لا يهنأ الكريم بحياة الذل ولو كان يرفل في الدمقس والحرير وينعم بأطايب الطعام وموفور المال، لأن نفس الكريم يمرضها الذل مرضاً شديداً فتعاف كل ما حولها وتحب معزة النفس ولو على الشظف.
ذل من يغبط الذليل بعيش

رب عيش خير منه الحمام


كما يقول المتنبي "


الحمام هو الموت" والذين هانت عليهم أنفسهم ورضوا بمعيشة الذل كالأموات لا يشعرون:

من يهن يسهل الهوان عليه

ما لجرح بميت إيلام



ويقول الشاعر:


ليس من مات فاستراح بميت

انما الميت ميت الاحياء

وهو الذليل المهان..



والعرب بالذات من أشد الأمم اعتزازاً بأنفسهم وصوناً لكرامتهم، وكراهية للذل فهم لا يصبرون عليه أبداً.. قال شاعرهم:

ولا يقيم على خسف يراد به

إلا الاذلان عير الحي والوتد

هذا على الخسف مربوط برمته

وذا يشج فلا يرثى له أحد

ويقول عنترة بن شداد:

لا تسقني ماء الحياة بذلة

بل فاسقني بالعز كأس الحنظل

ماء الحياة بذلة كجهنم

وجهنم بالعز أطيب منزل



وعنترة جاهلي فكلمة (جهنم) عنده ليست بمعناها الشرعي، ولكنها رمز للحياة المتعبة جداً ولكنها مع العز الذ من النعيم مع الذل.



والعز من الله عز وجل، هو الذي يعز العباد او يذلهم حسب ما إرتكبوا، فكلما حسن عمل المرء وطابت نيته أعزه الله وأبعده عن الذل الذي يقتل نفس الكريم، قال أبو فراس الحمداني:



ومن لم يوق الله فهو ممزق

ومن لم يعز الله فهو ذليل

ومن لم يرده الله في الأمر كله

فليس لمخلوق اليه سبيل



وأكثر من يلقون الاذلال والإهانة هم الفساق الفجرة والوقحون والسفهاء، فإن من لا يحترم نفسه لا يحترمه أحد، ومن لا يكرم نفسه فليبشر بالهوان:


ومن هاب الرجال تهيبوه

ومن حقر الرجال فلن يهابا





ومن شعرنا الشعبي البليغ في هذا المعنى قول حميدان الشويعر:



الأعمار ما يرجى لهن رجوع

غدت بخلان لنا وربوع

أمرقت انا الدنيا بيوم وليلة

واعد إسبوع من وراه إسبوع

سود الليالي ما دري عن بطونها

يمسن حوامل ويصبحن وضوع

والأيام لو تخلف بيوم عذرتها

لها بالليالي الماضيات صنوع

وأنا أحب يوم أجي فيه مذنب

ولا نيب مفراح ولا بجزوع

وأنا أحب جلوسي عند حي يفيدني

ولا ميت ما في لقاه نفوع

وأنا أحب قعودي عند قوم تعزني

لو كان فيهم من غريب طبوع

فيا مانع اشرف لي على راس مرقب

من قبل ما شمس النهار طلوع

فترى ياولدي من ثمن الخوف ماسطا

والأنجاس ما خلو سبيلك طوع

فلا يلزم القالات من لا يشيلها

ولا تحمل أرقاب الحريم دروع



ويقول راشد الخلاوي (وهو شاعر صادق اللهجة حكيم القول):


يجزي عمل راعي الحساين بمثلها

ويجزي علم راعي النكد بالنكايد

فلا تتقي في خصلة ما بها ذرا

ولا تنزل إلا عند راعي الوكايد

فلي من قديم العمر نفس عزيزة

أعض على عصيانها بالنواجد

قد أوزمتها ما كان خوف الى بقى

علي من أيام الردى تعاود

ويطاول ما وسدت راسي نكاده

من خوفتي يعتاد لين الوسايد

فمن عود العين الرقاد تعودت

ومن عقود العين المساري تعاود

ومن عود الصبيان أكل ببيته

عادوه في عسر الليالي الشدايد

ومن عود الصبيان ضرب بالقنا

نخوه يوم الكود: يابا العوايد!

ومن تابع المشراق والكن والذرا

يموت ما حاشت يديه الفوايد

الأيام ما باق بها كثر ما مضى

والأعمار ما اللي فات منها بعايد

وقولوا لبيت الفقر لا يا من الغنى

وبيت الغنى لايا من الفقر عايد

ولا يامن المضهود قوم لعزه

ولا يامن الجمع العزيز الضهايد

وواد جرى لابد يجري مع الحيا

أما جرى عامة جرى عام عايد

ومن لا يسقي كنة الصيف زرعه

فهو مفلس منها نهار الحصايد






ويرى الشاعر الكبير محمد بن أحمد السديري إن الحياة بلا عزم وصبر تورث صاحبها الذل، فهو يقول:



مصايب الدنيا كفى الله شرها

الراس منها يالفهيم يشيب

اليا غنت حمر الهموم وقادها

هاجوس فكري والضمير يجيب

تلقيتها بالعزم، والعزم غايتي

وفتى بلا عزم تراه يخيب

فتى بلا عزم حياته مذلة

والعزم لقلوب الرجال طبيب

ويقول الشاعر القديم:

إذا هم القى بين عينيه عزمه

ونكّب عن ذكر العواقب جانبا






والعرب يكرهون التذلل تماماً إلا أمام المحبوبة، يقول الشريف المرتضى:



وإذا الرجال تعززوا ومشت الى

مهاجتهم رسل الغرام تذللوا..




ويقولون:

"للمعشوق أن يتدلل وعلى العاشق أن يتذلل"

قلت: وهو ليس ذل الهوان بل ذل الإنبهار فالإعجاب والحب والإصطياد!..






ويرى الشاعر عبدالله بن شيبان - في قصيدة جميلة - ان العز يأتي بإكرام النفس وابعادها عن الهوان، وبكريم الفعال والخصال..



يقول:


دور لنفسك دروب العز واركبها

تراك وان هنتها، من هانها هاني

من لا يحوش المراجل في مقاديمه

ما حاشها عاد لا جاشايب فاني

إن كان ما للفتى فعل يماري به

ما ينفعه قولة: أبواني وجدان!

لا تحسب الدار قبلتها مبانيها

إن اصلها يافتى طين وجدران

ما تستقيم البيوت إلا بزينتها

ولا لها قبلة إلا بسكان

ما كل من لبس له ثوب فهو زاكي

الناس ما بين عقال وسفهان!.



عبدالله الجعيثن






ومن لم يوق الله فهو ممزق

ومن لم يعز الله فهو ذليل

ومن لم يرده الله في الأمر كله

فليس لمخلوق اليه سبيل