لماذا السجون .. ؟؟ الحلقة [ 1 ] ويتبع
الحديث عن السجون والسجناء محاولة جادة للثأر من النفي والإقصاء والتغييب ، وليس من قبيل رفاه التناول، كما أن الكتابة عن السجن والسجناء ليست محاماة ولا دفاعاً عن المجرمين والخونة المذنبين المعتدين، ولا تبريرا لخطاياهم، ولا تفسيرا نلحن فيه بالقول لإعفائهم من جزاءات عدوانهم وبطشهم بالآخرين وعبثهم بالأمن واختراقهم أسوار الحياة الهادئة الماتعة التي يعيشها غيرهم فينقضُّون عليهم بالترويع وانتزاع الهدوء والطمأنينة منهم ليحيلوا الحياة في عيونهم رعباً أو حرماناً وقلقاً، وإنما هي وسيلة للوصول إلى زاوايا هامة في القضايا الاجتماعية يكتنفها تاريخ أدبي هام، وخاص، وملفت لكل المتذوقين والمُعْتَبِرين لشمولية الأدب للحياة.
فمن السجون تسرب أدب ما كان له أن يندثر، لتعدد وتنوع الروايات التي حال دون توثيق أحداثها بحرية، الموقف من الحكَّام وربما تدخل معامل فارق الزمن في زيادة أو نقص أو ضياع لبعض جوانبها، نسبة إلى جوانب الأدب الأخرى التي قتلت بحثاً وتحقيقاً ومعرفة، وبقي الحدث الفعلي فيها عرضة للروايات المستسلمة لحماسة الأنصار بولائهم وتبريراتهم تارة ، والخصوم بأحقادهم وتَشَفِّيهم وإرجافهم حول السجناء بما ليس فيهم تارة أخرى، كل ذك في مراحل زمنية كانت تزخر بتهم الانتحال، والآن فنحن بهذه الثورة المعلوماتية البحثية نمثل أمام مجتمعات لا تنفر من التهم بقدر ما تحفظها أرصدة تاريخية توظفها في إذلال الآخرين دون تسامح، فنتأخر كثيراً في التصالح مع الآخرين، ونتعمد أن نكرس في نفوسنا وفي أجيالنا مزيداً من التحديق في نقائص الآخرين وأخطائهم، ونصرُّ على المبالغات والمثاليات فينا بمزيدٍ من الانغماس في شئون الآخرين على رأي " ميلودي بيتي " وهذا ــ كما هو معروف ــ أسهل الأنشطة البشرية، بل وأكثرها إعاقة للمنتج الفردي، وتعطيلاً للقدرات، فينخفض التقدير الحقيقي لأهمية التصالح مع الذات ومع الآخر، بمن فيهم المبدعون وأصحاب الذائقة الأدبية التي سيتناول هذا الكتاب سيرهم من زاوية الإبداع.
فلماذا لا نتحدث عن هذه التجارب؟، فالسجون والسجناء حلقة مضيعة في ذاكرة الأدب العربي ، رغم قصصنا ورواياتنا وأشعارنا ، ورغم أن الكثير من الكتاب الأجانب قالوا إن الوطن العربي هو السجن الكبير، وأننا مع ثورة المعلومات، وزيادة حالات التآثر بين المجتمعات، أصبحنا على يقين أن هذا القول ينطبق على العالم وليس حكراً على العالم العربي .
وقد ثبت أن الهرب من مواجهة حقائق تاريخنا هروب وهمي مؤقت من حقائق تلك القضبان التي مثّلت جزءاً من عيوبنا أو ميزاتنا، كما ثبت أيضاً أن طرح هذا التراث هو العلاج الوحيد لكبرياء المجتمع وادعاءات تفرده بالفضيلة دون غيره، خاصة أن قوة الإنسان الحقيقية مرهونة بقدرته على التجاوز إلى مرارة الواقع كما هو بالفعل له وعليه مهما عظمت، والتغلب على عذابات التخفي وراء زيف البراءات الشكلية التي لن تغفرها مُدَوَّنة الظلم في التاريخ، بالقدر الذي لن تنكر ما في تاريخ العرب والمسلمين من الكرامة والعدل والإنسانية.
فبين أن تسلب حرية المرء ويصادر زمنه في عتمة السجن، وأن يكون السجن حياة محرضة على مزيد من الإبداع وتحميل الكلمة الأدبية بقضايا أكبر حجماً وأكثر صدقا، يقف سجن الحياة الأكبر يهبنا فرصة أن نتخيل حياة السجون من خلال نسيج حياتي نستدعيه تصورا ــ فحسب ــ دون أن نعيشه واقعا فعليا، إذ تعذرت على الكثير منا مشاهد الحياة النفسية للأسرى والمسجونين مظلومين أو مذنبين، في حين لا نعلم مدى حريتهم داخل السجون والمعتقلات نسبة إلى مزاعم سجن الحياة الأكبر ربما يختلف شعور نزلائها حين لم يعد لديهم ما يخسرونه ـ حتى من آمالهم ـ أم أنها الحياة التي بلغت مداها في نظرهم، لأنها لا تشبه مشاهد التَّلون الخارجية الأخرى عند المتنفذين المذنبين الأحرار إلاَّ من عذاباتهم النفسية التي لا تردعهم أيضاً.
لكل هذه التصورات أخذ إبداع السجناء بشغاف قلوبنا، ومسَّتنا وحدتهم في السجن، ودفعنا الخوف من مصيرهم أو الفضول أو التَّشَفي إلى مخيال العاقبة المخيفة المرتقبة للخَطَّائين الذين غفلت عنهم، أو أخطأتهم يد العدالة من الوقوع في عين المصير فتكشفت كوامن الخوف لدينا لتنطلق هاجسا يجلدنا بقسوة نيابة عن العدالة عن كل ما اقترفناه ونقترفه وتخطئنا أقدار العقاب، لنكتفي بمشاهد ماتعة بتاريخهم الأدبي، سواء ما تبقى منه وما سمحت أو لم تستطع السلطات مصادرته في حين أمكنها أن تزج بهم إلى السجون أو الموت فتسلل إلينا تاريخهم وسيرهم، وحفظه تاريخنا عنوة، رغم سطوتهم وجبروت ظلمهم، ليروي لنا تاريخاً من بوحهم ويهدي إلينا أدبهم وبلاغاتهم شعرا ونثرا وخطباً.
Bookmarks