فقه الاستخدام السياسي لمصطلح الإرهاب
واضح أنه لا توجد كلمة أكثر إثارة للجدل وأكثر استخداماً في مختلف وسائل الإعلام العالمية منذ أحداث سبتمبر سنة 2001م المعروفة مثل كلمة ((إرهاب)).
ورغم هذا الاستعمال الواسع النطاق للكلمة لا يوجد أدنى إتفاق حول التعريف الدقيق والمحدد والمقبول من بين الدول والجماعات أو الشعوب لمفهوم هذا المصطلح، نظراً لاختلاف وجهات نظر السياسيين والخبراء الأمنيين والأكاديميين حول من هو الإرهابي ومن هو المقاتل من أجل الحرية.
فالدول العظمى وسعت مفهوم الإرهاب واعتبرت كل عمل له طابع العنف عملاً إرهابياً، أما الدول الأخرى خصوصاً دول العالم الثالث التي تحاول أن تستعيد شيئاً فشيئاً حريتها واستقلال قراراتها، تنظر إلى أعمال المقاومة باعتبارها عملاً بطولياً ومأثرة وطنية وعدالة اجتماعية.
فثمة خلاف جوهري حول مفهوم الإرهاب يكمن في جانبه السياسي فكثيراً ما يكون للعمل الواحد تفسيران على الأقل، فهو حسب أحد التفسيرين حالة من حالات الإرهاب تجب إدانته ومكافحته على أنه جريمة، وهو في الوقت ذاته حسب التفسير الآخر شكل من أشكال التحرر الوطني والكفاح من أجل حقوق الإنسان أو الحقوق السياسية والاجتماعية والاقتصادية للشعوب والأفراد أو حق تقرير المصير.
فما قد ينظر إليه البعض بأنه إرهاب ينظر إليه البعض الآخر على أنه عمل مشروع.
ولذلك تختلف النظرة إلى الإرهابي، فالمناضل هو وطني بنظر البعض ومجرم بنظر البعض الآخر، ولا شك أن هناك فرقاً بين السطو على البنوك واختطاف أحد الأبرياء لابتزاز الأموال ،وبين المقاومة من أجل الاستقلال والحرية والحقوق الوطنية.
ولتحديد مفهوم الإرهاب من الضروري التفريق بين الحقيقة والخيال الإعلامي والصحفي، فالدول العظمى حينما أشاعت هذا المصطلح ((الإرهاب)) وتحدثت عنه في سياساتها ومواقفها خلطت فيه ـ بقصد ـ بين ظاهرتين من نوعيتين مختلفتين هما:
الإرهاب الإجرامي ونضال الشعوب في سبيل تقرير مصيرها، وقد أحدث هذا الخلط المقصود تشويشاً في منهجية معالجة شئون الإرهاب بتعاريفه ومفاهيمه ومنظماته وعملياته والأسباب الكامنة وراءه والتدابير لمكافحته.
واستناداً إلى هذه الملاحظة أصبح البحث في الإرهاب يحتاج إلى وعي دقيق قادر على فرز عناصر الإرهاب وتصنيفها بطريقة منهجية علمية.. ولذلك فإن البحث في الإرهاب وفق المفهوم الذي كونته وأشاعته القوى العظمى لا يعني قبول المصطلح على علاته أو تبني معانيه ومفاهيمه كلها.
ولأن الإرهاب كمصطلح يشمله كثير من الغموض والضبابية المقصودة للاستفادة منه إلى أقصى حد ممكن، تحاول هذه الورقة الوصول إلى شيء من الوضوح والشفافية عبر النقاط التالية:
1. تعريف الإرهاب.
2. أنواع الإرهاب.
3. مفهوم أمريكا وإسرائيل للإرهاب.
4. بعض الأهداف الأمريكية التي يحققها استخدام مصطلح الإرهاب.
5. بعض وسائل الحد من استخدام أمريكا لمصطلح الإرهاب.
أولاً: تعريف الإرهاب:
تشتق كلمة إرهاب في اللغة العربية من الفعل أرهب فيقال: أرهب فلانٌ فلاناً أي خوَّفه وفزَّعه، ورَهبَ يرهب خاف، يقال: رهِبَ الشيءَ رهباً ورَهبةً خافه، وترهَّب انقطع للعبادة في صومعته، ومنه الراهب والرهبنة والرهبانية.
ويلاحظ أن القرآن الكريم لم يستعمل صفة ((الإرهاب)) واقتصر على استعمال صيغ مختلفة مشتقة من أصل الكلمة، إما للدلالة على الخوف، أو للدلالة على الرهبنة والتعبد مثل ((يرهبون))، ((فارهبون))، ((تُرهِبون)) ومثل: ((الرهبان)) و ((رهبانية)).
وعندما يستخدم القرآن مشتقات هذه الكلمة للدلالة على الخوف إنما يقتصر معناها على مجرد التخويف النفسي عن طريق الإيحاء بالقوة والتلويح بها، لا مباشرة العنف الفعلي، وفي قول الله تعالى: {تُرهِبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم..} إلى آخر الآية ، ما يدل على أن المراد هو التلويح بالقوة لااستخدامها، بدلالة أنه لا يمكن استخدام القوة ضد هدف مجهول وهو المراد بقوله تعالى: {لا تعلمونهم الله يعلمهم} لكن يمكن إخافته عن طريق علمه هو بهذه القوة.
وأما تعريف الإرهاب كمصطلح فلا تعريف للإرهاب متفق عليه حتى اليوم سواء في القانون الدولي أو لدى المنظمات الدولية أو الإقليمية، وقد أحصى أحد الباحثين 108 تعريفاً للمفهوم. وحينما بدأت الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1972م بحث موضوع الإرهاب الدولي بواسطة اللجنة المخصصة المعنية بالإرهاب الدولي اصطدمت بخلافات عميقة بشأن تعريف الإرهاب، ثم اقتنعت بأنه لا يمكن الاتفاق على تعريف واحد للإرهاب، وحينما عقدت دول أوروبا الغربية الأعضاء في المجلس الأوروبي ((الاتفاقية الأوروبية لمكافحة الإرهاب سنة 1977م)) لم تعرف الإرهاب، واكتفت بسرد أعمال محددة هي في نظرها من أعمال الإرهاب( ).
والعلة في ذلك أن وراء هذه الظاهرة تكمن مفاهيم سياسية واجتماعية وقانونية وأيديولوجية متضاربة( )، ولذلك استخدم هذا المفهوم بانحيازات قيمية وإيديولوجية وسياسية، فأصبح يطلق على جهة معينة كسلاح دعائي بهدف التشويه ولتبرير بعض الإجراءات الانتقامية ضده، ويبدو هذا جلياً في الاستخدام الرائج له من وسائل الإعلام الأمريكية والصهيونية.
ورغم الصعوبات التي تعترض تعريف الإرهاب فقد جرت محاولات على صعيد الفقه وهي بمعظمها غربية المصدر، وقد ركزت جل اهتمامها على ناحية واحدة تتصل بالعنف السياسي، سواء قام به فرد أو مجموعات منظمة أو غير منظمة، ولم يعالج إرهاب الدولة إلا من حيث اتهام بعض الدول العربية بتشجيعه ودعمه، أو إلصاقه بما كان يسمى "الاتحاد السوفيتي"، ولم يتطرق إلى الإرهاب الذي تقوم به الدول الغربية بحق الدول الضعيفة والفقيرة.
والعديد يقر بأن الإرهاب أداة بيد الدول كما هو بيد الحركات الثورية والمجموعات السياسية أو الدينية المتطرفة.
يرى د. حريز أن أولى المحاولات العلمية لتعريف الإرهاب تعود إلى سنة 1930م حيث عرف هاردمان في مقال له بموسوعة العلوم الاجتماعية الإرهاب بأنه ((المنهج أو النظرية الكامنة وراء النهج الذي بمقتضاه تسعى مجموعة منظمة أو حزب ما للوصول إلى أهدافه المعلنة بالاستخدام المنهجي للعنف بصورة أساسية)).
ويورد عدداً من المحاولات بعد ذلك لتعريف الإرهاب.
• منها تعريف الفقيه سوتيل إذ عرف الإرهاب ((بأنه العمل الإجرامي المقترف عن طريق الرعب أو العنف أو الفزع الشديد من أجل تحقيق هدف محدد)).
• ومنها تعريف الفقيه سالداني إذ عرف الإرهاب بأنه ((منهج لتطويع الجماهير وشلّ حركة زعمائها بواسطة الإكراه السيكولوجي والترهيب الإجرامي)).
• وفي المعاجم والقواميس تشير كلمة إرهاب terrorism في مجموعة لاروس إلى أعمال العنف التي ترتكبها المجموعات الثورية، وأن الإرهابي terrorist هو ذلك الشخص الذي يمارس العنف، كما تذكر أن وصف إرهابي قد ارتبط بزعماء الثورة الفرنسية من اليعاقبة الذين أقاموا حكماً من الرعب والإرهاب في فرنسا عام 1973م.
• وفي المعجم العربي الحديث: كلمة الإرهاب تعني الأخذ بالعسف والتهديد، والحكم الإرهابي هو الحكم القائم على أعمال العنف.
• وفي القاموس السياسي: كلمة إرهاب تعني محاولة نشر الذعر والفزع لأغراض سياسية، والإرهاب وسيلة تستخدمها حكومة استبدادية لإرغام الشعب على الخضوع والاستسلام( ).
• وحصيلة مجموعة القرارات التي أصدرتها الأمم المتحدة بجمعيتها العامة ومنظماتها ولجانها المتخصصة تحدد مفهوم الإرهاب بتلك الأعمال التي ((تعرض للخطر أرواحاً بشرية بريئة، أو تودي بها، أو تهدد الحريات الأساسية، أو تنتهك كرامة الإنسان، وتشير بوضوح إلى ((الإرهاب الرسمي)) الذي تمارسه دول، حينما حددت حالات معينة يولد فيها أو من جرائها الإرهاب، وهذه الحالات هي ((الاستعمار والعنصرية ، والحالات التي تنطوي على انتهاكات عديدة وصارخة لحقوق الإنسان والحريات الإنسانية، والحالات التي يوجد فيها احتلال أجنبي)) وهذه الحالات لاتنشؤها أو تتسبب بنشوئها أو توفر الظروف والعوامل لنشوئها إلا الدول، ولهذا فإنها تندرج في فئة ((الإرهاب الرسمي)) أو ((إرهاب الدولة)).
نرى مما سبق أن مصطلح الإرهاب يقبل تفسيرات متنوعة تختلف باختلاف المفاهيم الفلسفية السياسية والاجتماعية، فهو مصطلح أوجدته ابتداءً واستعملته دول الاستعمار والاحتلال والقهر لوصف المقاومين لسياساتها.
وحتى يستقيم أمر مكافحة الإرهاب لابد من مراجعة المصطلح نفسه ، والتمعن في تعريفه بدقة وروح علمية موضوعية ، ورسم حدوده بوضوح ، ووضعه في سياقه الصحيح ، ووضع مقاييس أخلاقية وسياسية وقانونية لتمييز الإرهاب عن كفاح الشعوب من أجل تحررها واستقلالها، ومن ثم دراسة الأسباب التي تولد الإرهاب وحالاته ومعالجتها بإزالتها، باعتبار أن القضاء على تلك الأسباب هو أساس التدابير لمكافحة الإرهاب
يتبع .....
Bookmarks