ما زالت قضية لوكربي تثير جدلا في الأوساط الدولية بعد تأجيل مشروع رفع العقوبات عن ليبيا التي تقدمت به بريطانيا إلى مجلس الأمن في العشرين من أغسطس انـتظارًا للاتفاق الليبي الفرنسي في محاولة لخروج ليبيا من نفق الحصار والحظر ودوامة التعويضات، وتعد قضية لوكربي الأكبر في تاريخ القضاء البريطاني بالنسبة للاغتيال الجماعي إذ أن عدد شهود الاتهام بلغ 1058 شخصـًا، وقام المحققون الاسكتلنديون باستجواب حوالي 15 ألف شخص، وبحثوا عن دلائل من أكثر من ثلاثين بلدًا، وأدت إلى فرض حظر وحصار على شعب بأكمله أكثر من سبع سنوات، كما إنها رسمت بشكل واضح منحنيات التطورات الدولية منذ مناهضة العديد من دول العالم للسياسات الأمريكية، مرورًا حالة الهدوء بعد انهيار الاتحاد السوفييتي إلى محاولة الاتفاق بعد أحداث سبتمبر وإعلان أمريكا الحرب على الإرهاب منـتهيـًا بحالة الوفاق بعد دخول القوات الأمريكية بغداد في التاسع من أبريل الماضي.
وقد بدأت قضية لوكربي في الحادي والعشرين من ديسمبر عام 1988م عندما كانت طائرة البوينج 747 التابعة لشركة بان أميركان رقم "ن.379 ب أ" التي كان مقررًا لها أن تقوم برحلة رقم 103 بين مطار هيثرو في لندن ومطار جون اف كينيدي في الولايات المتحدة تـنتظر في مطار هيثرو في لندن حيث ينقل إليها ركاب وحقائب من طائرة أخرى لـ"بان أميركان" قادمة من مطار فرانكفورت إضافة إلى بعض الأمتعة التي حولت إليها من طائرة للخطوط المالطية (الرحلة ك.ام.108"، وبعد أن صعد إلى الطائرة ركابها البالغ عددهم 243 وطاقم الطائرة المكون من 16 فردًا أقلعت من مطار هيثرو الساعة السادسة و25 دقيقة، وبعد 38 دقيقة فقط وعندما أصبحت الطائرة على ارتفاع 31 ألف قدم وفي تمام الساعة السابعة وثلاث دقائق انفجرت في الجو وتـناثر حطامها فوق قرية لوكربي الاسكتلندية وقتل جميع من كان على متن الطائرة، ومعهم 11 شخصـًا من أهالي القرية كانوا على الأرض.
استـنفرت الشرطة الاسكتلندية طاقتها وبدأت التحقيق في الحادث كون الطائرة تحطمت على أرضها، وساعدتها في التحقيق أجهزة أمن أمريكية، نظرًا لأن الطائرة تابعة لشركة أمريكية، وتولى التحقيق الجنائي من الشرطة الاسكتلندية المفتش العام واتسون ماكاتير، أما فريق مكتب المباحث الفيدرالية الأمريكية (إف. بي. آي) فتولاه لورنس واتيكر، ورأس فريق وزارة العدل الأمريكية في التحقيق روبرت مولر، كذلك تدخلت في التحقيقات وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية (سي. آي. إيه) لوجود موظفين لها بين ضحايا الطائرة ورأس فريقها فنيسنت كانيتسرارو.
وأمضت الشرطة الاسكتلندية عدة أشهر في البحث عن حطام الطائرة في منطقة تبلغ 845 ميلا مربعـًا من الغابات والحقول والبحيرات والقرى، وبعد زيارات قام بها المحققون الاسكتلنديون لـ13 دولة وجمعهم 35 ألف صورة وإعدادهم ملفات بأسماء 12700 شخص وحصولهم على 15 ألف إفادة وبعد حوالي 3 سنوات من الانفجار، أعلن القضاء الأمريكي والاسكتلندي في شكل متـزامن في الرابع عشر من نوفمبر 1991م، أن عميلين لأجهزة الأمن الليبية هما عبد الباسط المقرحي والأمين خليفة فحيمة مسؤولان عن تفجير الطائرة، وقدمت هيئة المحلفين بمحكمة ولاية كولومبيا بالولايات المتحدة الأمريكية قرار الاتهام للمواطنين الليبيين، في نفس الوقت الذي أعلن فيه النائب العام لاسكوتلندا أن جهود البحث حول تدمير طائرة الـ"بان آم" الأمريكية أسفرت عن أدلة كافية لتوجيه الاتهام للمواطنين الليبيين وتطور الأمر إلى أزمة حقيقية بعدما طالبت الولايات المتحدة في بيان مشترك مع بريطانيا في 27 نوفمبر 1991م بتسليم المتهمين وفقـًا لقرار الاتهام وإلزام الجماهيرية بدفع التعويضات المناسبة لأسر الضحايا.
عملت الولايات المتحدة وبريطانيا على حشد كافة طاقتهما سياسيـًا وعسكريـًا لإجبار الجماهيرية على الرضوخ للشروط الأمريكية، فقامت بالاتصال بفرنسا ونسقت معها لضم مطالبتها بتعويضات لطائرتها (4.T.A.772) التابعة لشركة يوتا (D.C.10) [التي تم اسقاطها فوق صحراء النيجر في 19 سبتمبر 1989م أثناء رحلتها رقم 722 القادمة من برزافيل والمتجهة إلى باريس، فبعد أن توجهت من مطار أنجامينا في تشاد حيث أقلعت منه الساعة الثانية عشرة والربع انفجرت فوق صحراء تينيري في النيجر وأسفر الحادث عن مصرع 170 شخصـًا] ضمن إطار المطالب الأساسية للولايات المتحدة وبريطانيا، ونتج عن ذلك صدور إعلان مشترك في 30 ديسمبر 1991م عن كل من أمريكا وبريطانيا وفرنسا يطالب السلطات الليبية بأن تقبل بالإجراءات القضائية في أعقاب التحقيق الذي تم في تفجير طائرة ال"بان أميركان" والطائرة الفرنسية، وأن تقوم بتسليم المتهمين وتتعهد بشكل ملموس ونهائي بالتخلي عن جميع أشكال العنف والإرهاب.
واجتمع في واشنطن مسؤولون من الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا لفرض حظر على شركة الخطوط الليبية، والصادرات النفطية الليبية، إلى جانب حظر المبيعات العسكرية لليبيا، أعلنوا أنهم سيعملون لاستصدار قرار من مجلس الأمن، يطالب بضرورة تسليم المتهمين في حادث سقوط طائرتي "بان أميركان" الأمريكية فوق لوكربي ويوتا الفرنسية فوق النيجر، وأكدوا في حال رفض ليبيا تـنفيذ القرار، فإن الدول الثلاث ستطالب الأمم المتحدة بفرض عقوبات ضد ليبيا.
قرار مجلس الأمن رقم 731
واستطاعت الدول الثلاث تـنفيذ تهديداتها واستصدار قرار مجلس الأمن رقم 731 في الحادي والعشرين من يناير 1992م الذي أدان تدمير طائرة بان أميركان القائمة بالرحلة 103، وطائرة شركة اتحاد النقل الجوي (يوتا) القائمة بالرحلة 772، وما نجم عن ذلك من خسارة مئات الأرواح، ويطالب ليبيا بالتعاون في التحقيقات الخاصة بحادث لوكربي، ويعرب عن استيائه الشديد لعدم استجابة الحكومة الليبية، بصورة فعالة لطلبات الولايات المتحدة وبريطانيا، ويحث الحكومة الليبية على أن تستجيب على الفور استجابة كاملة لهذه الطلبات لكي تساهم في تحديد المسئولية حول تدمير الطائرتين وتساعد في القضاء على الإرهاب الدولي.
في نفس الوقت أكدت الجماهيرية الليبية أنه لا يمكن، وفقـًا للقوانين الدولية، تسليم المشتبه بهما إلى البلد الذي يتهمهما بارتكاب الذنب، وتقدمت في 3 مارس 1992م بطلب إلى محكمة العدل الدولية بهدف إقامة دعوى قضائية ضد أمريكا وبريطانيا للحكم في مواجهتهما بتطبيق اتفاقية مونتريال على النزاع موضوع الدعوى، وأضافت ليبيا طلبـًا مستعجلا تطلب فيه من المحكمة أن تتخذ تدابير للحفاظ على حقوق ليبيا بعدم تسليم المواطنين الليبيين وبمحاكمتهما طبقـًا لأحكام اتفاقية مونتريال.
قرار مجلس الأمن 748
إلا أن أمريكا وبريطانيا قطعتا الطريق على محكمة العدل الدولية باستصدار قرار مجلس الأمن رقم 748 في 31 مارس 1992م والذي جاء فيه أن ليبيا لم تعط إجابة فعالة للمجلس عما جاء في قراره رقم 731 لذا تطلب الأمر إصدار القرار 748 الذي يفرض حظرًا جويـًا وعسكريـًا على ليبيا يتم تـنفيذه اعتبارًا من 15 أبريل 1992م، وحظر تـزويد ليبيا بأي نوع من أنواع الأسلحة والمواد المتعلقة بها بما في ذلك بيع أو نقل الأسلحة والذخائر والمركبات والمعدات العسكرية والمعدات شبه العسكرية، وقطع الغيار وكذلك تـزويدها بالمشورة أو المساعدة الفنية، أو التدريب الفني، وتخفيض عدد ومستوى الموظفين في البعثات الدبلوماسية، والمراكز القنصلية الليبية تخفيضـًا كبيرًا، ومنع تشغيل جميع مكاتب الخطوط الجوية العربية الليبية، وقد امتـنعت خمس دول عن التصويت على هذا القرار هي (الصين، والهند، والمغرب، وزيمبابوي، وجزر الرأس الأخضر)، وقد أدى هذا القرار إلى صدور قرار محكمة العدل الدولية بتاريخ 14/4/1992م برفض التأشير بالتدابير المؤقتة في القضية المطروحة أمامها.
رفضت ليبيا قرار مجلس الأمن رقم 748 وهددت الدول التي تطبق القرار بحرمانها من البترول الليبي، وأعلنت مجددًا أنها مستعدة لتسليم المتهمين إلى دولة محايدة لمحاكمتهما، واستعدادها للتعاون مع فرنسا، ويمكن لمواطنيها أن يسلما نفسيهما طوعـًا لأدي دولة محايدة، مع عدم التفريط في السيادة الليبية.
توالت الضغوط الأمريكية على الجماهيرية وبلغت مداها في الحادي عشر من نوفمبر 1993م عندما أصدر مجلس الأمن القرار رقم 883، الذي يقضي بتصعيد العقوبات ضد ليبيا وتجميد أرصدة الحكومة الليبية في الخارج، وحظر استيراد بعض المعدات الخاصة بصناعة البترول، وإغلاق جميع مكاتب الخطوط الجوية الليبية وحظر أي تعاملات تجارية معها، كما يحظر القيام بالأعمال الهندسية والصيانة للطائرات داخل ليبيا وحظر الطيران مدنيـًا أو عسكريـًا، وتـنفيذ أحكام العقوبات المنصوص عليها في القرار 748، وصوت لصالح هذا القرار 11 دولة، وامتـنعت 4 دول عن التصويت (الصين، والمغرب، وجيبوتي، وباكستان).
المفضلات