يتم نظم الزامل على هيئة بيتين أو أكثر من الصياغة الشعرية البليغة التي تؤدي غرضا محددا، بعدة أساليب وألحان، فهناك الزوامل القصيرة الأنفاس التي تنسجم وسرعة الحركة- صعودا أو نزولا على الأرض- وهي النمط الشائع في نظم زوامل الحرب ذات الإيقاعات الصوتية الحادة التي تثير حماس ونشاط جمهور الزاملين، وترفع معنوياتهم القتالية، وتهز معنويات الخصوم، علاوة على أن هذا النوع يميل إلى البدء بحرف النداء "يا" الذي يعمل على استفزاز المسامع وترويع العدو، على غرار ما أنشدته قبائل (قيفه) عام 1879 عندما وصلت لمناصرة (آل حميقان)، إذ قال شاعرهم:
· يانعوة الغناء ترزي واحربي
لاما الخلاقي يطعمش حالي وقير
ماشي عسل من ذي جناه الحربي
ماهل جنابي مصقلة وسط الجفير

وكان الرد على ذلك بزامل آخر يقول فيه منشده :
· يا نعوة الغناء بعقدش وكلي
قبل ما يافع يكرونش سفاح
مذهب الزيدي ماهو زوج إلش
مازوجش إلاّ ذي عقد عقد النكاح

أما النمط الآخر للزامل فهو الذي يمتاز بطول أنفاسه ، ورتابة ايقاعاته ، وهو ما نجده في أغلب أغراض الزامل الأخرى، كالترحيب، والفخر، والعادات القبلية، والرثاء وغيرها.. كما هو عليه الحال مع زامل الشاعر أحمد محسن من الضالع حين انتقد سياسة الإمام احمد قائلاً:
· مني سلام آلاف كلن يسمعه
وانت اسمع التسليم يانايف منيف
مولى الدراهم مسحه لا توجعه
والحبس والقياد ماهل للضعيف

· نشــأة الزامــل
تكاد المصادر اليمنية تخلو تماما من إشارة لتاريخ نشوء الزامل اليمني باستثناء ما أورده الأديب عبدالله البردوني (رحمه الله) من قصة يقول فيها: (أن بعض القبائل فرت في سنة دقيانوس إلى كهوف الجبال خوفا من هجوم المعتدي، وفي هدأة الليل سمعت أصوات جهيرة كثيرة العدد، بديعة الإيقاع لم تسمع أجمل منها إثارة وتحميسا، وكانت تردد باللغة الشعبية زاملا يهز النفوس، ويرنح قامة الصمت، وعندما أصغت إليه القبائل حفظت ذلك الزامل:

· قبح الله وجهك يا ذليل
عاد بعد الحرايب عافية
عند شب الحرايب ما نميل
باتجيك العلوم الشافية

وكانت أصوات الزاملين تقترب فتثير الفزع، وتبتعد فترجعها الرياح، وكانت القبائل المختبئة تخرج من مخابئها فلا ترى أحداً، وإنما تسمع ضجيجا وتشاهد أمواج الغبار، فتأكد المختبئون من اشتعال حرب بين الجان..).
تلك هي رواية البردوني، لكن في الحقيقة أن الفن الزواملي لم يأت من خرافة أسطورية أو من عالم الجن، بل إنه نشأ تلبية لحاجة اجتماعية استدعت مثل هذا الفن، وكان ظهوره في اليمن قديما جدا وليس بوسع أحد تحديده بزمن معلوم، حيث أن الفنون والألوان الأدبية تبدأ بحالات فردية أحادية يميزها عصرها على أنها تقليعة ما تلبث أن تجد أرضها في الواقع الاجتماعي، من خلال التجربة والتكرار والتعدد التي تبلور قالبها العام، فتأخذ بالتوسع والانتشار.
نحن نتفق مع القائلين بنشأة الزامل قبل الإسلام بمدة طويلة، لكننا نختلف مع الرأي القائل بوجود جميع ألوانه وأغراضه في تلك الفترة. فالزوامل الحربية هي النمط الذي عرفته تلك الفترة وشكل خلالها جزء من ثقافة عرب الجزيرة التي كانت تسير بجيوشها على إيقاع الطبول والدفوف ورجز الشعراء وشدو الغواني.
اما ألوان الزامل الأخرى فقد تطورت من الزامل الحربي في فترات لاحقة متفاوتة من العهد الإسلامي، بدليل أن وفد قبائل اليمن حين أقبل على الرسول (صلى الله عليه وسلم) للمصافحة ودخول الإسلام لم يقدم عليه بزامل رغم أن في الزامل تعظيم أكبر لشأن صاحبه، وشأن من نظم لأجله على حد سواء في حين أن المصادر التاريخية لم ترو شيئاً من هذا القبيل مما يدل على أن زوامل الترحيب و الأعراف القبلية- المعروفة اليوم- ماهي إلا أنماط مستحدثة، ومتطورة عن زوامل الحرب.
· تفوقــه الشعــري
رغم الخصوصية التي ارتبط بها الزامل بوطنه، وعدم انتشاره خارج حدود اليمن الإقليمية لكنه نجح في المحافظة على شعريته المتميزة، وتفوقه المعهود على الأنماط الشعرية الأخرى المعروفة في اليمن وغيرها، ولعل ذلك التفوق يأتي من عدة أسباب، ومؤهلات مهمة منها الآتي:

أولاً: بما أن الزامل يجسد فكرة واضحة ومتكاملة موضوعيا من خلال ضغطها ببيتين أو بضعة أبيات أحياناً، فإن ذلك أوجب على الشعراء صياغته بأسلوب شعري بليغ جداً، وفيه من الصور الشعرية والتشبيهات، والاستعارات ومختلف الأساليب البلاغية، ما يكفل لهم إيصال الموضوع أو الفكرة بأقل عدد ممكن من المفردات.
إن تلك الضرورات خلقت أدبا أساسه الرمز البلاغي الذكي، مع الأخذ بنظر الاعتبار أن النسبة الأعظم من الزوامل تتألف من (بدء وجواب)- أي أن الشاعر الأول يأتي بزامله وهو يترقب الرد عليه من أي شاعر آخر، لذا فإنه يجتهد كثيرا جدا في انتقاء المفردات وصناعة الزامل، أملاً في تضييق زوايا الرد المحتملة على نده، وعدم إتاحة الفرصة لردود متعددة لأكثر من شاعر قد تصبح مدعاة انتقاص من مكانته الأدبية في المجتمع.. وبالتالي فإن أجواء تلك المباراة الأدبية تضع المتلقي في المأزق ذاته، ومن هنا ينشأ الإبداع الفني، والتفوق الشعري الذي لا تضاهيه بلاغة، أو صناعة شعرية أخرى.
لنأخذ مثلا هذا الزامل الذي أنشده أحد الآباء بحق ولده الذي عقد العزم على الاستقلال بأسرته في بيت منفصل، فكان ذلك مثيرا لغضب الأب الذي عاتبه قائلاً:

· ياطير مهما طرت لاجو السماء ... لا بد ما تنزل رضا ولاّ صميل
من وين با تشرب إذا جاك الظما ... ون قلت ريشك يخزن الماء مستحيل

حاول الأب تشبيه ابنه بـ(الطير)، واستغل نقاط ضعف الطير، لكن براعة الابن، وقوة بصيرته مكنته من الرد على أبيه مستعيناً بنقاط قوة الطير، إذ قال:
· الطير لا قد طار عجز من رمى ... ون مد ريشه يقطع الخط الطويل
شي بعلمك طير قد صابه عمى... ولاّ بنى عشه على عابر سبيل!

ومن الملاحظ أن التفوق الزواملي الشعري على غيره من أنماط الأدب يمتد حتى إلى هكيل البناء اللغوي ولا يتوقف عند حدود بلاغة المعنى, ففي المثال التالي نجد أن الرد على زامل البدء جاء متكافئاً حتى بعدد مرات تكرار كلمة (شي)، إذ بدء أحدهم قائلاً:
· كل شي ماشي يجي إلا بشي ... الشي بما شي ما يجيشي بالبلاش
لا شفت حجمي قد طول عن مفرشي ... بامدد رجيلي على طيل الفراش

وكان المتلقي شيخا من ( الشعيب) يرى في القائل ، ومن هم في ملته سببا في حالة ضنك العيش التي كابدها الناس آنذاك ، من جراء وعودهم الكاذبة، فرد عليه قائلا:
· عن ماشي كما الشي أو كما الصبح العشي ...ذي ما معه شي بندقه مثل الطماش
شفت المناشي على القبايل تنتشي ... الزرع ماشي ذي زرعتوا على الرشاش.

ثانيا: لو نظرنا إلى العمر الزمني للزامل ، لوجدناه الأطول بين الفنون الأدبية الأخرى، والأوسع انتشارا أيضا، لأنه في معظم الحالات يتناول موضوعات عامة، وأحداث تهم الجميع. وهو الأمر الذي يجعل عمر الزامل من عمر الحدث نفسه، إضافة إلى كون هذه الزوامل ينظمها شاعر وترددها مجموعة، فتلتصق بالأذهان، وترتحل مع الأجيال تخلد الواقعة أو المناسبة وشخوصها، وتتحول بكل وضوح فيما يردده الناس اليوم من زوامل تعود إلى العهد الملكي والنضال الجماهيري الثوري، وربما ارتبطت بقضايا مصيرية ذات تماس مباشر بحياة الفرد..
فمن ذاكرة الصراع بين الملكيين والجمهوريين إبان ثورة 1962م، نستشهد بهذين الزاملين:
· يا سلامي صدر في جيش ما جمهر ... ما نبي مصر لا كفره ولا دينه
إمامنا البدر ما دام السما تمطر ... الله أكبر على اللي هم معادينة

ذلك الزامل بدأه أحد أفراد الجيش الملكي ، فرد عليه أحد الجمهوريين قائلاً:
· مصر ما قالت اكفر قالت تحرر ... ما فهمت الخبر ايش انت من عينه
القضا والقدر خلا البدر يتزفر ... والله إنه نشر ياذي مراعينه

ومن الأمثلة على الزوامل التي توثق الأحداث ، هذا الزامل المناهض للاحتلال البريطاني للجنوب ، بعد ان سعت بريطانيا لتشكيل اتحاد الجنوب من المحميات السبعة:
· الشعب صمم قال يشتي الحرية ... لا يشتي السبعة ولا منهم نفر
لا تبيح المحجر لرعيان البقر ... روسيا باتدخل وكوبا والمجر

أو كقول شاعر آخر في نفس المناسبة.
· سبعة عويله دخلوهم مدرسة ... والعالم الله أيهم ذي بايفوز
ان فاز واحد ون فازوا كلهم ... قد عادهم من تحت طربوش العجوز
وهناك زامل شهير جدا يؤرخ لحادثة نهب صنعاء الذي أعقبت اغتيال الأمام يحيى عام 1948 يقول فيه شاعر الإمام أحمد:
· يا حدا يا خيرة الله عليكم ... حق بيت المال كلن يرده
بارق أحمد بايحوم عليك ... جيش لا يحصى ولا أحد يعده

ثالثا: ينظم الزامل باللهجة العامية، كونه وليد الحياة الاجتماعية العامة، ولسان حال الفرد المعبر عن تفاعلاته الحياتية، وانفعالاته الوجدانية، فكان لذلك دور في إثراء تجربته الشعرية لأنه تحول إلى حاجة يومية تستدعيها أعراف القبيلة في مختلف طقوسها وشعائرها، ابتداء من صراعاتها المتجددة، ثم طريقة حلها، ومعالجتها للمشاكل الداخلية ، وفي المناسبات المختلفة، وكأسلوب للتعبير عما يجول في الخاطر من هواجس أو أفكار.
وأخيرا فإن الزامل أطلق الأبواب للفرد لترجمة حتى فلسفته الروحية، وانفعالاته الإنسانية في كل مكان وأوان.


منقول..