كشكلة الفرد: ظل الفنان الكبير محمد عبده مالئ الدنيا وشاغل - الأسبوع - ذاك أنه في بحر مقابلتين تلفزيونيتين متتاليتين، لم يدخل دائرة التحليل النقدي للظواهر الاجتماعية فحسب، بل دخل دائرة الفتوى، وهو هنا لم ينطق مفردة الحلال والحرام فحسب، بل كان إحصائياً وهو يلبس على الحلال والحرام في الموسيقى والغناء قياساتهما بالنسبة المئوية. ضيق واسعاً، وربما من باب سد الذرائع الذي برع فيه مع الآلاف من هواة هذا - السد - المنيع، وهو يفتي مشكوراً بأن نسبة 95% من الغناء اليوم في دائرة الحرام وتبقى للبعض من القلة باب الحلال في هذا الفن الذي لا يتجاوز الـ5% ولو حتى بفاصلة عشرية.
أنا لا أعرف محمد عبده، لكن قيمته لدي تبقى في رمزيته الوطنية كفنان ملهم أخاذ، وهو على الأقل وفيما أظن حامل أمين لصورتنا السعودية التي تبرهن أننا، على عكس ما يظن من حولنا، شعب مرهف الإحساس، نكتب القصيدة ونطرب للنص ونتذوق النوتة الموسيقية. هو أيضاً، وللأمانة، أمين في نشر صورة الفنان السعودي الذي قد يحترف الفنون ولكن بلا مجون. فنان رصين رزين ومشهود له بالالتزام الأخلاقي، وفوق هذا يدرك أن الميدان والحقل مسألة اقتصادية صرفة. كل هذا وأنا، للأمانة مرة أخرى، أكتب رأيي حول (شخصنته) عبر انطباعات وقراءات لم تصل للمعايشة.
لكن زلة محمد عبده الكبرى في بحر الأسبوع الماضي، ليست إلا واحدة من زلاتنا المختلفة حين نسحب الشخص من دائرته التي يتقنها جيداً إلى دائرة أخرى من أجل الإثارة وجرجرة الحديث كي نخلق في الفضاء مساحة بث متاحة استغلالاً لشعبوية الفرد كي نضمن مزيداً من الانتشار. في حالة محمد عبده، سحبناه من دائرة الفنان إلى دائرة المفكر. كان بإمكانه، كما هو، أن يطرب الآلاف لساعتين متصلتين وأن يضمن - سمرة - الجمهور - مع حنجرته أمام الشاشة بأرقام تفوق ظهوره - الفكري - في العراب أو إضاءات تركي الدخيل. كان باستطاعتنا أن نبقيه في دائرة ما يعرف بدلاً من أخذه إلى ما لا يعرف. أكتب عن محمد عبده كأنموذج لتطبيق حروف الجملة السابقة لأننا نهدر مواهبه ونصادر رمزيته ونسيء بالفعل إليه حين نسحبه مما يتفق إلى ما لا يتفق. هذا هو ديدننا في (كشكلة) الفرد بإحالته إلى كشكول موسوعي. قبله، انبهرنا بحنجرة سعد الفقيه المدوية فسحبنا أنامله من مبضع الجراح فوق جلد المريض، وقبله أطربتنا خطب الدكتور محسن العواجي فوظفناه خطيباً في مسجد الجامعة وهو القادم من معمل المبيدات والمخصبات من كلية الزراعة بذات الجامعة، ومثله كان محمد المسعري الذي تحول - لتوقيع - هائل على منظمة اسمها - لجنة الحقوق الشرعية - وهو الأستاذ البروفيسور المثير في حقل الفيزياء بالجامعة. ولسبب ما، تحول هؤلاء إلى كشكول، ومع (الكشكلة) وموجتها الجارفة الصاخبة أخذنا هؤلاء من معامل الطب والفيزياء والزراعة، حتى كان ما يدعو للضحك: لم يعد هؤلاء ذات تاريخ قريب يدخلون قاعات الطب والعلوم، بل يدرسون مواد الثقافة الإسلامية في ذات فترة واحدة كمتطلب أساسي لطلبة ذات الجامعة. ومثلهم، ولكن على النقيض في الحجم والوزن، تاب ذات - مفحط - شهير عن مغازلة الشوارع وحرق إطار السيارة وهو مازال حياً يسير فتحول المفحط إلى نجم تلفزيوني وإلى ماكينة وعظية وهو الذي بالكاد يقرأ حروف شهادته الدراسية الوحيدة. والمثير في الأمر، أنه بات بفضل موجة - الكشكلة - الصارخة الجارفة نجماً مطلوباً في أروقة النشاط الطلابي للجامعات، وحتى اليوم، مازال المفحط نجماً مطلوباً تستضيفه الجامعات والمخيمات، ولو من باب إضفاء الدعابة على سلسلة الأنشطة كي لا تتهم هذه السلسلة بأنها مجرد تصحر وجفاف وخطب باردة. كان باستطاعتنا، فقط، ألا نسيء إليه ليأتي إلى مجرد مسرح ضاحك تحت عباءة الوعظ لنلبسه لقب الشيخ، لأن المطلوب كان فقط أن يستعرض تجربته للعبرة.
ومرة أخرى فهؤلاء مجرد نماذج لتلبية غريزتنا في تحويل الأسد إلى ديناصور. هم ذات المهندس الذي نبثه إلى ستانفورد وبيركلي وكامبردج ثم نسحبه بعد العودة من بين الخرائط الهندسية إلى كرسي الإدارة فيفشل في الأخيرة بعد أن نسي الأولى وهم ذات معلم الرياضيات الذي نأخذه مديراً لقسم التوعية بإدارة التعليم لأنه تناغم مع خطط المنهج الخفي.
يحدث هذا لأننا مجتمعات لا تؤمن بالاختصاص، بل لا تنظر للاختصاص كقيمة رمزية دلالية ويحدث هذا لأن المجتمع تربى على رغبة جامحة تأخذ الأفراد نحو طريق الشهرة الاجتماعية فمن هو الذي كان سيستمع إلى عالم في معمل أو مهندس في مشروع أو طبيب في غرفة عمليات لولا أنهم لم يكسروا حاجز المألوف الذي يتقنونه إلى عالم اللامألوف الذي لم يستمروا فيه. هنا لم يكن الفنان الكبير، محمد عبده، ليحتمل أربع ساعات من برنامجين متتاليين ولهذا كان مضطراً لمواجهة سيل الأسئلة التي تملأ الفراغ. أخذناه من دائرة المألوف إلى مربع الفراغ فملأ الفراغ بالفراغ. أخذنا العلماء الجهابذة من كراسي البحث العلمي بالجامعة في تخصصات كانوا بها رموزاً، إلى شهوة المنابر وشهرتها فتكلموا قليلاً فيما تدربوا عليه وحين انتهى ما لديهم من كلام بقوا في الفراغ فملؤوا الفراغ بالفراغ وانتهوا إلى ما انتهوا إليه. هؤلاء لم يجنوا ولم يتجنوا، وبعضهم ضحايانا لأن الفرد يلد لدينا رقماً فراغياً وينتصف به العمر كشكولاً افتراضياً وينتهي به مثلما بدأ في دائرة الفراغ
منقووول
Reply With Quote
Bookmarks