والآخرة.



    المرتدُّون ومعاداتهم للمسلمين



    {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ(54)إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ ءامَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ(55)وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ(56)}



    {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ} خطابٌ على وجه التحذير والوعيد والمعنى: يا معشر المؤمنين من يرجع منكم عن دينه الحق ويبدّله بدينٍ آخر ويرجع عن الإِيمان إِلى الكفر {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} أي فسوف يأتي الله مكانهم بأناسٍ مؤمنين يحبّهم الله ويحبّون الله {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} أي رحماء متواضعين للمؤمنين أشداء متعززين على الكافرين، قال ابن كثير: وهذه صفاتُ المؤمنين الكُمَّل أن يكون أحدهم متواضعاً لأخيه متعززاً على عدوه كقوله تعالى {أشداء على الكفّار رحماء بينهم} ومن علامة حب الله تعالى للمؤمن أن يكون ليّن الجانب متواضعاً لإِخوانه المؤمنين متسربلاً بالعزّة حيال الكافرين والمنافقين {يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} أي يجاهدون لإِعلاء كلمة الله ولا يبالون بمن لامهم فهم صلاب في دين الله لا يخافون في ذات الله أحداً {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} أي من اتصف بهذه الأوصاف الحميدة إِنما هو من فضل الله عليه وتوفيقه له {وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} أي واسع الإِفضال والإِحسان عليمٌ بمن يستحق ذلك.

    ثمّ لما نهاهم تعالى عن موالاة الكفرة ذكر هنا من هم حقيقون بالموالاة فقال {إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ ءامَنُوا} أي ليس اليهود والنصارى بأوليائكم إِنما أولياؤكم الله ورسوله والمؤمنون {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} أي المؤمنون المتصفون بهذه الأوصاف الجليلة من إِقام الصلاة وإِيتاء الزكاة وهم خاشعون متواضعون لله عز وجل، قال في التسهيل: ذكر تعالى الوليَّ بلفظ المفرد إِفراداً لله تعالى بهما، ثم عطف على اسمه تعالى الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين على سبيل التّبع، ولو قال "إِنما أولياؤكم" لم يكن في الكلام أصلٌ وتبع {وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ ءامَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمْ الْغَالِبُونَ} أي من يتولّ الله ورسوله والمؤمنين فإِنه من حزب الله وهم الغالبون القاهرون لأعدائهم.



    سبب النزول:

    أ- عن ابن عباس قال: جاء نفرٌ من اليهود إِلى النبي صلى الله عليه وسلم فسألوه عمن يؤمن به من الرسل عليهم السلام، فقال: أومن بالله وما أُنزل إِلينا وما أُنزل إِلى إِبراهيم وإِسماعيل إِلى قوله "ونحن له مسلمون" فلما ذكر عيسى جحدوا نبوته وقالوا: والله ما نعلم أهل دينٍ أقلَّ حظاً في الدنيا والآخرة منكم، ولا ديناً شراً من دينكم فأنزل الله {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ} الآية.

  10. #34


    Join Date
    May 2008
    Location
    يمنيه وافتخر........ حاليا خارج اليمن
    العمر
    35
    Posts
    6,090
    Rep Power
    334

    رد: ......... تفسير القران الكريم................

    سباب النهي عن موالاة الكفار



    {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ(57)وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ(58)قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلا أَنْ ءامَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ(59)قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ(60)وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا ءامَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ(61)وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(62)لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ(63)}



    {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا} أي لا تتخذوا أعداء الدين الذين يسخرون من دينكم ويهزؤون {مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ} أي من هؤلاء المستهزئين اليهود والنصارى وسائر الكفرة أولياء لكم تودّونهم وتحبونهم وهم أعداء لكم، فمن اتخذ دينكم سخرية لا يصح لكم أن تصادقوه أو توالوه بل يجب أن تبغضوه وتعادوه {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} أي اتقوا الله في موالاة الكفار والفجار إِن كنتم مؤمنين حقاً .

    ثمَّ بيَن تعالى جانباً من استهزائهم فقال {وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا} أي وإِذا أذنتم إِلى الصلاة ودعوتم إِليها سخروا منكم ومن صلاتكم، قال في البحر: حسد اليهود الرسول صلى الله عليه وسلم حين سمعوا الأذان وقالوا: ابتدعتَ شيئاً لم يكن للأنبياء فمن أين لك الصياح كصياح العير فما أقبحه من صوت فأنزل الله هذه الآية نبّه تعالى على أنَّ من استهزاء بالصلاة ينبغي أن لا يُتّخذ ولياً بل يُهجر ويطرد، وهذه الآية جاءت كالتوكيد للآية قبلها {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ} أي ذلك الفعل منهم بسبب أنهم فجرة لا يعقلون حكمة الصلاة ولا يدركون غايتها في تطهير النفوس، ونفى العقل عنهم لكونهم لم ينتفعوا به في أمر الدين وإِن كان لهم عقول يدركون بها مصالح الدنيا .

    {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا} أي قل يا محمد: يا معشر اليهود والنصارى هل تعيبون علينا وتنكرون منا {إِلا أَنْ ءامَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ} أي إِلا إِيماننا بالله وبما جاء به رسل الله، قال ابن كثير: أي هل لكم علينا مطعنٌ أو عيبٌ إِلا هذا؟ وهذا ليس بعيبٍ ولا مذمة فيكون الاستثناء منقطعاً {وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ} أي خارجون عن الطريق المستقيم {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ} أي هل أخبركم بما هو شرٌّ من هذا الذي تعيبونه علينا؟ {مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ} أي ثواباً وجزاءً ثابتاً عند الله، قال في التسهيل: ووضع الثوابَ موضع العقاب تهكماً بهم نحو قوله {فبشرهم بعذابٍ أليم} {مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ} أي طرده من رحمته {وَغَضِبَ عَلَيْهِ} أي سخط عليه بكفره وانهماكه في المعاصي بعد وضوح الآيات {وَجَعَلَ مِنْهُمْ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ} أي ومسخ بعضَهم قردةً وخنازير {وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} أي وجعل منهم من عَبَد الشيطان بطاعته {أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} أي هؤلاء الملعونون الموصوفون بتلك القبائح والفضائح شرٌّ مكاناً في الآخرة وأكثر ضلالاً عن الطريق المستقيم، قال ابن كثير: والمعنى يا أهل الكتاب الطاعنين في ديننا الذي هو توحيد الله وإِفراده بالعبادة دون ما سواه كيف يصدر منكم هذا وأنتم قد وجد منكم جميع ما ذكر؟ قال القرطبي: ولما نزلت هذه الآية قال المسلمون لهم: يا إِخوة القردة والخنازير فنكّسوا رءوسهم افتضاحاً وفيهم يقول الشاعر:

    فلعــنة اللـــه على اليــهود إِن اليهـــود إِخـــوةُ القـــرود

    {وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا ءامَنَّا} الضمير يعود إِلى المنافقين من اليهود أي إِذا جاءوكم أظهروا الإِسلام {وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ} أي والحال قد دخلوا إِليك كفاراً وخرجوا كفاراً لم ينتفعوا بما سمعوا منك يا محمد من العلم، ولا نجعت فيهم المواعظ والزواجر {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ} أي من كفرهم ونفاقهم وفيه وعيد شديدٌ لهم.

    {وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} أي وترى كثيراً من اليهود يسابقون في المعاصي والظلم {وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ} أي أكلهم الحرام {لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أي بئس أعمالهم القبيحة تلك الأخلاق الشنيعة {لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ} أي هلاّ يزجرهم علماؤهم وأحبارهم {عَنْ قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمْ السُّحْتَ} أي عن المعاصي والآثام وأكل الحرام { لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} أي بئس صنيعهم ذلك تركهم النهي عن ارتكاب محارم الله، قال ابن عباس: ما في القرآن آية أشد توبيخاً من هذه الآية -يعني على العلماء- وقال أبو حيان: تضمنت هذه الآية توبيخ العلماء والعبَّاد على سكوتهم عن النهي عن معاصي الله وأنشد ابن المبارك:

    وهــلْ أفسَــد الــدِّيــنَ إِلا الملو كُ وأحبــارُ سَوْءٍ ورهبـانــها



    من أقبح أقوال اليهود ، وإلقاء العداوة والبغضاء بينهم ، وجزاء إيمان أهل الكتاب



    {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ(64)وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ ءامَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ(65)وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لأكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ(66)}



    {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} أي قال اليهود اللعناء إِن الله بخيلٌ يقتّر الرزق على العباد، قال ابن عباس: مغلولة أي بخيلة أمسك ما عنده بخلاً ليس يعنون أن يد الله موثقة ولكنهم يقولون إِنه بخيل {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ} دعاءٌ عليهم بالبخل المذموم والفقر والنكد {وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا} أي أبعدهم الله من رحمته بسبب تلك المقالة الشنيعة {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} أي بل هو جواد كريم سابغٍ الإِنعام يرزق ويعطي كما يشاء، قال أبو السعود: وتضييق الرزق ليس لقصورٍ في فيضه بل لأن إِنفاقه تابع لمشيئته المبنيّة على الحِكَم وقد اقتضت الحكمة بسبب ما فيهم من شؤم المعاصي أن يضيّق عليهم {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا} أي وليزيدنَّهم هذا القرآن الذي أُنزل عليك يا محمد كفراً فوق كفرهم وطغياناً فوق طغيانهم إِذ كلّما نزلت آية كفروا بها فيزداد طغيانهم وكفرهم كما أن الطعام نافع للأصحاء ويزيد المرضى مرضاً قال الطبري: أعلم تعالى نبيّه أنهم أهل عتو وتمرّد على ربهم وأنهم لا يذعنون لحقٍّ وإِن علموا صحته ولكنهم يعاندونه يسلِّي بذلك نبيَّه صلى الله عليه وسلم في ذهابهم عن دين الله وتكذيبهم إِيّاه .

    {وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} أي ألقينا بين اليهود العداوة والبغضاء فكلمتهم مختلفة وقلوبهم شتّى لا يزالون متباغضين متعادين إِلى قيام الساعة {كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ} أي كلما أرادوا إِشعال حربٍ على رسول الله صلى الله عليه وسلم أطفأها الله {وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا} أي يجتهدون في الكيد للإِسلام وأهله يسعون لإِثارة الفتن بين المسلمين، قال ابن كثير: أي من سجيتهم أنهم دائماً يسعون في الإِفساد في الأرض {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} أي لا يحب من كانت هذه صفته .

    {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ ءامَنُوا وَاتَّقَوْا} أي لو أن اليهود والنصارى آمنوا بالله وبرسوله حق الإِيمان واتقوا محارم الله فاجتنبوها {لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ} أي محونا عنهم ذنوبهم التي اقترفوها {وَلأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ} أي ولأدخلناهم مع ذلك في جنان النعيم {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ} أي ولو أنهم استقاموا على أمر الله وعملوا بما في التوراة والإِنجيل وبما أُنزل إِليهم في هذا الكتاب الجليل الذي نزل على خاتم الرسل صلى الله عليه وسلم {لأكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} أي لوسّع الله عليهم الأرزاق وأغدق عليهم الخيرات بإِفاضة بركات السماء والأرض عليهم {مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ} أي منهم جماعة معتدلة مستقيمة غير غالية ولا مقصّرة، وهم الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم كعبد الله بن سلام والنجاشي وسلمان {وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ} أي وكثير منهم أشرار بئس ما يعملون من قبيح الأقوال وسوء الأفعال.





    أَمْرُ الرسول صلى الله عليه وسلم بتبليغ الوحي ، وعصمته من الناس، ودعوة أهل الكتاب للإِيمان برسالة النبي صلى الله عليه وسلم

    {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ(67)قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ(68)إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ ءامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ(69)}



    المنَــاسَــبَة:

    لمّا حذر تعالى المؤمنين من موالاة الكافرين، وكانت رسالته صلى الله عليه وسلم تتضمن الطعن في أحوال الكفرة والمخالفين، وهذا يستدعي مناصبتهم العداء له ولأتباعه أمره تعالى في هذه الآيات بتبليغ الدعوة، ووعده بالحفظ والنصرة، ثم ذكر تعالى طرفاً من عقائد أهل الكتاب الفاسدة وبخاصة النصارى الذين يعتقدون بألوهية عيسى وأنه ثالث ثلاثة، وردّ عليهم بالدليل القاطع والبرهان الساطع.



    {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} هذا نداءُ تشريفٍ وتعظيمٍ ناداه تعالى بأشرف الأوصاف بالرسالة الربانية أي بلّغْ رسالة ربك غير مراقب أحداً ولا خائف أن ينالك مكروه {وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ}.

    قال ابن عباس: المعنى بلّغْ جميع ما أُنزل إِليك من ربك فإِن كتمتَ شيئاً منه فما بلّغت رسالته، وهذا تأديب لحملة العلم من أمته ألا يكتموا شيئاً من أمر شريعته {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} أي يمنعك من أن ينالوك بسوء، قال الزمخشري: هذا وعدٌ من الله بالحفظ والكلاءة والمعنى: والله يضمن لك العصمة من أعدائك فما عذرك في مراقبتهم؟ روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يُحرس حتى نزلت فأخرج رأسه من قبة أدَم وقال: انصرفوا أيها الناس فقد عصمني الله عز وجل {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} أي إِنما عليك البلاغ والله هو الذي يهدي من يشاء فمن قُضي له بالكفر لا يهتدي أبداً.

    {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ} أي قل يا محمد لهؤلاء اليهود والنصارى لستم على شيء من الدين أصلاً حتى تعملوا بما في التوراة والإِنجيل وتقيموا أحكامها على الوجه الأكمل، ومن إِقامتها الإِيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم {وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} قال ابن عباس: يعني القرآن العظيم {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا} اللام للقسم أي وأقسم ليزيدنَّ هذا القرآن المنزل عليك يا محمد الكثير منهم غلواً في التكذيب وجحوداً لنبوتك وإِصراراً على الكفر والضلال {فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} أي لا تحزن عليهم فإِن تكذيب الأنبياء عادتُهم ودأبهم، وهذه تسليةٌ للنبي صلى الله عليه وسلم وليس بنهي عن الحزن .

    ثم قال تعالى {إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُوا} أي صدّقوا الله ورسوله وهم المسلمون {وَالَّذِينَ هَادُوا} وهم أتباع موسى {وَالصَّابِئُونَ} وهم طائفة من أتباع الأنبياء قيل من أتباع إبراهيم {وَالنَّصَارَى} وهم أتباع عيسى {مَنْ ءامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا} أي مَنْ آمن من هؤلاء المذكورين إِيماناً صحيحاً خالصاً لا يشوبه ارتيابٌ بالله وباليوم الآخر وعمل صالحاً يقربه من الله {فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} أي فلا خوفٌ عليهم فيما قدموا عليه من أهوال يوم القيامة ولا هم يحزنون على ما خلّفوا وراءهم من الدنيا بعد معاينتهم جزيل ثواب الله، قال ابن كثير: والمقصود أن كلَّ فرقةٍ آمنت بالله واليوم الآخر إِلى جميع الثقلين - فمن اتصف بذلك فلا خوفٌ عليهم فيما يستقبلونه ولا هم يحزنون على ما تركوه وراء ظهورهم، وتفهم الآية أن من لم يؤمن بالله واليوم الآخر الإيمان الصحيح المطلوب لم ينفعه انتسابه إلى أحد من الرسل إن ادعاه.



    تكذيب اليهود رسلَهم وقتلهم إياهم



    {لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ(70)وَحَسِبُوا أَلا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ(71)}



    {لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} أي أولاد يعقوب وأحفادهم أخذنا منهم العهد المؤكد على الإِيمان بالله ورسله، قال في البحر: هذا إِخبار بما صدر من أسلاف اليهود من نقض الميثاق الذي أخذه تعالى عليهم وما اجترحوه من الجرائم العظام من تكذيب الأنبياء وقتل بعضهم، وهؤلاء أخلاف أولئك فغير بدعٍ ما يصدر منهم للرسول من الأذى والعصيان إِذ ذاك شِنْشِنةٌ من أسلافهم {وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلاً} أي أرسلنا لهم الرسل ليرشدوهم ويبينوا لهم أمر الدين {كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُهُمْ} أي كلما جاءهم رسول من أولئك الرسل بما يخالف أهواءهم وشهواتهم {فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ} أي كذبوا طائفةً من الرسل ويقتلون طائفة أخرى منهم، قال البيضاوي: وإِنما جيء بـ "يقتلون" موضع "قتلوا" على حكاية الحال الماضية استحضاراً لها واستفظاعاً للقتل وتنبيهاً على أن ذلك من ديدنهم ماضياً ومستقبلاً ومحافظةً على رؤوس الآي.

    {وَحَسِبُوا أَلا تَكُونَ فِتْنَةٌ} أي وظنَّ بنو إِسرائيل أن لا يصيبهم بلاءٌ وعذاب بقتل الأنبياء وتكذيب الرسل اغتراراً بإِمهال الله عزّ وجلّ لهم {فَعَمُوا وَصَمُّوا} أي تمادوا في الغيّ والفساد فعَمُوا عن الهدى وصمّوا عن سماع الحق وهذا على التشبيه بالأعمى والأصمّ لأنه لا يهتدي إِلى طريق الرشد في الدين لإِعراضه عن النظر {ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} قال القرطبي: في الكلام إِضمارٌ أي أُوقعت بهم الفتنةُ فتابوا فتاب الله عليهم { ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ} أي عميَ كثير منهم وصمَّ بعد تبيّن الحق له {وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} أي عليم بما عملوا وهذا وعيدٌ لهم وتهديد.



    كفر النصارى بتأليههم المسيح، وما هو إلا بَشَرٌ رسول



    {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ(72)لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ(73)أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ(74)مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ(75)}



    ثم ذكر تعالى عقائد النصارى الضالة في المسيح فقال {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} قال أبو السعود: هذا شروعٌ في تفصيل قبائح النصارى وإِبطال أقوالهم الفاسدة بعد تفصيل قبائح اليهود وهؤلاء الذين قالوا إِن مريم ولدت إِلهاً وهم "اليعقوبية" زعموا أن الله تعالى حلَّ في ذات عيسى واتحد به، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً {وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} أي أنا عبدٌ مثلكم فاعبدوا خالقي وخالقكم الذي يذلّ له كل شيء ويخضع له كل موجود.

    قال ابن كثير: كان أول كلمة نطق بها وهو صغير أن قال {إِني عبد الله} ولم يقل: إِني أنا الله، ولا ابن الله بل قال {إِني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبياً} وقال القرطبي: ردَّ الله عليهم ذلك بحجةٍ قاطعةٍ مما يُقرّون به فقال {وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} فإِذا كان المسيح يقول: يا رب، ويا الله فكيف يدعو نفسه أم كيف يسألها؟ هذا محال .

    {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ} أي من يعتقد بألوهية غير الله فلن يدخل الجنة أبداً لأنها دار الموحّدين {وَمَأْوَاهُ النَّارُ} أي مصيره نار جهنم {وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} أي فلا ناصر ولا منقذ له من عذاب الله.

    {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} أي أحد ثلاثة آلهة وهذا قول فرقةٍ من النصارى يسمون "النُّسطورية والملكانية" القائلين بالتثليث وهم يقولون: إِن الإِلهيّة مشتركة بين الله، وعيسى، ومريم وكل واحدٍ من هؤلاء إِله ولهذا اشتهر قولهم "الأب والإِبن وروح القدس" {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا إِلَهٌ وَاحِدٌ} أي والحال أنه ليس في الوجود إِلا إِله واحدٌ موصوفٌ بالوحدانية متعالٍ عن المثيل والنظير {وَإِنْ لَمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ} أي وإِن لم يكفّوا عن القول بالتثليث {لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي ليمسنهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة {أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ} الأستفهام للتوبيخ أي أفلا ينتهون عن تلك العقائد الزائفة والأقاويل الباطلة ويستغفرون الله مما نسبوه إِليه من الاتحاد والحلول؟ {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} أي يغفر لهم ويرحمهم إِن تابوا، قال البيضاوي: وفي هذا الاستفهام {أفلا يتوبون} تعجيبٌ من إِصرارهم على الكفر .

    {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} أي ما المسيح إِلا رسولٌ كالرسل الخالية الذين تقدموه خصّه الله تعالى ببعض الآيات الباهرات إِظهاراً لصدقه كما خصّ بعض الرسل، فإِن أحيا الموتى على يده فقد أحيا العصا في يد موسى. وجعلت حية تسعى وهو أعجب، وإِن خُلق من غير أب فقد خلق آدم من غير أبٍ ولا أم وهو أغرب، وكلُّ ذلك من جنابه عز وجلّ وإِنما موسى وعيسى مظاهر شؤونه وأفعاله {وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ} أي مبالغة في الصّدق {كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ} أي أنه مخلوق كسائر المخلوقين مركبٌ من عظمٍ ولحمٍ وعروقٍ وأعصاب وفيه إِشارة لطيفة إِلى أن من يأكل الطعام لا بدّ أن يكون في حاجة إِلى إِخراجه ومن يكن هذا حاله فكيف يُعبْد، أو كيف يُتوهم أنه إِله؟ {انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لهُمُ الآيَاتِ} تعجيبٌ من حال الذين يدَّعون ألوهيّته هو وأمه أي أنظر كيف نوضّح لهم الآيات الباهرة على بطلان ما اعتقدوه {ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} أي كيف يُصرفون عن استماع الحق وتأمله بعد هذا البيان مع أنه أوضح من الشمس في رابعة النّهار.



    مناقشة النصارى في تأليه عيسى عليه السلام، ومطالبة أهل الكتاب بعدم الغلوّ في الدين،

    ولعنة بني إسرائيل لعدم نهيهم عن المنكر



    {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا وَاللَّه هُوَ السَّمِيعُ لْعَلِيمُ(76)قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ(77)لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ(78)كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ(79)تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ(80)وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ(81)}



    {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا} أي قل يا محمد أتوجهون عبادتكم إلى من لا يقدر أن يجلب لكم النفع أوالضر؟ {وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} أي السميع لأقوالكم العليم بأحوالكم وتضمنت الآية الإِنكار عليهم حيث عبدوا من هو متصفٌ بالعجز عن دفع ضرّ أو جلب نفع.

    {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ} أي يا معشر اليهود والنصارى لا تتجاوزوا الحد في دينكم وتُفرطوا كما أفرط أسلافكم فتقولوا عن عيسى إِنه إِلهٌ وابن إِله، قال القرطبي: وغلو اليهود قولهم في عيسى إِنه ليس ولد رِشْدة - أي هو ابن زنا - وغلوُّ النصارى قولهم إِنه إِله {وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ} أي لا تتبعوا أسلافكم وأئمتكم الذين كانوا على الضلال قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم {وَأَضَلُّوا كَثِيرًا} أي أضلوا كثيراً من الخلق بإِغوائهم لهم {وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} أي ضلوا عن الطريق الواضح المستقيم، قال القرطبي: وتكرير ضلوا للإِشارة إِلى أنهم ضلوا من قبل وضلوا من بعد، والمرادُ الأسلافُ الذين سنُّوا الضلالة وعملوا بها من رؤساء اليهود والنصارى .

    {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} أي لعنهم الله عز وجل في الزبور، والإِنجيل، قال ابن عباس: لُعنوا بكللسان، لعنوا على عهد موسى في التوراة، وعلى عهد داود في الزبور، وعلى عهد عيسى في الإِنجيل وعلى عهد محمد في القرآن، قال المفسرون: إِن اليهود لمّا اعتدوا في السبت دعا عليهم داود فمسخهم الله قردة، وأصحاب المائدة لمّا كفروا بعيسى دعا عليهم عيسى فمُسخوا خنازير {ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} أي ذلك اللعن بسبب عصيانهم واعتدائهم، ثمَّ بيَّن تعالى حالهم الشنيع فقال {كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ} أي لا ينهى بعضُهم بعضاً عن قبيحٍ فعلوه {لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ}، قال الزمخشري: تعجيب من سوء فعلهم مؤكد بالقسم فيا حسرتا على المسلمين في إِعراضهم عن التناهي عن المنكر كأنه ليس من الإِسلام في شيء مع ما يتلون من كتاب الله من المبالغات في هذا الباب، وقال في البحر: وذلك أنهم جمعوا بين فعل المنكر، والتجاهر به، وعدم النهي عنه، والمعصيةُ إذا فُعلت ينبغي أن يُستتر بها لحديث (من ابتلي منكم بشيء من هذه القاذورات فليستتر) فإِذا فُعلت جهاراً وتواطأ الناس على عدم الإِنكار كان ذلك تحريضاً على فعلها وسبباً مثيراً لإِفشائها وكثرتها .

    {تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي ترى كثيراً من اليهود يوالون المشركين بغضاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين والمراد "كعب بن الأشرف" وأصحابه {لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ} أي بئس ما قدموا من العمل لمعادهم في الآخرة { أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} وهذا هو المخصوص بالذم أي بئس ما قدموه لآخرتهم سخطُ الله وغضبُه عليهم {وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ} أي وفي عذاب جهنم مخلّدون أبد الآبدين {وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ} أي لو كان هؤلاء اليهود يصدّقون بالله ونبيّهم وما جاءهم من الكتاب ما اتخذوا المشركين أولياء {وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} أي ولكنَّ أكثرهم خارجون عن الإِيمان وطاعة الله عز وجل.

  11. #35


    Join Date
    May 2008
    Location
    يمنيه وافتخر........ حاليا خارج اليمن
    العمر
    35
    Posts
    6,090
    Rep Power
    334

    رد: ......... تفسير القران الكريم................

    اليهود والنصارى في الميزان



    {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ ءامَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ ءامَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ(82)وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا ءامَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ(83)وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ(84)فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ(85)وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ(86)}



    {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ ءامَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} اللام للقسم أي قسماً لتجدنَّ يا محمد اليهود والمشركين أشدَّ الناس عداوة للمؤمنين {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ ءامَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى} نزلت في النجاشي ملك الحبشة وأصحابه، قال الزمخشري: وصف الله شدة شكيمة اليهود وصعوبة إِجابتهم إِلى الحق، ولين عريكة النصارى وسهولة ميلهم إِلى الإِسلام، وجعل اليهود قرناء المشركين في شدة العداوة للمؤمنين بل نبّه على زيادة عداوتهم بتقديمهم على الذين أشركوا {ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا} تعليلٌ لقرب مودة النصارى أي كونهم أقرب مودة بسبب أن منهم علماء وعُباداً {وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ} أي يتواضعون لوداعتهم ولا يتكبرون كاليهود، قال البيضاوي: وفيه دليلٌ على أن التواضعَ والإِقبال على العلم والعمل والإِعراض عن الشهوات، محمودٌ وإِن كان من كافر.

    {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ} أي إِذا سمعوا القرآن المُنْزَل على محمد رسول الله {تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ} أي فاضت أعينهم بالدمع من خشية الله لرقة قلوبهم وتأثرهم بكلام الله الجليل {مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ} أي من أجل معرفتهم أنه كلام الله وأنه حق {يَقُولُونَ رَبَّنَا ءامَنَّا} أي يقولون يا ربنا صدقنا بنبيّك وكتابك {فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} أي مع أمة محمد عليه السلام الذين يشهدون على الأمم يوم القيامة، قال ابن عباس: نزلت هذه الآيات في النجاشي وأصحابه الذين تلا عليهم "جعفر بن أبي طالب" بالحبشة القرآن بكوا حتى أخضلوا لحاهم {وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ} أي ما الذي يمنعنا عن الإِيمان ويصدنا عن اتّباع الحق وقد لاح لنا الصواب وظهر الحق المنير؟ قالوا ذلك في جواب من عيّرهم بالإِسلام من اليهود، قال في البحر: هذا إِنكارٌ واستبعادٌ لانتفاء الإِيمان منهم مع قيام موجبه وهو عرفان الحق {وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ} أي والحال أننا نطمع أن يدخلنا ربنا الجنة بصحبة الصالحين من عباده الأبرار {فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا} أي جازاهم على إِيمانهم وتصديقهم واعترافهم بالحق {جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا} أي ماكثين فيها أبداً لا يحولون عنها ولا يزولون {وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ} أي ذلك الأجر والثواب جزاء من أحسن عمله وأصلح نيّته.

    ثم أخبر تعالى عن حال الأشقياء فقال {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} أي جحدوا بآيات الله وأنكروا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم فهم أهل الجحيم المعذّبون فيها، قال أبو السعود: وذكَرهم بمقابلة المصدِّقين بآيات الله جمعاً بين الترغيب والترهيب.



    النهي عن تحريم الطيِّبات



    {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ(87)وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ(88)}



    {يَا أَيُّها الَّذِينَ ءامَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} روى الطبري عن عكرمة قال: كان أناسٌ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم همّوا بالخِصاء وترك اللحم والنساء فنزلت هذه الآية أي لا تمنعوا أنفسكم تلك اللذائذ وتقولوا حرّمناها على أنفسنا مبالغة في تركها وتقشفاً وتزّهُّداً {وَلا تَعْتَدُوا} أي ولا تتعدّوا حدود ما أحل الله لكم بتجاوز الحلال إِلى الحرام {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} أي يبغض المتجاوزين الحد، والإِسلام يدعو إِلى القصد بدون إِفراط أو تفريط ولهذا قال {وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّبًا} أي كلوا ما حلَّ لكم وطاب مما رزقكم الله قال في التسهيل: أي تمتعوا بالمآكل الحلال وبالنساء وغير ذلك، وإِنما خصّ الأكل بالذكر لأنه أعظم حاجات الإِنسان {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ} هذا استدعاء إِلى التقوى بألطف الوجوه كأنه يقول: لا تضيّعوا إِيمانكم بالتقصير في طاعة الله عز وجل فتكون عليكم الحسرة العظمى فإِن الإِيمان بالله تعالى يوجب المبالغة في تقوى الله.



    أنواع الأيمان وكفَّاراتها



    { لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ ءايَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ(89)}



    {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} أي لا يؤاخذكم بما يسبق إِليه اللسان من غير قصد الحلف كقولكم لا والله، وبلى والله {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ} أي ولكن يؤاخذكم بما وثّقتم الأيمان عليه بالقصد والنية إِذا حنثتم {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} أي كفارة اليمين عند الحنث أن تُطعموا عشرة مساكين من الطعام الوسط الذي تُطعمون منه أهليكم، قال ابن عباس: أي من أعدل ما تُطعمون أهليكم، وقال ابن عمر: الأوسطُ الخبز والتمر، والخبز والزبيب، وخيرُ ما نُطعم أهلينا الخبز واللحم {أَوْ كِسْوَتُهُمْ} أي كسوة المساكين لكل مسكين ثوبٌ يستر البدن {أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} أي إِعتاق عبد مملوك لوجه الله، قال في البحر: وأجمع العلماء على أن الحانث مُخَيّر بين الإِطعام والكسوة والعتق {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ} أي فمن لم يجد شيئاً من الأمور المذكورة فكفارته صيام ثلاثة أيام {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} أي هذه كفارة اليمين الشرعية عند الحنث {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} أي احفظوها عن الابتذال ولا تحلفوا إِلا لضرورة، قال ابن عباس: أي لا تحلفوا، وقال ابن جرير: أي لا تتركوها بغير تكفير {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ ءايَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أي مثل ذلك التبيين يبيّن الله لكم الأحكام الشرعية ويوضحها لتشكروه على هدايته وتوفيقه لكم.



    التحريم الصريح لعادات جاهلية



    { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامنوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ(90)إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ(91)وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ(92)لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ ءامنوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَءامنوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَءامنوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ(93)}



    {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامنوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} قال ابن عباس: الخمر جميع الأشربة التي تُسكر، والميسرُ القمار كانوا يتقامرون به في الجاهلية {وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ} أي الأصنام المنصوبة للعبادة والأقداح التي كانت عند سدنة البيت وخُدّام الأصنام، قال ابن عباس ومجاهد: الأنصاب حجارةٌ كانوا يذبحون قرابينهم عندها والأزلام: قداحٌ كانوا يستقسمون بها {رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} أي قذر ونجسٌ تعافه العقول، وخبيثٌ مستقذر من تزيين الشيطان {فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} أي اتركوه وكونوا في جانب آخر بعيدين عن هذه القاذورات لتفوزوا بالثواب العظيم .

    {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} أي ما يريد الشيطان بهذه الرذائل إِلا إِيقاع العداوة والبغضاء بين المؤمنين في شربهم الخمر ولعبهم القمار {وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ} أي ويمنعكم بالخمر والميسر عن ذكر الله الذي به صلاح دنياكم وآخرتكم وعن الصلاة التي هي عماد دينكم، قال أبو حيان: ذكر تعالى في الخمر والميسر مفسدتين: إِحداهما دنيوية، والأخرى دينية، فأما الدنيوية فإِن الخمر تثير الشرور والأحقاد وتؤول بشاربها إِلى التقاطع، وأما الميسر فإِن الرجل لا يزال يقامر حتى يبقى سليباً لا شيء له وينتهي إِلى أن يقامر حتى على أهله وولده، وأما الدينية فالخمر لغلبة السرور والطرب بها تُلهي عن ذكر الله وعن الصلاة، والميسر - سواء كان غالباً أو مغلوباً - يلهي عن ذكر الله {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ} الصيغة للاستفهام ومعناه الأمر أي انتهوا ولذلك قال عمر: انتهينا ربّنا انتهينا، قال في البحر: وهذا الاستفهام من أبلغ ما يُنهى به كأنه قيل: قد تُلي عليكم ما فيهما من المفاسد التي توجب الانتهاء فهل أنتم منتهون أم باقون على حالكم؟ {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا} أي أطيعوا أمر الله وأمر رسوله واحذروا مخالفتهما {فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ} أي أعرضتم ولم تعملوا بأمر الله ورسوله {فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} أي ليس عليه هدايتكم وإِنما عليه تبليغكم الرسالة وجزاؤكم علينا، قال الطبري: وهذا من الله وعيدٌ لمن تولى عن أمره ونهيه يقول تعالى ذكره لهم: فإِن توليتم عن أمري ونهي فتوقعوا عقابي واحذروا سخطي، وقال أبو حيان: وفي هذا من الوعيد البالغ ما لا خفاء به إِذ تضمّن أن عقابكم إِنما يتولاه المرسِلُ لا الرسول.

    {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ ءامنوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} قال ابن عباس: لما نزل تحريم الخمر قال قوم كيف بمن مات منا وهو يشربها ويأكل الميسر فنزلت فأخبر تعالى أن الإِثم والذمّ إِنما يتعلق بفعل المعاصي والذين ماتوا قبل التحريم ليسوا بعاصين {إِذَا مَا اتَّقَوْا وَءامنوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} أي ليس عليهم جُناحٌ فيما تناولوه من المأكول والمشروب إِذا اتقوا المحرَّم وثبتوا على الإِيمان والأعمال الصالحة { ثُمَّ اتَّقَوْا وَءامنوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا} أي اتقوا المحرّم وءامنوا بتحريمه بمعنى اجتنبوا ما حرمّه الله معتقدين حرمته {ثُمَّ اتَّقَوْا وَءامنوا} أي ثم استمروا على تقوى الله واجتناب المحارم وعملوا الأعمال الحسنة التي تقربهم من الله {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} أي يحب المتقربين إِليه بالأعمال الصالحة، قال في التسهيل: كرّر التقوى مبالغةً وقيل: الرتبة الأولى: إِتقاء الشرك، والثانيةُ: اتقاء المعاصي، والثالثةُ: اتقاء ما لا بأس به حذراً مما به البأسُ.



    قتل الصيد في الإحرام وما يترتب عليه من أحكام



    {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامنوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ(94)يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامنوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ(95)أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ(96)}



    {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامنوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ} أي ليختبرنكم الله في حال إِحرامكم بالحج أو العمرة بشيء من الصيد تنال صغاره الأيدي وكباره الرماح، قال البيضاوي: نزل في عام الحديبية ابتلاهم الله سبحانه وتعالى: بالصيد وكانت الوحوش تغشاهم في رحالهم بحيث يتمكنون من صيدها أخذاً بأيديهم وطعناً برماحهم وهم محرمون، قال في البحر: وكان الصيد مما تعيش به العرب وتتلذذ باقتناصه ولهم فيه الأشعار والأوصاف الحسنة {لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ} أي ليتميز الخائف من الله بطريق الغيب لقوة إِيمانه ممن لا يخاف الله لضعف إِيمانه {فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي فمن تعرّض للصيد بعد هذا الإِعلام والإِنذار فله عذابٌ مؤلم موجع .

    {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامنوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} أي لا تقتلوا الصيد وأنتم محرمون بحجٍ أو عمرة {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} أي من قتل الصيد في حالة الإِحرام فعليه جزاء يماثل ما قتل من النَّعم وهي الإِبل والبقر والغنم {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} أي يحكم بالمِثْل حكمان عادلان من المسلمين {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} أي حال كونه هدياً يُنحر ويُتصدَّق به على مساكين الحرم فإِن لم يكن للصيد مثلٌ من النَّعم كالعصفور والجراد فعليه قيمته {أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ} أي وإِذا لم يجد المحرم مثل ما قتل من النَّعم فَيُقوّم الصيدُ المقتول ثم يُشترى به طعامٌ فيصرف لكل مسكينٍ مدٌّ منه {أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} أي عليه مثل ذلك الطعام صياماً يصومه عن كل مدٍّ يوماً ليذوق سوء عاقبة هتكه لحرمة الإِحرام، قال في التسهيل: عدَّد تعالى ما يجب في قتل المحرم للصيد، فذكر أولاً الجزاء من النَّعم، ثم الطعام، ثم الصيام ومذهب مالك والجمهور أنها على التخيير وهو الذي يقتضيه العطف بـ "أو" وعن ابن عباس أنها على الترتيب {عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ} أي من قتل الصيد قبل التحريم {وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} أي ومن عاد إِلى قتل الصيد وهو محرم فينتقم الله منه في الآخرة {وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ} أي غالب على أمره منتقم ممن عصاه.

    {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} أي أُحلَّ لكم أيها الناس صيد البحر سواء كنتم محرمين أو غير محرمين {وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ} أي وما يُطعم من صيده كالسمك وغيره منفعةً وقوتاً لكم وزاداً للمسافرين يتزودونه في أسفارهم {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} أي وحُرّم عليكم صيد البر ما دمتم محرمين {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} أي خافوا الله الذي تبعثون إِليه يوم القيامة فيجازيكم على أعمالكم وهو وعيد وتهديد.



    تعظيم البيت الحرام وجعله حرماً آمناً



    {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ(97)}



    {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ} أي جعل الله الكعبة المشرّفة وهي البيت المحرّم صلاحاً ومعاشاً للناس لقيام أمر دينهم ودنياهم إذ هو سببٌ لانتعاشهم في أمور معاشهم ومعادهم، يلوذ به الخائف، ويأمن فيه الضعيف، ويربح فيه التجار، ويتوجه إليه الحُجَّاج والعمار {وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ} أي الأشهر الحُرُم "ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب" قياماً لهم لأمنهم القتال فيها {وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ} أي الهدي الذي يُهدى للحرم من الأنعام، والبُدن ذوات القلائد التي تُقلّد من شجر الحرم لتأمن هي وأصحابها جعلها الله أيضاً قياماً للناس {ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} أي جعل هذه الحرمة للبيت الحرام والشهر الحرام والهدي والقلائد لتعلموا أيها الناس أن الله يعلم تفاصيل أمور السموات والأرض ويعلم مصالحكم لذلك جعل الحرم آمناً يسكن فيه كل شيء، فانظروا لطفه بالعباد مع كفرهم وضلالهم.



    نفي المساواة بين الخبيث والطيب



    {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ(98)مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ(99)قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ(100)}





    {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} أي اعلموا أيها الناس أن الله شديد العقاب لمن عصاه وأنه غفور رحيم لمن تاب وأطاع وأناب، فلا تُيئسنكم نقمتُه ولا تُطْمعنَّكم رحمتُه {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلاغُ} أي ليس على الرسول إلا أداء الرسالة وتبليغ الشريعة وقد بلّغ ما وجب عليه فلا عذر لأحدٍ في التفريط {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ} أي لا يخفى عليه شيء من أحوالكم وأعمالكم وسيجازيكم عليها، قال أبو حيان: الجملة فيها تهديد إذ أخبر تعالى أنه مطّلع على حال العبد ظاهراً وباطناً فهو مجازيه على ذلك ثواباً أو عقاباً .

    {قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ} أي قل يا محمد لا يتساوى الخبيث والطيّبُ ولو أعجبك أيها السامع كثرة الخبيث وهو مثلٌ ضربه الله للتمييز بين الحلال والحرام، والمطيع والعاصي، والرديء والجيد، قال القرطبي: اللفظ عامٌ في جميع الأمور يتصور في المكاسب، والأعمال، والناس، والمعارف من العلوم وغيرها، فالخبيث من هذا كلِّه لا يُفلح ولا يُنْجِب ولا تحَسن له عاقبةٌ وإن كثر، والطيّب - وإن قلَّ - نافعٌ حميدٌ جميل العاقبة، وقال أبو حيان: الظاهر أن الخبيث والطيّب عامّان فيندرج تحتهما المال وحرامه، وصالح العمل وفاسده، وجيّد الناس ورديئهم، وصحيح العقائد وفاسدها ونظير هذه الآية قوله تعالى {والبلد الطيّب يخرج نباتُه بإِذن ربه والذي خَبُثَ لا يخرج إلا نكداً} {فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} أي فاتقوا الله بامتثال أوامره واجتناب نواهيه يا ذوي العقول لتفلحوا وتفوزوا برضوان الله والنعيم المقيم.


  12. #36


    Join Date
    May 2008
    Location
    يمنيه وافتخر........ حاليا خارج اليمن
    العمر
    35
    Posts
    6,090
    Rep Power
    334

    رد: ......... تفسير القران الكريم................

    النهي عن الأسئلة غير المفيدة



    {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامنوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْءانُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ(101)قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ(102)}



    {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامنوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} أي لا تسألوا الرسول عن أمور لا حاجة لكم بها إن ظهرت لكم ساءتكم، قال الزمخشري: أي لا تُكثروا مسألة رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تسألوه عن تكاليف شاقة عليكم إن أفتاكم بها وكلّفكم إياها تغمكم وتشق عليكم وتندموا على السؤال عنها {وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْءانُ تُبْدَ لَكُمْ} أي وإِن تسألوا عن هذه التكاليف الصعبة في زمان نزول الوحي تظهر لكم تلك التكاليف التي تسؤكم فلا تسألوا عنها {عَفَا اللَّهُ عَنْهَا} أي عفا الله عن مسائلكم السالفة التي لا ضرورة لها وتجاوز عن عقوبتكم الأخروية فلا تعودوا إلى مثلها {وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ} أي واسع المغفرة عظيم الفضل والإِحسان ولذلك عفا عنكم ولم يعاجلكم بالعقوبة.

    {قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ} أي سأل أمثال هذه المسائل قومٌ قبلكم فلما أعطوها وفُرضت عليهم كفروا بها ولهذا قال {ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ} أي صاروا بتركهم العمل بها كافرين وذلك أن بني إسرائيل كانوا يستفتون أنبياءهم عن أشياء فإذا أُمروا بها تركوها فهلكوا.



    التحليل والتحريم لله وحده سبحانه وتعالى

    {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ(103)وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءابَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ ءابَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ(104)}



    {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ} كان أهل الجاهلية إذا أنتجت الناقة خمسة أبطن آخرها ذكر بحروا أذنها أي شقوها وحرموا ركوبها وهي البحيرة، وكان الرجل يقول: إذا قدمتُ من سفري أو برئتُ من مرضي فناقتي سائبة، وجعلها كالبحيرة في تحريم الانتفاع بها، وإِذا ولدت الشاة أنثى فهي لهم وإن ولدت ذكراً فهو لآلهتهم وإن ولدت ذكراً وأنثى قالوا وصلت أخاها وهي الوصيلة، وإذا أنتجت من صلب الفحل عشرة أبطن قالوا قد حمى ظهره وهو الحام، فلما جاء الإِسلام أبطل هذه العادات كلها فلا بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام، {وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} أي ولكنَّ الذين كفروا بالله يختلقون الكذب على الله وينسبون التحريم إليه فيقولون الله أمرنا بهذا وأكثرهم لا يعقلون أن هذا افتراء لأنهم يقلّدون فيه الآباء ولهذا قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ} أي وإذا قيل لهؤلاء الضالين هلموا إلى حكم الله ورسوله فيما حلّلتم وحرّمتم {قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءابَاءَنَا} أي يكفينا دين آبائنا {أَوَلَوْ كَانَ ءابَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ} الهمزة للإِنكار والغرض والتوبيخ أي أيتبعون آباءهم فيما هم عليه من الضلال ولو كانوا لا يعلمون شيئاً من الدين ولا يهتدون إلى الحق؟



    الهداية من الله والمرجع إليه



    {يا أيُّهَا الَّذِينَ ءامنوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ(105)}



    {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامنوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ} أي احفظوها عن ملابسة المعاصي والإِصرار على الذنوب والزموا إصلاحها {لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} أي لا يضركم ضلال من ضلَّ من الناس إذا كنتم مهتدين، قال الزمخشري: كان المسلمون تذهب أنفسهم حسرة على الكفرة يتمنون دخولهم في الإِسلام فقيل لهم عليكم أنفسكم بإصلاحها والمشي بها في طرق الهدى لا يضركم الضلاَّل عن دينكم إذا كنتم مهتدين كما قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم {فلا تذهب نفسُك عليهم حسرات}.

    وقال أبو السعود: ولا يتوهمنّ أحدٌ أنّ في الآية رخصة في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإن من جملة الاهتداء أن ينكر وقد روي أن الصدّيق قال يوماً على المنبر: أيها الناس إنكم تقرأون هذه الآية وتضعونها غير موضعها وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيرّوه عمّهم الله بعقابه {إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا} أي مصيركم ومصير جميع الخلائق إلى الله { فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} أي فيجازيكم بأعمالكم، قال البيضاوي: هذا وعدٌ ووعيد للفريقين، وتنبيه على أن أحداً لا يؤاخذ بذنب غيره.



    الحض على الوصية والاهتمام بأمرها





    {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامنوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ ءاخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصلاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الآثِمِينَ(106)فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ(107)ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ(108)}



    {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامنوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ} أي يا أيها المؤمنون إذا شارف أحدكم على الموتِ وظهرت علائمه فينبغي أن يُشهد على وصيته {اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ ءاخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} أي يُشهد على الوصية شخصين عدلين من المسلمين أو أثنان من غير المسلمين إن لم تجدوا شاهدين منكم {إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ} أي إن أنتم سافرتم فقاربكم الأجل ونزل بكم الموت {تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصلاةِ} أي توقفونهما من بعد صلاة العصر لأنه وقت اجتماع الناس وكذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم استحلف عديّاً وتميماً بعد العصر على المنبر {فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ} أي يحلفان بالله إن شككتم وارتبتم في شهادتهما، قال أبو السعود: أي إن ارتاب بهما الوارث منكم بخيانةٍ وأخذ شيء من التركة فاحبسوهما وحلفوهما بالله {لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} أي يحلفان بالله قائلَين: لا نحابي بشهادتنا أحداً ولا نستبدل بالقسم بالله عرضاً من الدنيا أي لا نحلف بالله كاذبين من أجل المال ولو كان من نُقسم له قريباً لنا {وَلا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الآثِمِينَ} أي ولا نكتم الشهادة التي أمرنا الله تعالى بإقامتها إنّا إن فعلنا ذلك كنا من الآثمين .

    {فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا} أي فإن اطُّلع بعد حلفهما على خيانتهما أو كذبهما في الشهادة { فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ} أي فرجلان آخران من الورثة المستحقين للتركة يقومان مقام الشاهدين الخائنين وليكونا من أولى من يستحق الميراث {فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا} أي يحلفان بالله لشهادتنا أصدق وأولى بالسماع والاعتبار من شهادتهما لأنهما خانا {وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ} أي وما اعتدينا فيما قلنا فيهما من الخيانة إنّا إذا كذبنا عليهم نكون من الظالمين .

    {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا}أي ذلك الحكم أقرب أن يأتوا بالشهادة على حقيقتها من غير تغيير ولا تبديل {أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ} أي يخافوا أن يحلف غيرهم بعدهم فيفتضحوا {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا} أي خافوا ربكم وأطيعوا أمره {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} أي والله لا يهدي الخارجين عن طاعته إلى جنته ورحمته.



    تذكيرٌ باليوم الآخر

    {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلاّمُ الْغُيُوبِ(109)}



    {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ} أي اذكروا أيها الناس ذلك اليوم الرهيب يوم القيامة حين يجمع الله الرسل والخلائق للحساب والجزاء {فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ} أي ما الذي أجابتكم به أممكم؟ وما الذي ردّ عليكم قومكم حين دعوتموهم إِلى الإِيمان والتوحيد؟ {قَالُوا لا عِلْمَ لَنَا} أي لا علم لنا إِلى جنب علمك، قال ابن عباس: أي لا علم لنا إِلا علم أنت أعلم به منا {إِنَّكَ أَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ} أي تعلم ما لا نعلم ممّا ظهر وبطن، قال أبو السعود: وفيه إِظهارٌ للشكوى وردٌ للأمر إِلى علمه تعالى بما لقوا من قومهم من الخطوب وكابدوا من الكروب والتجاءٌ إِلى ربهم في الانتقام منهم.



    معجزات عيسى عليه السلام



    {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ(110)وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ ءامنوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا ءامَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ(111)}



    {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ} قال ابن كثير: يذكر تعالى ما منَّ به على عبده ورسوله عيسى بن مريم عليه السلام بما أجراه على يديه من المعجزات وخوارق العادات أي اذكر نعمتي عليك في خلقي إِياك من أمّ بلا ذكر وجعلي إِيّاك آية قاطعة على كمال قدرتي، وعلى والدتك حيث جعلتك برهاناً على براءتها ممّا اتهمها به الظالمون من الفاحشة، وقال القرطبي: هذا من صفة يوم القيامة كأنه قال: اذكر يوم يجمع الله الرسل وإِذا يقول لعيسى كذا وذكر بلفظ الماضي {إِذْ قَال} تقريباً للقيامة لأن ما هو آتٍ قريب.

    {إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ} أي حين قوّيتك بالروح الطاهرة المقدسة "جبريل" عليه السلام {تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلا} أي تكلّم الناس في المهد صبيّاً وفي الكهولة نبياً {وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ} أي واذكر نعمتي عليك حين علمتك الكتابة والحكمة وهي العلم النافع مع التوراة والإِنجيل {وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي} أي واذكر أيضاً حين كنت تصوّر الطين كصورة الطير بتيسيري وأمري {فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي} أي فتنفخ في تلك الصورة والهيئة فتصبح طيراً بأمر الله ومشيئته {وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي} أي تشفي الأعمى الذي لا يبصر والأبرص الذي استعصى شفاؤه بأمري ومشيئتي.

    {وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي} أي تحيي الموتى بأمري ومشيئتي، وكرر لفظ {بِإِذْنِي} مع كل معجزة رداً على من نسب الربوبية إِلى عيسى ولبيان أن تلك الخوارق من جهته سبحانه أظهرها على يديه معجزة له {وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} أي واذكر حين منعتُ اليهود من قتلك لمّا همّوا وعزموا على الفتك بك حين جئتهم بالحجج والمعجزات {فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ} أي قال الذين جحدوا نبوتك ولم يؤمنوا بك ما هذه الخوارق إِلا سحرٌ ظاهر واضح.

    {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ ءامنوا بِي وَبِرَسُولِي} وهذا أيضاً من الامتنان على عيسى أي واذكر حين أمرتُ الحواريين وقذفت في قلوبهم أن صدّقوا بي وبرسولي عيسى بن مريم {قَالُوا ءامَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ} أي قال الحواريون صدّقنا يا رب بما أمرتنا واشهد بأننا مخلصون في هذا الإِيمان خاضعون لأمر الرحمن.



    قصة المائدة



    {إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ(112)قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ(113)قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنْ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لأَوَّلِنَا وَءاخِرِنَا وَءايَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيرُ الرَّازِقِينَ(114)قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ(115)}



    {إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ} أي واذكر حين قال الحواريون يا عيسى هل يقدر ربك على إِنزال مائدة من السماء علينا؟ قال القرطبي: وكان هذا السؤال في ابتداء أمرهم قبل استحكام معرفتهم بالله عز وجل ويجوز أن يكون ذلك صدر ممن كان معهم من الجهال كما قال بعض قوم موسى {اجعل لنا إِلهاً كما لهم آلهة} وقال أبو حيان: وهذا اللفظ يقتضي ظاهره الشك في قدرة الله تعالى على أن ينزّل مائدة من السماء وهذا ما ذهب إِليه الزمخشري وأما غيره من أهل التفسير فأطبقوا على أن الحواريين كانوا مؤمنين وهم خواص عيسى وأنهم لم يشكّوا في ذلك حتى قال الحسن: لم يشكوا في قدرة الله وإِنما سألوه سؤال مستخبر هل ينزّل أم لا؟ فإِن كان ينزّل فاسأله لنا فسؤالهم كان للاطمئنان والتثبت {قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} أي اتقوا الله في أمثال هذه الأسئلة إِن كنتم مصدقين بكمال قدرته تعالى.

    {قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا} أي قال الحواريون نريد بسؤالنا المائدة أن نأكل منها تبركاً وتسكن نفوسنا بزيادة اليقين {وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا} أي ونعلم علماً يقيناً لا يحوم حوله شائبة من الشك بصدقك في دعوى النبوة {وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ} أي نشهد بها عند من لم يحضرها من الناس.

    {قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ} أجابهم عيسى إِلى سؤال المائدة لإِلزامهم بالحجة الدامغة وروي أنه لما أراد الدعاء لبس جبة شعر ورداء وقام يصلي ويدعو ربه ويبكي، قال أبو السعود: نادى عيسى ربه مرتين: مرة بوصف الألوهية الجامعة لجميع الكمالات، ومرة بوصف الربوبية المنبئة عن التربية إِظهاراً لغاية التضرع { تَكُونُ لَنَا عِيدًا لأَوَّلِنَا وَءاخِرِنَا} أي يكون يوم فرح وسرور لنا ولمن يأتي بعدنا {وَءايَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيرُ الرَّازِقِينَ} أي ودلالة وحجة شاهدة على صدق رسولك وارزقنا يا ألله فإِنك خير من يعطي ويرزق الغني الحميد {قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ} أي أجاب الله دعاءه فقال إِني سأنزل عليكم هذه المائدة من السماء {فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ} أي من كفر بعد تلك الآية الباهرة فسوف أعذبه عذاباً شديداً لا أُعذّب مثل ذلك التعذيب أحداً من البشر وفي الحديث (أُنزلت المائدة من السماء خبزاً ولحماً وأُمروا ألا يدّخروا لغدٍ ولا يخونوا فخافوا وادخروا ورفعوا لغدٍ فمسخوا قردة وخنازير) قال في التسهيل: جرت عادة الله عز وجل بعقاب من كفر بعد أن يقترح آية ثم يعطاها، ولما كفر بعض هؤلاء مسخهم الله خنازير.



    عيسى عليه السلام ينفي عن نفسه مزاعم النصارى



    { وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ ءأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاّمُ الْغُيُوبِ(116)مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنْ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ(117)إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(118)قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ(119)لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(120)}



    {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ ءَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} هذا عطف قصة على قصة {إِذ قال الحواريون} {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى} قال ابن عباس: هذا القول يكون من الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق ليعلم الكفار أنهم كانوا على باطل والمعنى: اذكر للناس يوم يخاطب الله عبده ورسوله عيسى بن مريم في الآخرة توبيخاً للكفرة وتبكيتاً لهم قائلاً: يا عيسى أأنت دعوت الناس إِلى عبادتك والاعتقاد بألوهيتك وألوهية أمك؟! قال القرطبي: إِنما سأله عن ذلك توبيخاً لمن ادّعى ذلك عليه ليكون إِنكاره بعد السؤال أبلغ في التكذيب وأشد في التوبيخ والتقريع.

    {قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} أي أنزهك عما لا يليق بك يا رب فما ينبغي لي أن أقول وأنت العالم بأني لم أقله، وهذا اعتذارٌ وبراءة من ذلك القول ومبالغةٌ في الأدب وإِظهار الذلّة والمسكنة في حضرة ذي الجلال {إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ} أي تعلم حقيقة ذاتي وما انطوت عليه ولا أعلم حقيقة ذاتك وما احتوت عليه من صفات الكمال إِنك أنت العالم بالخفايا والنوايا وعلمك محيط بما كان وما يكون {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ} أي ما أمرتهم إِلا بما أمرتني به، قال الرازي: وضع القول موضع الأمر نزولاً على موجب الأدب لئلا يجعل نفسه وربه آمرين معاً {أَنْ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} أي قلت لهم اعبدوا الله خالقي وخالقكم فأنا عبد مثلكم {وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ} أي كنت شاهداً على أعمالهم حين كنتُ بين أظهرهم {فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ} أي فلما قبضتني إِليك بالرفع إِلى السماء كنت يا ألله الحافظ لأعمالهم، والشاهد على أفعالهم {وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} أي وأنت المطّلع على كل شيء لا يخفى عليك شيء .

    {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} أي إِن تعذبهم فأنت مالكهم تتصرف فيهم كيف شئت لا اعتراض عليك {وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} أي وإِن تغفر لمن تاب منهم فإِنك أنت الغالب على أمره الحكيم في صنعه {قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ} أي يوم القيامة ينفع الصادقين في الدنيا صدقُهم لأنه يوم الجزاء { لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} أي لهم جنات تجري من تحت غرفها وأشجارها الأنهار ماكثين فيها لا يخرجون منها أبداً {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} أي نالوا رضوان الله لصدقهم ورضوا عن الله فيما أثابهم وجازاهم ذلك هو الظفر والفوز الكبير بجنات النعيم {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي الجميع ملكه وتحت قهره ومشيئته وهو القادر على كل شيء.




Page 3 of 4 FirstFirst 1234 LastLast

Thread Information

Users Browsing this Thread

There are currently 1 users browsing this thread. (0 members and 1 guests)

Similar Threads

  1. Replies: 0
    Last Post: 03-08-2013, 01:57 PM
  2. Replies: 0
    Last Post: 06-08-2011, 02:42 AM
  3. Replies: 0
    Last Post: 03-06-2009, 01:12 AM
  4. *تفسير الاحلام في تأويل سورة القران الكريم*
    By بلقيس الجنابي in forum ملتقى حياتنا الدينية
    Replies: 22
    Last Post: 06-06-2008, 10:25 PM
  5. برنامج للجوال تفسير معاني كلمات القران الكريم
    By different booy in forum ملتقى الرقميات
    Replies: 2
    Last Post: 12-04-2008, 10:50 AM

Bookmarks

Posting Permissions

  • You may not post new threads
  • You may not post replies
  • You may not post attachments
  • You may not edit your posts
  •