لماذا السجون ( 2 ) ويتبع
وطالما أن الزمن الثابت بالنسبة إليهم أدى إلى تمرد إبداعهم على العتمة والقضبان والنفي وسُبة الخروج إلى النور وجراح خطيئة الحبس التي لاحقتهم بظلم .. حتى لم يعد شروق الشمس وموعد الحرية والخلاص تعنيهم شوقاً مهما اقتربت مواعيدها، فإن الزمن كان بانتظار تحريك هذه الأحداث وإشهار ما خفي من سيرهم، هذا حال السجناء أنفسهم، أما أبناؤهم وبناتهم وأهلهم فقد عاشوا أسرى الشائعات، ومرام المتندرين، مقتولين بجريرة مَنْ سُجِن من ذويهم، يَزِرُون وِزْرَ السَّجِين، ويحملهم المجتمع تبعات المخطئين، ويدفعون ضريبة القرابة، فيحاصرهم الكل، وتتبعهم عيون الازدراء والتَّهَكُّم إلى أبعد زاوية من حسبات الظلم، وتركض الشائعات خلفهم مهما طال مضمار السباق باتجاه دوافع الابتلاء، تتهدم نفوسهم، وينفر منهم الأهل والجيران، وينخفض قدرهم، وتقل فرص العمل المتاحة لهم، دون ذنب اقترفوه ولا عار حملوه سوى أن خطايا المذنبين قد أصابتهم "هم".
في السجون تضج العنابر مرة بالعبرات التي تعصر الوجدان .. ويتصاعد أنين المظلومين في ليلهم الذي لا ينتظر صباحات الفرج، وتتعالى ضحكات اليأس أو الإيمان، فالسجن ليس لمن بداخله مذنبا مدانا بجرمه .. أو بريئا قادته الأحداث إليه ، لكنه تحول إلى عقوبة موجعة لكل الأبرياء في الخارج من الأهل والأقارب هما ونقصا وعارا يلاحقهم.
فالسيرة تبدأ من الاستدعاء إلى مقر السلطة بطريقته القاسية التي قد لا يوافق عليها الحاكم ولا يقرها النظام، لكنها لغة الأمر التي تولاّها من ليس قادرا ولا مؤهلا لممارستها باسم الشرع أو القانون أو الوطن أو الإنسانية ، فالسجن لا يعني تلك الغرف المظلمة والأسلاك الشائكة والجدران العالية، كما ليس الانقطاع عن الحياة العامة والعزلة عن الحياة فقط، بل يمتد حتى خروج السجين بريئا أو مذنبا وقد أنهى مدة عقوبته في حالة من انعدام معنى حياته، فيصبح هائماً في كل الأمكنة، متشرداً في كل العيون لا تعترف به الأماكن ولا يثق به أحد..
هكذا هي السجون بين الضرورة الملحة لردع المعتدين بزجهم في غيا هبها وخلف أسوارها، حماية للمجتمعات من بطشهم وعقوقهم، وبين مظلومين ساقهم الحظ العاثر إلى تلك الظلمات لتتحول الحياة الهنيئة إلى عذابات قاسية تراق عليهم في ليال تطول وكأنها لا تنقضي، وأيام من الظلام لا تنتظر انبلاج الفجر، ولا إطلالة شمس تحمل الدفء والحياة، وبين كل أولئك سيق بعض المبدعين الشعراء والأدباء والمفكرين إلى السجون، إحدى الشرائح التي لا ندعي براءتها كما أننا لا نملك اليقين باستحقاقهم دخول السجون..
وهأنا أستفتح بما كتبه أشرف السجناء : يوسف عليه السلام، بتهمة أخلاقية هو منها براء، فكتب على باب السجن الذي احتواه رغم براءته :
"هذه منازل البلوى، وقبور الأحياء، وشماتة الأعداء، وتجربة الأصدقاء" ، وقيل إن يوسف عليه السلام دعا لأهل السجون فقال : اللهم عطف عليهم قلوب الأخيار، ولا تُخْفِ عليهم الأخبار، فببركته عليه السلام هم أعلم الناس بكل خبر في كل بلد" والله أعلم ".
ثم أورد ما قالته الكاتبة المسافرة غادة السمان : "ليست قضيتي أن أتورط في الدفاع عن إنسانية المجرمين، وأتناسى ضحاياهم، لأن المجرم حين يهدد حياة الآخر يكون قد بادر إلى قتل إنسانيته وتنازل عنها أولا، ولكنني لم أستطع إلغاء قناعتي بوجود سجناء أبرياء، ولم أستطع أيضا التخلص من ارتباط السجن في ذهني بالقمع أكثر من ارتباطه بالعقاب العادل".
وهناك سجون أعدت من قبل الأهل لأهلهم وهي الأماكن المعزولة المهجورة التي آل إليها كل من عجز زمنهم عن تشخيص عللهم النفسية من قسوة الحياة حين كانت الغيبيات والجنون هي الملجأ الأخير لمن غلبتهم الحياة على صحتهم وتوازنهم الإدراكي، لمن غضبوا وقهروا بسخط المحبين فحوَّلتهم إلى مجرمين يُضْرَبون ويُحْرقون، وتستلب دماؤهم من أطرافهم ليخرج الجن المفترض من أجسادهم ..
وحين قرأت مقولة :[ أفظع الجرائم تقترف محتمية بأشرف القيم ] كنت تَوَّاقا إلى قراءة تاريخ السجناء وسيرهم التي تجمع بين ماضيهم قبل حبسهم وحقائق حياتهم وما روي عنهم في السجون أثناء اعتقالهم، ثم إن الحكم العام على السجناء والأسرى حكم ينطلق من خلال صورهم وسلوكهم أثناء سجنهم .. ثم من خلال عزلهم عن الحياة العامة، فكان يهمني أن أتوسل ـ بتتبعي لسيَرِهم ـ مقارنات مفترضة بين سلوكهم داخل السجن وحالاتهم قبل دخولهم إليه وقبل أن يُجًرَّموا بحق أو بغير حق .. أقارن بين قوَّتهم وضعفهم، حزنهم وأفراحهم الوفاء والتنكر لهم من الأهل والأصدقاء، تنازلاتهم، فصاحتهم، ندمهم، وإصرارهم )، وهنا وجب علي أن أقدم ما يشبه السير الذاتية لهذه الشريحة التي اختصها الناس بنظرة دونية وإن ثبتت براءاتهم، أو صحَّت أهدافهم، أو ارتكابهم لما ارتكبوه بمسببات مقنعة على المستوى الشخصي ربما بدوافع نفسية فاقت احتمالهم لتلك المواقف التي ربما طرأت على حياتهم دون تخطيط، وأيضا بما قد أصرُّوا وترصدوا له من الأذية وفداحة الجرم، فإذا آمنا بأن العرب الذين تمردوا على نظام القبيلة في يوم من الأيام إنما أرادوا أن يزيحوا عن كواهلهم سطوة القيود القبلية المتعسفة .. لأن قيد قسوة الطبيعة وشظف العيش عندهم يكفي عن القيود الأخرى، فقتلوا وتمردوا وشبَّبُوا وسرقوا وتحايلوا فسجنوا .. ومن ناحية أخرى قاتلوا عن الديار والأهل والأعراض والكرامة فأُسروا، فإن حقيقة ظلمات الأسر في إطار التسامح تبقى ذات اعتبارات وجدانية في البشر.
الغريب أن الذهنية العربية العاتية لم تتأثر كثيرا بسماحة ورحمة الدين الإسلامي فيما يخص السجناء، إن صح ما ترويه كتب التاريخ مما كان يحدث في السجون الأموية والعباسية وما بعدها، وإن ارتبطت ذاكرة التاريخ العربي بسير السجناء فإن القليل فقط من تفاصيل السلوك داخل السجون من عفو وتعذيب وإكرام وإهانة، تحدث في الغالب بعيدا عن أنظار الحاكم وغير مطابقة لما يأمر به، وإن لم يبرأ كل الحكام من ذلك..
أعترف بأنه كان علي أن أختصر الكثير من التفاصيل لأخرج بنماذج من سير السجناء تتناسب ودوافعي نحو مزيد من تكريس جماليات تجربة الكتابة في هذا النوع الهام والمختلف من أدب أفرزته معاناة خاصة في السجون، أو الأسر، أو النفي خارج الوطن.. بعيداً عن الأهل.
Bookmarks