هل ينتج غير الملتزم فناً إسلامياً؟
إن الإلتزام :يعني أن يحدد الإنسان مساره وفق المنهج الإسلامي تصوراً وسلوكاً*مما يعطي إنتاجه سمة النظافة والطهارة*ويرتفع به عن الدنس والانحدار.
وساحة الالتزام فسيحة مترامية الأطراف بعيدة الأرجاء*ولكنها مع ذلك ذات اطر وحدود*وهي مفتوحة لكل بني الإنسان*تشدهم إليها فطرتهم إذا صفت*ونفوسهم إذا شفت*واشواقهم إذا ارتقت*وإذن فهي ليست وفقاً على الملتزمين من المسلمين.
والفارق بين الملتزم وغيره من حيث الصلة بهذه الساحة*أن الملتزم لايجد المناخ المناسب له إلا في جنباتها*فهو يستنشق هواءها ويعيش على أرضها ويستظل بسمائها..أما غيره*فقد يمر بها*أو يلامس حدودها*أويقف بعد عناء السفر ليستظل بوارف أشجارها..وذلك أثناء خبطه في درب الحياة بعيداً عن الهدى..إن لقاءه بها عابر وعرضي.ومع ذلك فلا بد أن تؤثر فيه فيحمل بعض أريجها العطر يوشح به فنه*رائحة ولوناً*فإذا به يحمل ذلك الطابع من حيث لايشعر.
وإذن فمعين الالتزام ليس وفقاً على الملتزمين*فقد يغترف منه غيرهم*كل بحسب إمكاناته وقابليته.
وإزاء ما سبق*وحتى نكون على بصيرة من أمرنا*ينبغي أن نحدد موقفنا من الفن غير الملتزم.
ولتحديد نقاط البحث نجد انفسنا أمام سؤالين.
هل ينتج غير الملتزم فناً إسلامياً؟
وأين ينبغي أن نقف من إنتاجه بشكل عام؟
وجواباً على السؤال الأول يقول الأستاذ محمد قطب:
"....ومع ذلك فإن التصور الفني الإسلامي للكون والحياة والإنسان هو تصور كوني إنساني...مفتوح للبشرية كلها* لأنه يخاطب الإنسان من حيث هو إنسان*ويلتقي معه كذلك من حيث هو إنسان*ومن ثم يستطيع اي "إنسان"*أن يتجاوب مع هذا التصور*ويتلقى الحياة من خلاله – بمقدار ماتطيق نفسه هذا التلقي وذلك التجاوب – فيلتقي مع الفن الإسلامي بذلك المقدار.
ومن أجل ذلك لم نقتصر النماذج التي أخذناها من "بواكير" الأدب الإسلامي على المسلمين من الفنانين*بل اخترنا الى جانبها نماذج من فنانين غير مسلمين*لأنها تلتقي – جزئياً على الأقل – مع التصور الإسلامي وتصلح بذلك أن تسير مع المنهج الإسلامي للفن في هذه الحدود".
ويؤيده في هذا الاتجاه الأستاذ محمد المنتصر الريسوني حيث يقول معلقاً على كلامه:"...واعتبر – الأستاذ قطب – ما يصدر عن غير المفن الإسلامي إسلامياً*وقد اورد نماذج من أدب طاغور.
وهذه حقيقة ينبغي الاعتراف بها.ونعضد فيها الأستاذ محمداًولأن فن هؤلاء يحتوي مفاهيم إسلامية...".
ويذهب هذا المذهب ايضاً الدكتور نجيب الكيلاني*لكنه يخص بحديثه اولئك الذين نشأوا في المجتمع الإسلامي*ولكنهم غير ملتزمين*فيقول :"إن هناك تراثاً إسلامياً كبيراً في مجال الأدب الإسلامي لدى كتاب لم يعرف عنهم الالتزام المنهجي الإسلامي في حياتهم السياسية أو الفكرية أو الاجتماعية*ولايصح أن نتجاهل ذلك التراث مهما كان الأمر*فهم أولاً وأخيراً نتاج مجتمعنا المسلم..ويجب أن نتناول ذلك بالبحث الجدي*والتحليل النقدي العلمي..".
وإذن : فالفن الذي يلتقي مع المنهج الإسلامي يمكن أن يكون إسلامياً*وإن كان صاحبه غير مسلم أصلاً*أو كان مسلماً ولكنه غير ملتزم*فطالما أنه عبر بالفن الجميل عن معنى يحوطه المنهج الإسلامي بروائه*فهو إسلامي بهذا المعنى.
ولذا يمكن أن "يسلم" الشعر*ويكون صاحبه غير مسلم*كما يمكن أن يسلم الفن ويكون منتجه غير مسلم.نؤيد ذلك بقول النبي (ص) في أمية بن أبي الصلت وذلك بعد أن استمع مئة بيت من شعره.
إن هذا ليدل أن شعر ابن أبي الصلت كان متساوقاً مع المنهج الإسلامي حتى جعل صاحبه قريباً من الإسلام كما ورد في الرواية الثانية (إن كاد ليسلم).
البحث عن مصطلح:
وهكذا ذهب الأستاذ قطب الى الحاق فن غير المسلمين بالفن الإسلامي*إذا كان له لقاء مع التصور الإسلامي.وقد أيده في ذلك الأستاذ الريسوني*والدكتور الكيلاني.
ولكن هذا لايمنعنا من التساؤل :كيف نجعل إنتاج غيرالمسلم إنتاجاً إسلامياً؟ وربما كان صاحب هذا الإنتاج لايريد ذلك.ثم ألا يكون ذلك مغايراً للحقيقة؟
إن لقاء فنان في عمل فني ما*مع جانب من جوانب التصور الإسلامي*لايجعل إنتاجه أهلاً لأن ينضوي تحت عنوان الفن الإسلامي*لأن هذا الفن لايصدر إلا عن نفس مسلمة "قد أسلمت لله على طريقة الإسلام وبمفهوم الإسلام" كما يقول الأستاذ قطب.وإزاء هذا*كان لابد من التفتيش عن "عنوان" أو "مصطلح" لهذا النوع من الفن الذي فيه بعض معنى الإسلام*ولكنه لم يصدر عن المسلمين.
يمكن أن نسميه "فناً إسلامياً" لأن الفن الإسلامي فن إنساني*وإذا استطاع فنان ما أن يلتقي مع المنهج الإسلامي*فذلك يعني أنه ارتقى الى مستوى الفن الإنساني*فيمكن أن نطلق عليه هذه التسمية.
كما يمكن أن نسميه "فناً سامياً" من السمو والرفعة*وقد نسميه "فناً راقياً" من الرقي..
إنه من الممكن البحث عن عنوان يصبح مصطلحاً لهذا النوع من الفن*وحينئذ يظل مفهوم "الفن الإسلامي" دقيقاً وصادقاً.
الموقف من الفن غير الإسلامي:
وفي صدد الإجابة على السؤال الثاني - أين نقف من الفن غير الملتزم – يقول الأستاذ قطب :"ثم يبقى لدينا وراء ذلك نتاج عالمي ضخم – رائع في كثير من الأحيان – لايلتقي بالتصور الإسلامي*ولايسير مع المنهج الإسلامي للفنون* فما موقفنا منه؟وما راينا فيه؟.
إننا لن ننبذه كله بطبيعة الحال*ولن نمتنع عن قراءته ودراسته والاستمتاع بما فيه من جمال جزئي..على أن يظل في مفهومنا أنه جمال جزئي*وأنه – بكل مافيه من جمال وروعة – يقوم ابتداء على قاعدة أدنى وأصغر من القاعدة التي ينبغي أن ينشأ عليها الفن الإسلامي..الكوني الإنساني..الشامل المتكامل*الذي يشمل كل الوجود وكل الإنسان".
ثم يبين الموقف من المحايد منها بأنه: لاينبغي أن نحفل بها كثيراً*كما لاينبغي أن نسقطها من الحساب.
وفي المسار نفسه يتجه الدكتور عماد الدين خليل*حيث يرى ضرورة التعرف على تراث البشرية*ومتابعة المعطيات الأدبية في العالم كله*دراسة ونقداً ومقارنة..ثم إصدار الحكم عليها*لابالرفض أو القبول ولكن بالاختيار والانتقاء*والعزل والفصل..ثم إعادة البناء*شرط أن يكون الصدور في هذه الفاعلية عن العقيدة.
إنه لاينبغي لنا أن نتقوقع على أنفسنا*ونغلق أعيننا عما حولنا*بل لابد أن تكون حواسنا فاعلة على الاستطلاع الواسع*كما هي قادرة في الوقت نفسه على التمييز بين الغيث والسمين.
والحذر من جراثيم الفن الهابط أمر ضروري.ومما يساعدنا على هذا الحذر أمران:
• التزام "الملتقي" مشاهداً كان أم مستمعاً*ذلك الالتزام الذي يوفر المناعة الشديدة لجسم الثقافة في الأمة*وقد أثبت فاعليته فيما مضى*وبه أمكن بناء الوحدة الفنية.
• أن يساهم النقاد بدورهم في هذه الوقاية*وذلك بتسليط الأضواء على الثغرات التي من المحتمل أن يدخل منها الخلل الى الذوق العام الفني*حتى لاتصاب الأمة في إحساسها*فتتبلد مشاعرها*وتلتبس الأمور عليها*وتفتقد الحس المميز*كما حصل ذلك في الغرب.
• ولانشك أن ما أشار اليه الدكتور خليل..من الاختيار والانتقاء*والفصل والعزل ..أمر في غاية الأهمية في هذا الميدان.
Bookmarks