بسم الله الرحمن الرحيمإعصار جونو.....وما نرسل بالآيات الا تخويفا
.
وما نرسل بالآيات إلاَّ تخويفاً ( إعصارُ قُوْنُو )
كتبها الدكتور/ ناصر بن محمد بن مشري الغامدي
وكيل كلية الشريعة والدراسات الإسلامية بجامعة أم القرى
وإمام وخطيب جامع الخضراء بمكة
(( هذه كلمة كتبها الدكتور بمناسبة الحدث ))
الحَمْدُ للهِ ، كَتَبَ العِزَّ وَالنَّصْرَ وَالتَّوْفِيْقَ لِمَنْ أَطَاعَهُ وَاتَّقَاهُ ، وَجَعَلَ الذُّلَّ وَالصَّغَارَ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرَهُ وَعَصَاهُ ، أَحْمَدُهُ سُبْحَانَهُ حَمْدَ المُقِرِّ بِفَضْلِ مَوْلاَهُ ، وَأَشْكُرُهُ وَخَيْرُهُ سَابِغٌ عَلَى مَنْ تَوَّلاَهُ . وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيْكَ لَهُ ، لاَ فَوْزَ إِلاَّ فِي طَاعَتِهِ ، وَلاَ عِزَّ إِلاَّ فِي التَّذَلُّلِ لِعَظَمَتِهِ ، وَلاَ غِنَىً إِلاَّ فِي الافْتِقَارِ إِلَى رَحْمَتِهِ ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدَاً عَبْدُهُ ورَسُولُهُ ، لاَ هُدَىً وَاسْتِقَامَةً إِلاَّ فِي اتِّبَاعِ سَبِيْلِهِ ، وَلاَ نَجَاحَ وَلاَ فَلاَحَ إِلاَّ فِي التَّحَاكُمِ إِلَى شَرِيْعَتِهِ وَسُنَّتِهِ ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِِ ، وَعَلَى آَلِهِِ وَصَحْبِهِ ، وَمَنْ سَارَ عَلَى نَهْجِهِ ، وَاهْتَدَى بِهَدْيِهِ .
أَمَّا بَعْدُ :
فَأُوصِيْ نَفْسِي وَإِخْوَانِي المُسْلِمِيْنَ جَمِيْعَاً بتَقْوَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ ؛ فَإنَّهَا النَّجَاةُ والفَلاَحُ ، وَالعِزَّةُ والشَّرَفُ ، وَالسَّعَادَةُ وَالطُّمَأْنِيْنَةُ ، بِِهَا الخَلاَصُ مِنَ الفِتَنُ ، وَالسَّلاَمَةُ مِنَ الإِحَنِ ، وَالخُرُوجُ مِنَ المَضَائِقِ ، وَالأَمْنُ مِنَ المَخَاوُفِ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ [النور : 55].
أَيُّهَا الإِخْوَةُ فِي اللهِ :
يَسُودُ العَالَمَ اليَوْمَ كَوَارِثُ مُهْلِكَةٌ ، وَحَوَادِثُ مُفْزِعَةٌ ، وَأَمْرَاضٌ مُسْتَعْصِيَةٌ ، وَحُرُوبٌ مُدَمِّرَةٌ ، تَتَابَعُ كُلَّ يَوْمٍ وَعَامٍ ، لاَ يَهْدَأُ ضَجِيْجُهَا ، وَلاَ يُطْفَأُ أُوَارُهَا ، وَلاَ يَخْمُدُ لَهِيْبُهَا ، وَلاَ يَنْتَهِي مُسَلْسَلُهَا ، إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللهُ العَزِيْزُ الحَكِيْمُ ، كُلَّمَا عُوْلِجَتْ مِنْهَا كَارِثَةٌ ، ظَهَرَتْ ثَانِيَةٌ ، وَكُلَّمَا أُخْمِدَتْ مِحْنَةٌ ، ثَارَتْ ثَالِثَةٌ ، وَهَاهِي بَعْضُ الدُّوَلِ المُجَاوِرَةُ لَنَا فِي الشَّرْقِ هَذِهِ الأَيَّامِ تُفْجَعُ بِمِحْنَةٍ جَدِيْدَةٍ ، وَكَارِثَةٍ عَظِيْمَةٍ ؛ بِإِعْصَارِ قُوْنُو المُدَمِّرِ ، المَصْحُوبِ بِالرِّيَاحِ العَاتِيَةِ ، وَالأَمْوَاجِ العَالِيَةِ ، وَالأَمْطَارِ وَالفَيَضَانَاتِ المُدَمِّرَةِ ، مَعَ مَا خَلَّفَهُ مِنْ أَضْرَارٍ وَآَثَارٍ وَدَمَارٍ عَلَى الدُّوَلِ التِي مَرَّ بِهَا هَذِهِ الأَيَّامِ حَتَّى الآَنَ .
وَهَذِهِ - أَيُّهَا الإِخْوَةُ – وَقَفَاتُ حَقَائِقٍ وَتَوْجِيْهٍ يَنْبَغِي عَلَى المُسْلِمِيْنَ جَمِيْعَاً أَنْ يَتَفَكَّرُوا فِيْهَا ، وَيُعِيْدُوا النَّظَرَ فِي مَجْمُوعِهَا ، وَيَسْتَفِيْدُوا مِنْهَا فِي التَّعَامُلِ مَعَ الكَوَارِثِ وَالمِحَنِ المُتَتَابِعَةِ التِي تَتَعَرَّضُ لَهَا البَشَرِيَّةُ كُلَّ يَوْمٍ فِي أَنْحَاءِ المَعْمُورَةِ ؛ فَالمُسْلِمُ لَيْسَ كَغَيْرِهِ مِنَ البَشَرِ ، يَعْبُدُ رَبَّاً وَاحِدَاً مُدَبِّرَاً عَزِيْزَاً حَكِيْمَاً فِي قَضَائِهِ وَتَقْدِيْرِهِ ، وَأَخْذِهِ وَعَطَائِهِ ، يَبْتَلِي عِبَادَهُ بِالسَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ ، وَيُرْسِلُ مِنَ الآَيَاتِ وَالعِبَرِ مَا يُؤَدِّبُ بِهِ المُجْرِمِيْنَ ، وَيُطَمْئِنُ بِهِ المُؤْمِنِيْنَ ، وَهُوَ فَوْقَ هَذَا وَذَاكَ مَأْمُورٌ بالاسْتِقَامَةِ ، وَتَرْكِ الغَفْلَةِ وَالمَعْصِيَةِ ، وَالتَّقَلُّلِ مِنَ الدُّنْيَا ، وَالاسْتِعْدَادِ للآَخِرَةِ ، وَأَخْذِ العِبَرِ وَالدُّرُوسِ مِنْ أَحْوَالِ الأُمَمِ وَالشُّعُوبِ .
أَلاَ مَا أَكْثَرَ العِبَرَ وَمَا أَقَلَّ الاعْتِبَارَ – أَيُّهَا الإِخْوَةُ – فِي كُلِّ عَامٍ ، بَلْ فِي كُلِّ يَوْمٍ يُحْدِثُ اللهُ تَعَالَى لِعِبَادِهِ شَيْئَاً مِنْ هَذِهِ الآَيَاتِ الكَوْنِيَّةِ ، وَالكَوَارِثِ العَظِيْمَةِ المُهْلِكَةِ ، التِي إِنَّمَا تَحْدُثُ بِقُدْرَةِ اللهِ تَعَالَى وَمَشِئْتَهِِ ، لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرَاً ؛ فَيَرْجِعُونَ إِلَى اللهِ تَعَالَى وَيَتُوْبُونَ ، وَيَصْلُحُونَ وَيُصْلِحُونَ ، ثُمَّ لاَ تُحَرِّكُ فِيْهِمْ سَاكِنَاً ، وَكَأَنَّ الأَمْرَ لاَ يَعْنِيْهِمْ ؛ أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ [التوبة : 126] . أَلاَ مَا أَشَدَّ قَسْوَةَ القُلُوبِ ، وَغَفْلَةَ العِبَادِ عَنْ آَيَاتِ اللهِ وَقُدْرَتِهِ .
إِنَّ المَعَاصٍِي سَبَبُ الكَوَارِثِ وَالمِحَنِ ، وَطَرِيْقُ التَّعَاسَةٍ وَالشَّقَاءٍ ، مَا حَلَّتْ في دِيَارٍ إِلاَّ أَهْلَكَتْهَا وَأَضْعَفَتْهَا ، وَلاَ فَشَتْ في مُجْتَمَعَاتٍ إِلاَّ دَمَّرَتْهَا وَأَزَالَتْهَا، وَمَا أَهْلَكَ اللهُ أُمَّةً مِنَ الأُمَمِ إِلاَّ بِذَنْبٍ ومَعْصِيَةٍ ، ومَا نَجَى مَنْ نَجَى وَفَازَ مَنْ فَازَ إِلاَّ بَتْوبَةٍ وإِنَابَةٍ واسْتِقَامَةٍ على أَمْرِ اللهِ سُبْحَانَهُ .
نَعَمْ – إِخْوَةَ الإِسْلاَمِ – إِنَّ المَعَاصِي وَالذُّنُوبَ هِي سِرُّ هَذِهِ البَلاَيَا المُتَتَالِيَةِ ، وَسَبَبُ الكَوَارِثِ المُتَعَاقِبَةِ ، والأَدْوَاءِ المُسْتَعْصِيَةِ التِي تَعْصِفُ بِالعَالَمِ كُلَّ يَوْمٍ ، وَتَتَخَطَّفُ النَّاسَ وَأَمْوَالَهُمْ مِنْ حَوْلِنَا وَمِنْ بَيْنِنَا .
وَهَذِهِ حَقِيْقَةٌ ثَابِتَةٌ ، وَقَاعِدَةٌ مُقَرَّرَةٌ فِي كِتَابِ اللهِ تَعَالَى ، وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم ، لاَ مَحِيْدَ عَنْهَا ، وَلاَ مَفَّرَ مِنْهَا ؛ فَهِي السَّبَبُ الرَّئِيْسُ فِيْمَا يَحْدُثُ للأُمَمِ وَالأَفْرَادِ مِنَ الكَوَارِثِ وَالنَّكَبَاتِ ، وَمَا عَدَاهَا مِنَ الأَسْبَابِ أَسْبَابٌ فَرْعِيَّةٌ تَبَعِيَّةٌ ، وَاللهُ عَزَّ وَجَلَّ هُوَ مُسَبِّبُ الأَسْبَابِ ، وَمُقَدِّرُ الأُمَورِ عَلَى مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ ، وَقَدْ قَالَ وَهُوَ العَزِيْزُ الحَكِيْمُ اللَّطِيْفُ الخَبِيْرُ : ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الروم : 41] .
كَمْ أَهْلَكَتِ المَعَاصِي مِنْ أُمَمٍ مَاضِيَةٍ ، وَكَمْ دَمَّرَتْ مِنْ شُعُوبٍ كَانَتْ قَائِمَةً ، وَلاَ تَزَالُ تَهْدِمُ فِي بِنَاءِ الأُمُمِ الحَاضِرَةِ ، وَتَنْخَرُ فِي كِيَانِ الشُّعُوبِ المُتَتَالِيَةِ ، وَمَا ظَهَرَتِ المَعَاصِي فِي أُمَّةٍ مِنَ الأُمَمِ ، وَلاَ انْتَشَرَ الفَسَادُ فِيْهَا إِلاَّ جَاءَهَا وَعِيْدُ اللهِ الذِي لاَ يُخْلَفُ ، وَتَحَقَّقَتْ فِيْهَا سُنَّتُهُ التِي لاَ تَتَخَلَّفُ عَنِ القَوْمِ المُجْرِمِيْنَ ؛ ) وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102) إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ [هود : 102-103] .
تَأَمَّلُوا – أَيُّهَا الإِخْوَةُ – أَحْوَالَ الأُمَمِ السَّابِقَةِ ، وَمَا حَلَّ بِهَا مِنْ عُقُوبَاتٍ قَاصِمَةٍ ، وَكَوَارِثَ مُهْلِكَةٍ ، وَاقْرَءَوُا كِتَابَ رَبِّكُمْ وَسُنَّةَ نَبِيِّكُمْ ، وقَلِّبُوا صَفَحَاتِ التَّأْرِيْخِ وَتَدَبَّرُوهَا ، فَفِي تَدَبُّرِهَا ذِكْرَى لأُوِلِي الأَلْبَابِ ، وَمَوْعِظَةٌ لأَهْلِ العُقُولِ وَالإِيْمَانِ :
مَا الذِي أَغْرَقَ قَوْمَ نُوْحٍ ، وَجَعَلَ المَاءَ يَعْلُو الجِبَالَ الرَّاسِيَةَ ؟ ، وَمَا الذِي أَهْلَكَ عَادَاً بِالرِّيْحِ العَقِيْمِ مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ [الذاريات : 42] سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ [الحاقة : 7-8]. وَمَا الذِي أَهْلَكَ ثَمُودَ بِالصَّيْحَةِ ؛ ) فَأَخَذَتْهُمْ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ [الأعراف : 78] . كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيْهَا . وَمَا الذِي قَلَبَ قُرَى قَوْمِ لُوْطٍ عَلَيْهِمْ ، فَجَعَلَ أَعْلاَهَا أَسْفَلَهَا ، وَرَجَمَهُمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيْلٍ ؟ . وَمَا الذِي أَغْرَقَ فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ فِي أَعْمَاقِ البِحَارِ ، وَخَسَفَ بِقَارُونَ وَدَارِهِ الأَرْضَ فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنْ المُنْتَصِرِينَ [القصص : 81] . وَأَرْسَلَ عَلَى قَوْمِ سَبَأٍ سَيْلَ العَرِمِ ، وَبَدَّلَهُمْ فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَى أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلاَّ الْكَفُورَ [سبأ:16-17].
إِنَّهَا الذُّنُوبُ وَالمَعَاصِي ، وَعَوَاقِبُهَا وَشُؤْمُهَا عَلَى الشُّعُوبِ وَالأُمَمِ وَالأَفْرَادِ ؛ وَتَكْذِيْبُ الآَيَاتِ وَالرُّسُلِ ، وَجُحُودُ نِعْمَةِ اللهِ عَلَى البَشَرِ ، وهَذِهِ هِي الحَقِيْقَةُ التِي لاَ مَحِيْدَ عَنْهَا ، وَلاَ مَفَرَّ عَنْهَا فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [العنكبوت : 40] .
عَنْ جُبَيْرِ بنِ نُفَيْرٍ التَّابِعِيِّ – رَحِمَهُ اللهُ – قَالَ : (( لَمَّا فَتَحَ المُسْلِمُونَ قُبْرُصَ ، فُرِّقَ بَيْنَ أَهْلِِهَا ، فَبَكَى بَعْضُهُم إِلَى بَعْضٍ ، فَرَأَيْنَا أَبَا الدَّرْدَاءِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - جَالِسَاً وَحْدَهُ يَبْكِي ، فَقُلْتُ : يَا أَبَا الدَّرْدَاءِ ! مَا يُبْكِيْكَ في يَوْمٍ أَعَزَّ اللهُ فِيْهِ الإسْلاَمَ وَأَهْلَهُ ؟! فَقَالَ : وَيْحَكَ يَا جُبَيْرُ ! مَا أَهْوَنَ الخَلْقَ عَلىَ اللهِ إِذَا أَضَاعُوا أَمْرَهُ ، بَيْنَمَا هِي أُمَّةٌ قَاهِرَةٌ ظَاهِرَةٌ ، لَهُمُ المُلْكُ تَرَكُوا أَمْرَ اللهِ ، فَصَارُوا إِلَى مَا تَرَى )) .
إِذَا كُنْتَ فِي نِعْمَةٍ فَارْعَهَا فَإِنَّ المَعَاصِي تُزِيْلُ النِّعَـمِ
وَحُطْهَا بِطَاعَةِ رَبِّ العِبَادِ فَرَبُّ العِبَادِ سَرِيْعُ النِّقَـمِ
أَيُّهَا الإِخْوَةُ فِي اللهِ:
لَقَدْ أَصْبَحَتْ كَثِيْرٌ مِنْ بِلاَدِ المُسْلِمِيْنَ – مَعَ الأَسَفِ الشَّدِيْدِ – كَبِلاَدِ الكُفَّارِ سَوَاءً بِسَوَاءٍ ؛ المُنْكَرَاتُ مُعْلَنَةٌ ، وَالفَوَاحِشُ مُرْتَكَبَةٌ ، بِلاَ نَكِيْرٍ وَلاَ حَسِيْبٍ ، وَالبُعْدُ عَنِ اللهِ وَالغَفْلَةُ عَنْهُ مُسَيْطِرَةٌ مُتَحَكِّمَةٌ ، وَإِنَّ للذُّنُوبِ وَالمَعَاصِي مِنَ الآَثَارِ القَبِيْحَةِ المُضِرَّةِ بالبَدَنِ والرُّوحِ وَالمُجتَمَعِ في الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ مَا لاَ يَعْلَمُهُ إِلاَّ اللهُ ؛ وَأَقَلُّ هَذِهِ العُقُوبَاتِ وَأَكْثَرُهَا : نَزْعُ البَرَكَةِ مِنَ الأَعْمَارِ وَالأَوْقَاتِ وَالأَرْزَاقِ ، وَجَدْبُ الأَرْضِ وَقَحْطُهَا ، وَانْتِشَارُ الأَعَاصِيْرِ وَالزَّلاَزِلِ ، وَفُشُوُّ الأَمْرَاضِ المُسْتَعْصِيَةِ التِي لَمْ تَكُنْ في أَسْلاَفِنَا الذِيْن خَلُو مِنْ قَبْلُ .
وَِلأَجْلِ هَذَا فَقَدْ حَذَّرَ المُصْطَفَى صلى الله عليه وسلم مِنَ المَعَاصِي وَالذُّنُوبِ ؛ لِمَا لَهَا مِِنْ آَثَارٍ سَيِّئَةٍ وَخَطِيْرَةٍ عَلَى الأَفْرَادِ وَالمُجْتَمَعَاتِ ؛ دَخَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَاً فَزِعَاً عَلَى زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ – رَضِيَ اللهُ عَنْهَا – وَهُوَ يَقُولُ : (( لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ ! وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدْ اقْتَرَبَ ! فُتِحَ الْيَوْمَ مِنْ رَدْمِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مِثْلُ هَذِهِ ، وَحَلَّقَ بِإِصْبَعِهِ الإِبْهَامِ وَالَّتِي تَلِيهَا )) . قَالَتْ زَيْنَبُ : فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ! أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ ؟! قَالَ : (( نَعَمْ ، إِذَا كَثُرَ الْخَبَثُ )) . [متفق عليه]
وَرَوَى ابنُ عُمَرَ – رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا – قَالَ : أَقْبَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ : (( يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ خَمْسٌ إِذَا ابْتُلِيتُمْ بِهِنَّ ، وَأَعُوذُ بِاللهِ أَنْ تُدْرِكُوهُنَّ - وَذَكَرَ مِنْهَا - لَمْ تَظْهَرِ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطُّ حَتَّى يُعْلِنُوا بِهَا إِلاَّ فَشَا فِيهِمْ الطَّاعُونُ وَالأَوْجَاعُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مَضَتْ فِي أَسْلاَفِهِمْ الَّذِينَ مَضَوْا )) . [رواه ابنُ ماجه]
اللهُ أَكْبَرُ – إِخْوَةَ الإِسْلاَمِ - لَكَأَنَّ المُصْطَفَى صلى الله عليه وسلم بَيْنَ النَّاسِ اليَوْمَ ، لِيَرَى الكَوَارِثَ وَالمِحَنَ العَجِيْبَةَ الغَرِيْبَةَ التي تَعْتَرِي العَالَمَ كُلَّهُ بَيْنَ الحِيْنِ وَالآَخَرِ ، وَلِيَرَى الأَمْرَاضَ المُتَفَشِّيَةَ التي لَمْ تَكُنْ مَعْلُومَةً مِنْ قَبْلُ ، وَالتي أَفْجَعَتِ النَّاسَ وَأَهْلَكَتْهُم ، َوأَذْهَلَتِ الأَطِبَّاءَ وَحَيَّرَتْهُم ، مَا إِنْ يَفْرَغُوا مِنْ عِلاَجِ مَرَضٍ – وَلاَ يَكَادُونَ – حَتَّى يَظْهَرَ مَرَضٌ جَدِيْدٌ آَخَرُ
قَالَ عَلِيُّ بنُ أَبِي طَالِبٍ – رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - : (( مَا نَزَلَ بَلاَءٌ إِلاَّ بِذَنْبٍ ، وَلاَ رُفِعَ إِلاَّ بِتَوْبَةٍ )) . وَعَنِ الفُضَيْلِ بنِ عِيَاضٍ – رَحِمَهُ اللهُ – قَالَ : (( أَوْحَى اللهُ تَعَالَى إِلَى بَعْضِ الأَنْبِيَاءِ : إِذَا عَصَانِي مَنْ يَعْرِفُنِي ، سَلَّطْتُ عَلَيْهِ مَنْ لاَ يَعْرِفُنِي )) .
عَجَبَاً لِحَالِ النَّاسِ فِي هَذِهِ الحَيَاةِ ، يَعْصُونَ اللهَ تَعَالَى بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ، وَيُعْرِضُونَ عَنْهُ ، وَيَنْسَوْنَ فَضْلَهُ وَإِحْسَانَهُ ، وَيَكْفُرُونَ نِعَمَهُ عَلَيْهِمْ ، ثُمَّ إِذَا جَازَاهُمْ عَلَى بَعْضِ أَعْمَالِهِمْ بِالقَلِيْلِ ، إِذَا هُمْ يَتَسَخَّطُونَ وَيَقْنَطُونَ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ وَفَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ ؛ (( وَإِنَّ مِنَ الأَمْنِ لِمَكْرِ اللهِ إِقَامَةَ العَبْدِ عَلَى الذُّنُوبِ وَالمَعَاصِي ، وَهُوَ يَتَمَنَّى عَلَى اللهِ المَغْفِرَةَ وَالسَّلاَمَةَ )) .
لَقَدْ كَثُرَ الخَبَثُ ، وَفَشَتِ فِي المُجْتَمَعَاتِ كَافَّةً المُنُكَرَاتُ بِلاَ نَكِيْرٍ وَلاَ رَقِيْبٍ ؛ ضُيِّعَتِ الصَّلَوَاتُ، وَهُجِرَتِ المَسَاجِدُ ، وَظَهَرَ التَّبَرُّجُ وَالسُّفُورُ ، وَالتَّطَاوُلُ عَلَى شَرْعِ اللهِ تَعَالَى في الحِجَابِ وَالحِشْمَةِ وَالعَفَافِ ، وَتَطْبِيْقِ حُدُودِ اللهِ وَأَوَامِرِهِ ، وَكَثُرَ تَعَاطِي المُخَدِّرَاتِ ، وَالرِّشْوَةُ وَالرِّبَا وَالغِشُّ وَالتَّزْوِيْرُ وَالفُجُورُ في الخُصُومَاتِ ، وَالكَذِبُ وَالخِيَانَةُ ، وَانْتَشَرَ بَيْنَ النَّاسِ التَّبَاغُضُ وَالتَّحَاسُدُ وَالكَرَاهِيَةُ لِبَعْضِهِم البَعْضِ ، وَتَقْطِيْعُ الأَرْحَامِ ، وَتَضْيِيْعُ الحُقُوقِ ، وَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُ المَزَامِيْرِ الشَّيْطَانِيَّةُ ، وَالأَغَانِي الخَلِيْعَةُ في كَثِيْرٍ مِنْ بُيُوتِ المسلمين ، وَعُرِضَتْ فِيْهَا أَفْلاَمُ الفَاحِشَةِ وَصُوَرُ الفَسَادِ وَالخَلاَعَةِ وَالدِّيَاثَةِ ، وَكَثُرَتِ الغِيْبَةُ وَالنَّمِيْمَةُ وَالمَعَاصِي في أَوْسَاطِنَا وَمُجْتَمَعَاتِنَا ، فَِلِمَاذَا يَسْتَغْرِبُ البَعْضُ مِنَ النَّاسِ إِذَا عَاقَبَهُم اللهُ تَعَالَى عَلَى شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الذُّنُوبِ العَظِيْمَةِ، والكَبَائِرِ المُوْبِقَةِ ؟! .
وَلِمَاذَا لاَ يَسْتَفِيْدُونَ مِنْ مَطَارِقِ السُّنَنِ الإِلَهِيَّةِ ، وَيَعْتَبِرُونَ بِمَا يَجْرِي لَهُمْ وَمِنْ حَوْلِهِمْ ، وَيَرْجِعُونَ إِلَى اللهِ تَعَالَى وَيَسْتَغْفِرُونَهُ ، وَيَحْذَرُونَ مِنْ مَعْصِيَتِهِ وَكُفْرِ نِعْمَتِهِ ، إِلَى مَتَى الغَفْلَةُ عَنْ ذِكْرِ اللهِ تَعَالَى وَطَاَعَتِهِ ؟ ، وَإِلَى مَتَى البُعْدُ عَنِ التَّوْبَةِ إِلَى اللهِ وَالتَّسْوِيْفُ بِهَا .
أَيُّهَا الإِخْوَةُ فِي اللهِ:
إِنَّ هَذِهِ الكَوَارِثَ وَالمِحَنَ وَالأَمْرَاضَ التي تُصِيْبُ العَالَمَ كُلَّ عَامٍ إِنَّمَا هِي مَوَاعِظُ للعِبَادِ إِذَا تَرَكُوا أَمْرَ اللهِ ، وَغَفَلُوا عَنْ طَاعَتِهِ ، وَوَقَعُوا فِي مَعْصِيَتِهِ ، فَيَبْتَلِيْهِمُ اللهُ بِالضَّرَّاءِ ؛ لِيَرْجِعُوا إِلَى رَبِّهِمْ ، وَيُصْلِحُوا شَأْنَهُمْ ، وَيُقْلِعُوا عَنْ ذُنُوبِهِمْ وَمَعَاصِيْهِمْ ، وَيُفِيْقُوا مِنْ غَفْلَتِهِمْ .
قَالَ إِمَامُ التَّابِعِيْنَ قَتَادَةُ – رَحِمَهُ اللهُ - : (( إِنَّ اللهَ تعَالَى يُخَوِّفُ الناسَ بِمَا شَاءَ مِنَ الآَيَاتِ ، لَعَلَّهُم يَعْتَبِرُونَ ويَذْكُرُونَ ، ويَرْجِعُونَ ، ذُكِرَ لَنَا أَنَّ الكُوْفَةَ رُجِفَتْ عَلَى عَهْدِ ابنِ مَسْعُودٍ فَقَالَ : أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ رَبَّكُم يَسْتَعْتِبُكُم فَأَعْتِبُوهُ ، وَرُوِيَ لَنَا أَنَّ المَدِيْنَةَ زُلْزِلَتْ عَلَى عَهْدِ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ مَرَّاتٍ ، فقَالَ عُمَرُ: أَحْدَثْتُمْ وَاللهِ ، لَئِنْ عَادَتْ لأَفْعَلَنَّ وأَفْعَلَنَّ )) .
وَإِنَّ عَلَى المُسْلِمِ إِذَا رَأَى مِثْلَ هَذِهِ الأَحْدَاثِ المُهْلِكَةِ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى اللهِ تَعَالَى ، وَيَفْزَعَ إِلَيْهِ بِالأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ ، وَيَحْذَرَ مِنَ الغَفْلَةِ عَنِ اللهِ تَعَالَى ، وَيُكْثِرَ مِنَ العِبَادَةِ وَالاسْتِغْفَارِ وَالذِّكْرِ وَالصَّدَقَةَ .
لَقَدْ كَسَفَتِ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم ، فَخَرَجَ إِلَى المَسْجِدِ مُسْرِعَاً فَزِعَاً يَجُرُّ رِدَاءَهُ ، يَخْشَى أَنْ تَكُونَ السَّاعَةُ ، فَصَلَّى بالنَّاسِ ، وَأَخْبَرَهُم أَنَّ الكُسُوفَ آَيَةٌ مِنْ آَيَاتِ اللهِ تَعَالَى التِي يُخَوِّفُ بِهَا عِبَادَهُ ، وَأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ سَبَبَ نُزُولِ عَذَابٍ بالنَّاسِ ، ثُمَّ خَطَبَ النَّاسَ قَائِلاً : (( هَذِهِ الآيَاتُ الَّتِي يُرْسِلُ اللهُ لاَ تَكُونُ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلاَ لِحَيَاتِهِ ، وَلَكِنْ يُخَوِّفُ اللهُ بِهِ عِبَادَهُ ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ شَيْئَاً مِنْ ذَلِكَ فَافْزَعُوا إِلَى ذِكْرِهِ وَدُعَائِهِ وَاسْتِغْفَارِهِ )) . [رواه البخاري ومسلم]
وَتَقُولُ عَائِشَةُ – رَضِيَ اللهُ عَنْهَا - : كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا عَصَفَتْ الرِّيحُ قَالَ : (( اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ خَيْرَهَا وَخَيْرَ مَا فِيهَا وَخَيْرَ مَا أُرْسِلَتْ بِهِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّهَا وَشَرِّ مَا فِيهَا وَشَرِّ مَا أُرْسِلَتْ بِهِ )) . قَالَتْ : وَإِذَا تَخَيَّلَتْ السَّمَاءُ تَغَيَّرَ لَوْنُهُ ، وَخَرَجَ وَدَخَلَ ، وَأَقْبَلَ وَأَدْبَرَ ، فَإِذَا مَطَرَتْ سُرِّيَ عَنْهُ ، فَعَرَفْتُ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ ، قَالَتْ : فَسَأَلْتُهُ ، فَقَالَ : (( لَعَلَّهُ يَا عَائِشَةُ كَمَا قَالَ قَوْمُ عَادٍ : فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيم [ الأحقاف ] )) . [رواه مسلم]
كَمَا أَنَّ عَلَى المُسْلِمِ وَهُوَ يَحْرِصُ عَلَى الأَخْذِ بِالاحْتِيَاطَاتِ الوِقَائِيَّةِ ، وَيَتَعَاطِي وَسَائِلِ السَّلاَمَةِ ، أَنْ لاَ يَغْفَلَ عَنِ الالْتِجَاءِ إِلَى اللهِ تَعَالَى ، وَأَلاَّ يُكَابِرَ وَيَتَغَافَلَ وَيَتَجَاهَلَ سُنَنَ اللهِ الكَوْنِيَّةَ في عِبَادِهِ وأَرْضِهِ ، فَإِذَا سَمِعَ بِوُقُوعِ بَلاَءٍ أَو كَارِثَةٍ أَو حَادِثَةٍ فَلْيَعْلَمْ أَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هُوَ مُسَبِّبُ اَلأسْبَابِ ، وَمُصَرِّفُ الأَحْدَاثِ ، وَكُلُّ شَيْءٍ يَجْرِي بِتَقْدِيْرِهِ وَمَشَيْئَتِهِ ، فَمَا شَاءَ كَانَ ، وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ ، وَأَنَّهُ لاُ يُنْجِي مِنَ البَلاَيَا إِلاَّ التَّوْبَةُ وَالرُّجُوعُ إِلَى اللهِ سُبْحَانَهُ ، الذي يُجِيْبُ دَعْوَةَ المُضْطَّرِ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ ، وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ ، فَلاَ حَافِظَ وَلاَ وَاقِي إِلاَّ اللهُ ، وَلاَ مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلاَّ إِلَيْهِ .
فِي الصَّحِيْحَيْنِ مِنْ حَدِيْثِ ابنْ عَبَّاسٍ – رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - : (( أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - خَرَجَ إِلَى الشَّأْمِ ، حَتَّى إِذَا كَانَ بِسَرْغَ لَقِيَهُ أُمَرَاءُ الأَجْنَادِ ؛ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ وَأَصْحَابُهُ ، فَأَخْبَرُوهُ أَنَّ الْوَبَاءَ [ يَعْنِي الطَّاعُونَ ] قَدْ وَقَعَ بِأَرْضِ الشَّأْمِ . فَدَعَا عُمَرُ : الْمُهَاجِرِينَ الأَوَّلِينَ وَالأَنْصَارَ ، فَاسْتَشَارَهُمْ ، وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ الْوَبَاءَ قَدْ وَقَعَ بِالشَّأْمِ ، فَاخْتَلَفُوا ؛ فَقَالَ بَعْضُهُمْ : قَدْ خَرَجْتَ لأَمْرٍ وَلا نَرَى أَنْ تَرْجِعَ عَنْهُ . وَقَالَ بَعْضُهُمْ : مَعَكَ بَقِيَّةُ النَّاسِ وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، وَلاَ نَرَى أَنْ تُقْدِمَهُمْ عَلَى هَذَا الْوَبَاءِ . ثُمَّ دَعَا مِنْ كَانَ مَعَهُ مِنْ مَشْيَخَةِ قُرَيْشٍ مِنْ مُهَاجِرَةِ الْفَتْحِ ، فَلَمْ يَخْتَلِفْ مِنْهُمْ عَلَيْهِ رَجُلاَنِ ؛ فَقَالُوا : نَرَى أَنْ تَرْجِعَ بِالنَّاسِ وَلاَ تُقْدِمَهُمْ عَلَى هَذَا الْوَبَاءِ . فَنَادَى عُمَرُ فِي النَّاسِ أَنْ يَرْجِعُوا ، فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ : أَفِرَارًا مِنْ قَدَرِ اللهِ ؟! . قَالَ عُمَرُ : لَوْ غَيْرُكَ قَالَهَا يَا أَبَا عُبَيْدَةَ ! نَعَمْ نَفِرُّ مِنْ قَدَرِ اللهِ إِلَى قَدَرِ اللهِ ، أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ لَكَ إِبِلٌ هَبَطَتْ وَادِيَاً لَهُ عُدْوَتَانِ ؛ إِحْدَاهُمَا خَصِبَةٌ وَالأُخْرَى جَدْبَةٌ ، أَلَيْسَ إِنْ رَعَيْتَ الْخَصْبَةَ رَعَيْتَهَا بِقَدَرِ اللهِ ، وَإِنْ رَعَيْتَ الْجَدْبَةَ رَعَيْتَهَا بِقَدَرِ اللهِ ؟! . فَجَاءَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ ، وَكَانَ مُتَغَيِّبَاً فِي بَعْضِ حَاجَتِهِ ، فَقَالَ : إِنَّ عِنْدِي فِي هَذَا عِلْمَاً ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : إِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضٍ فَلاَ تَقْدَمُوا عَلَيْهِ ، وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلاَ تَخْرُجُوا فِرَارَاً مِنْهُ . فَحَمِدَ اللهَ عُمَرُ ، ثُمَّ انْصَرَفَ )) .
وَعَلَى المُؤْمِنِ الحَقِّ أَنْ يَسْتَعِدَّ لِلِقَاءِ اللهِ تَعَالَى فِي كُلِّ وَقْتٍ وَآَنٍ ، وَأَنْ يَعْمَلَ لِمَا بَعْدَ المَوْتِ ، وَأَنْ يَكُونَ رَاضِيَاً بِقَضَاءِ اللهِ تَعَالَى وَقَدَرِهِ ، مُطْمَئِنَّاً إِلَى خِيْرَتِهِ ، وَأَنْ يَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ ، وَمَا أَخْطَأَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيْبَهُ ، وَأَنَّ الأُمَّةَ كُلَّهَا لَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَنْفَعُوهُ بِشَيْءٍ ، لَمْ يَنْفَعُوهُ إِلاَّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ لَهُ، وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوهُ بِشَيْءٍ ، لَمْ يَضُرُّوهُ إِلاَّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ عَلَيْهِ ، رُفِعَتِ الأَقْلاَمُ وَجَفَّتِ الصُّحُفُ .إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ
وَمَنْ لَمْ يَمُتْ بِالسَّيْفِ مَاتَ بِغَيْرِهِ تَعَدَّدَتِ الأَسْبَابُ وَالمَوْتُ وَاحِدُ
فَالأَعْمَارُ مَكْتُوبَةٌ ، وَالآَجَالُ مَحْدُوْدَةٌ ، وَالأَرْزَاقُ مَقْسُوْمَةٌ ، وَقَدْ صَحَّ عَنِ المُصْطَفَى صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ : (( أَيُّهَا النَّاسُ ! اتَّقُوا اللهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ ؛ فَإِنَّ نَفْسَاً لَنْ تَمُوتَ حَتَّى تَسْتَوْفِيَ رِزْقَهَا ، وَإِنْ أَبْطَأَ عَنْهَا فَاتَّقُوا اللهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ )) . [رواه ابن ماجه]
أَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَقِيَ بِلاَدَنَا وَبِلاَدَ المُسْلِمِيْنَ جَمِيْعَاً الكَوَارِثَ وَالمِحَنَ ، وَأَنْ يَرُدَّنَا إِلَيْهِ رَدَّاً جَمِيْلاً ، وَأَنْ لاَ يُؤَاخِذَنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا ، وَأَنْ يَلْطُفَ بِعِبَادِهِ وَبِلاَدِهِ ، وَآَخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِيْنَ ، وَصَلَّ اللهُ وَسَلِّمْ وَبَارَكَ عَلَى عَبْدِِهِ وَرَسُوْلِهِ مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِ اللهِ ، وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِيْنَ ، وَالتَّابِعِيْنَ لَهُم بإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ
------------------------------------------
Bookmarks