الحقيقة :
القلوب واجفة والأيدي مرتجفة .. والنواصي خاشعة .. والعيون خائفة مترقبة .. في صمت وسكون جامح يشبه الموت ذاته .. في انتظار الطبيب الذي خرج شارد الذهن.. وما أن أنتبه الطبيب بأن مئات العيون والآذان متلهنة لسماح الحدث حتى خانته شفتاه بالنطق بأي كلمة..
لم تتمالك المرأة المسنة أعصابها فأخذت تصرخ .
يا بني لا تلعب بأعصابنا هكذا .. ارحمنا أرجوك .. عاش صح ..! ، ولكن الطبيب نظر إلى الأرض مطرقاً ووجهة محملاً بجبال الأسى والرثاء فأنتعضنت الأم العجوز انتفاضة قوية وصاحت
ماذا بك ؟ اتكلم عاش .. قل عاش .. ارجوك وأجهشت بالبكاء الحارق ، تمالك الطبيب قوته وشجاعته وأخذ يربت على كتف العجوز المنهارة وقال لها بغيض من العطف والاشفاق .
يا خالة الدنيا فانية وإنشاء الله تلقي ابنك في رياض الجنات ، أطلقت الأم صرخة دوت أصدائها في أنحاء المستشفى .
ولدي ، فلذة كبدي !
وسقطت مغشياً عليها !! تردد صدى بكاء ونحيب .. أصوات نساء .. وأطفال .. ورجال وحتى بهائم !
من يصدق بأن الباشا الكبير يموت ؟!
وقد تناولت مع الجميع طعام الغداء في ظهر ذلك اليوم وهو في أم الصحة والعافية؟
أخذت نسائه الأربع تبكي بحرقة وكل واحدة تنظر إلى الأخرى بحقد وكراهية ... أما أطفاله العشرون فقد وصلوا بكاء والنحيب والمشاحنات فيما بينهم ..
كان الباشا أغنى رجلاً في المدينة .
بني أمجاده وثروته على حساب أناس آخرين ...
أناس حكم عليهم القدر والزمان .. بالظلم والذل والهوان ، أولئك الذين اعلنوا الحرب العوان .. على كل ما يخل بالضمير والوجدان فكان هو البطل وهم الحقراء .
هو الشريف وهم الأنذال
كتب الشعر فيه وسميت المدارس والشوارع باسمه
كم شركات يملكها !؟ .. وكم مشروعات حققها !؟
ملأت الضجة كل الشوارع مشياً بعد جنازة غني البشرية وما أن دفن وتوارى جسده تحت التراب حتى أخذ الناس يتهامسون (الله لا يرحمه دنيا وآخره )
كانت الأم العجوز تنظر إلى قبر ابنها الراحل .. وتتذكر صفحات الماضي التي أخذت تمر دون توقف أمام ناظريها .
عاددت إلى البيت وفجأت انتبهت لأصوات صراع بين نساء المرحوم أنا التي ستأخذ الشركات لأنني أملك الأولاد ، فلا تخططي لها من الآن ؟!
ماذا ؟!! تحلمين أناالزوجة المفضلة لديها ويجب أن أخذ قسماً من الميراث .. لن تستغفلوني مطلقاً !!! أستدعي محامي العائلة ليحل النزاع الذي حصل وقال لهن :
كل واحدة ستأخذ حصتها منالميرات والأولاد أيضاً ولا تنسوا السيدة الوالدة .
فتبادلت النظرات بازدراء واندهاش وكأنهن تذكرن بأن للمرحوم أماً أضاف المحامي : تعيش الوالدة الأم مع إحداكن لأن المرحوم قريبها الوحيد ، أنا لن أستطيع فمشاغلي كثيرة و ! البيت صغيرة لا يكفينا ! وأنا موظفة وشابه وأريد إمكال طريقي ومستقبلي سأترد وعلهيا لزيارتها من وقت لأخر ، وأنا سأعود إلى بيت أهلي !!
تعالت الاعراضات .. وتوصل الجميع إلى هذا الحل !! الذي أومأ الجميع موافقه له دار العجزة والمسنين .
ألتفت الجميع إلى الأم العجوز التي لم تجف بعد الدموع من خديها المترهلتين .. تحركت من مكانها وهي تنظر بشرود وذهول إلى الأرض وعلائم الذل واليأس قد غمرتاها!! خرجت بدون شعور من المنزل ... حاول الجميع إيقافها لكن دون جدوى ، كادت سيارة مسرعة أن تدوسها !!
فصرخ صاحب السيارة ماذا بك يا خالة ؟! انتبهي أمامك ...!! فري لها ولمنظرها البائس ، قال بعد أن فكر ملياً .. بوجه بشوش ... حسناً سأصلك معي تفضلي .. نظرت إليه دون نطق أي كلمة وبينما كانت السيارة تمشي لم تتحرك العجوز أية حركة ولم تحول ناظريها عن نقطة معينة في السماء !!! فجأة !! لفت انتباهها لأفته كبيرة ، فوق مجموعة عمارات شركات محمد الباشا ترحب بكم .
فصرخت بأعلى صوتها .. وتوقف ..!! فزع الشاب وأوقف السيارة حالاً .. فنظرت العجوز نظرة بائسة إلى تلك العمارات وقد أغرورقت عيناها بالدموع وقالت بصوت خافت والدمعة تنزل من تلك العين الصغيرة التي أعزقتهاه المياه الزرقاء .
تركت كل شيء ولم تأخذ شيء ،
فنزلت من السيارة مسلوبة الخاطر .. مصدومة الوجدان واتجهت نحو المجهول .
Lamees
20/6/2005م
المفضلات