الوقفة الرابعة
في قوله r : أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما
هذه الوقفة نفرعها كالآتي :
أولاً: تعريف المحبة لغة واصطلاحاً:
قال ابن منظور: الحب نقيض البغض، والحب الوداد والمحبة، وأحبه فهو محب وهو محبوب، وتحبب إليه: تودد؛ وامرأة محبة لزوجها ومحب أيضا، والحب: الحبيب([18]).
وقال الفيروزآبادي: الحب: الوداد كالحباب والحب بكسرهما. أحبه وهو محبوب على غير قياس وتحابوا: أحب بعضهم بعضا([19]).
وقال ابن القيم: هذه المادة تدور في اللغة على خمسة أشياء :
أحدها: الصفاء والبياض؛ ومنه قولهم لصفاء بياض الأسنان ونضارتها: حبب الأسنان .
الثاني: العلو والظهور؛ ومنه حبب الماء وحبابه، وهو ما يعلوه عند المطر الشديد .
الثالث: اللزوم والثبات: ومنه :حب البعير وأحب، إذا برك ولم يقم .
الرابع: اللب، ومنه: حبة القلب، للبه وداخله .
الخامس: الحفظ والإمساك. ومنه حب الماء للوعاء الذي يحفظ فيه .
ولا ريب أن هذه الخمسة من لوازم المحبة، فإنها صفاء المودة، وهيجان إرادات القلب للمحبوب، وعلوها وظهورها منه لتعلقها بالمحبوب المراد، وثبوت إرادة القلب للمحبوب، ولزومها لزوما لا تفرقه، ولإعطاء المحب محبوبه لبه، وأشرف ما عنده وهو قلبه، ولاجتماع عزماته وإراداته وهمومه على محبوبه. فاجتمعت فيها المعاني الخمسة([20]).
واصطلاحاً: قال ابن أبي العز: هي تعلق قلب المحب بالمحبوب .
ثم قال: وقد اختلف في تحديد المحبة على أقوال نحو ثلاثين قولا، ولا تحد المحبة بحد أوضح منها، فالحدود لا تزيدها إلا خفاء وجفاء، وهذه الأشياء الواضحة لا تحتاج إلى تحديد، كالماء والهواء والتراب والجوع والشبع ونحو ذلك([21]).
وقد ذكر في تعريفها الإمام ابن القيم ثلاثين قولا([22]) منها :
المحبة: سفر القلب في طلب المحبوب، ولهج اللسان بذكره على الدوام.
ومنها: أن لا يؤثر على المحبوب غيره، وأن لا يتولى أمورك غيره .
ومنها: إيثار المحبوب، على جميع المصحوب .
وقال الإمام النووي: أَصْل المَحَبَّة المَيْل إِلَى مَا يُوَافِق الْمُحِبَّ * ثُمَّ المَيْل قَدْ
يَكُون لِمَا يَسْتَلِذُّهُ الْإِنْسَان * وَيَسْتَحْسِنهُ كَحُسْنِ الصُّورَة وَالصَّوْت وَالطَّعَام وَنَحْوهَا وَقَدْ يَسْتَلِذُّهُ بِعَقْلِهِ لِلْمَعَانِي الْبَاطِنَة كَمَحَبَّةِ الصَّالِحِينَ وَالْعُلَمَاء وَأَهْل الْفَضْل مُطْلَقًا * وَقَدْ يَكُون لِإِحْسَانِهِ إِلَيْهِ * وَدَفْعه المَضَارَّ وَالمَكَارِهَ عَنْهُ. وَهَذِهِ المَعَانِي كُلُّهَا مَوْجُودَة فِي النَّبِيِّ r لِمَا جَمَعَ مِنْ جَمَال الظَّاهِر وَالْبَاطِن* وَكَمَال خِلَال الْجَلَال* وَأَنْوَاع الْفَضَائِل * وَإِحْسَانه إِلَى جَمِيع الْمُسْلِمِينَ بِهِدَايَتِهِ إِيَّاهُمْ إِلَى الصِّرَاط الْمُسْتَقِيم * وَدَوَام النِّعَم * وَالْإِبْعَاد مِنْ الْجَحِيم([23]).
وقال ابن حجر في الفتح: قَالَ الْبَيْضَاوِيّ: الْمُرَاد بِالْحُبِّ هُنَا الْحُبّ الْعَقْلِيّ الَّذِي هُوَ إِيثَار مَا يَقْتَضِي الْعَقْل السَّلِيم رُجْحَانه وَإِنْ كَانَ عَلَى خِلَاف هَوَى النَّفْس* كَالْمَرِيضِ يَعَاف الدَّوَاء بِطَبْعِهِ فَيَنْفِر عَنْهُ * وَيَمِيل إِلَيْهِ بِمُقْتَضَى عَقْله فَيَهْوَى تَنَاوُله * فَإِذَا تَأَمَّلَ الْمَرْء أَنَّ الشَّارِع لَا يَأْمُر وَلَا يَنْهَى إِلَّا بِمَا فِيهِ صَلَاح عَاجِل أَوْ خَلَاص آجِل* وَالْعَقْل يَقْتَضِي رُجْحَان جَانِب ذَلِكَ* تَمَرَّنَ عَلَى الِائْتِمَار بِأَمْرِهِ بِحَيْثُ يَصِير هَوَاهُ تَبَعًا لَهُ * وَيَلْتَذّ بِذَلِكَ اِلْتِذَاذًا عَقْلِيًّا * إِذْ الِالْتِذَاذ الْعَقْلِيّ إِدْرَاك مَا هُوَ كَمَال وَخَيْر مِنْ حَيْثُ هُوَ كَذَلِكَ. وَعَبَّرَ الشَّارِع عَنْ هَذِهِ الْحَالَة بِالْحَلَاوَةِ لِأَنَّهَا أَظْهَر اللَّذَائِذ الْمَحْسُوسَة([24]).
* * *
([1]) كتاب العبودية لشيخ الإسلام ابن تيمية، ص: 44.
([2]) ينظر كتاب: الصداقة في الإطار الشرعي للدكتور عبد الرحمن الزنيدي، ص: 54-61 باختصار.
([3]) فتح الباري شرح صحيح البخاري، لابن حجر العسقلاني: 1/ 61، المكتبة السلفية.
([4]) صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان غلظ تحريم إسبال الإزار، برقم: (294).
([5]) صحيح البخاري، كتاب الإيمان، باب علامات المنافق، برقم: (33)، وصحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب خصال المنافق، برقم: (59).
([6]) روى البخاري في صحيحه معلقا في كتاب الإيمان، باب إفشاء السلام من الإسلام.
([7]) جامع الترمذي، كتاب صفة القيامة، باب فيه أربعة أحاديث، برقم: (2494).
([8]) صحيح البخاري، كتاب الجمعة، باب صلاة الضحى في الحضر، برقم: (1178)، وصحيح مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب استحباب صلاة الضحى وأن أقلها ركعتان، برقم: (721).
([9]) صحيح البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب ما يذكر من شؤم الفرس، برقم: (2858) واللفظ له، وصحيح مسلم، كتاب السلام، باب الطيرة والفأل وما يكون فيه من الشؤم، برقم: (2225).
([10]) صحيح البخاري، كتاب الصلح، باب إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود، برقم: (2697)، وصحيح مسلم، كتاب الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور، برقم: (1718).
([11]) فتح الباري شرح صحيح البخاري لابن حجر العسقلاني، (5/ 302).
([12]) شرح صحيح مسلم للنووي، المجلد الرابع، (12/ 16).
([13]) صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من رضي بالله ربا، برقم: (34).
(1) شرح صحيح مسلم للنووي، المجلد الأول (2/13).
([15]) فتح الباري شرح صحيح البخاري لابن حجر العسقلاني (1/60).
([16]) شرح سنن النسائي للسندي، المجلد الرابع، (8/94-95) .
(1) ينظر: «لذة العبادة» للشيخ سعد الصالح، ص: 16-17.
(1) لسان العرب لابن منظور 1/281 حرف الباء، فصل الحاء، باختصار .
([19]) القاموس المحيط للفيروزآبادي، 1/ 52 باب الباء، فصل الحاء، مادة: (الحب).
(1) مدارج السالكين لابن القيم 3/ 9-10 .
([21]) شرح العقيدة الطحاوية، ص: 167.
([22]) انظر مدارج السالكين لابن القيم، ص: 3/11-16.
(1) شرح صحيح مسلم للنووي، المجلد الأول، (2/ 14).
([24]) فتح الباري شرح صحيح البخاري، لابن حجر العسقلاني، (1/ 60-61).ونظرا لطول الشرح نجعله في الدرس السابق ونكمل شرحة ان شاء الله
__________________
Bookmarks