مؤتمر حرض
ما أن علم الرئيس عبدالناصر بوجود مجموعة قوية من الصف الجمهوري من الذين حضروا مؤتمر الطائف والتقوا بالملك فيصل ومسؤولين في المملكة واتفاقهم مع قادة الصف الملكي من غير بيت حميد الدين من المشائخ والمثقفين وإعلان ما تم الاتفاق عليه إلا وبادر إلي جدة ليعقد مؤتمراً مع الملك فيصل ويخرجا بنفس القرارات التي خرج بها مؤتمر الطائف من إلغاء بيت حميد الدين، وإلغاء النظام الملكي، وإلغاء دولة السلال، وإقامة دولة في اليمن تشمل الجميع وقالوا: إلغاء الماضي الأسود والحاضر الدامي. واتفق عبدالناصر مع الملك فيصل علي عقد مؤتمر في حرض يضم وفدين أحدهما جمهوري والآخر ملكي، باستثناء السلال وبيت حميد الدين، ويعلنون الاتفاقية باسمهم ويطبقونها، وفعلاً تم عقد مؤتمر حرض المعروف في 26/11/1965م وتشكلت وفود الفريقين، الوفد الجمهوري برئاسة القاضي عبد الرحمن الإرياني، ومعه الأستاذ أحمد محمد نعمان، وأنا معهم، والشيخ أحمد علي المطري، والعميد محمد الرعيني، والعميد علي سيف الخولاني، والدكتور حسن مكي، وعدد من ضباط الثورة ومشائخ وعلماء وتجار الجمهورية، والوفد الملكي برئاسة السيد أحمد محمد الشامي الذي كان وزير الخارجية للملكيين، وعضوية عدد من المشائخ الملكيين الكبار منهم الشيخ ناجي الغادر، وحامس العوجري، وصلاح المصري، وغيرهم، ومن المثقفين مثل محمد عبد القدوس الوزير، وعلي عبدالكريم الفضيل، وغيرهم. جاء الوفد الملكي وهو مقتنع بما تم الاتفاق عليه بين عبدالناصر والملك فيصل حيث كان علي اتصال واتفاق مع الأخوة في المملكة العربية السعودية لكننا في الوفد الجمهوري أتينا ولم يكن بيننا اتفاق مع المصريين علي هذا ولم يبلغونا به وبمجرد ما أبلغونا رفضنا، وهو ما أدي إلي فشل المؤتمر، وكان في المؤتمر فريق ثالث من الصف الجمهوري سمي بالقوي الثالثة يضم بيت الوزير، والشيخ نعمان بن راجح، والنقيب سنان أبو لحوم، وهؤلاء كانوا من المؤيدين لقرارات الطائف . كان التصور الذي لدينا أنه عند وصولنا إلي حرض أن الذي سيتم فيه هو إتاحة الفرصة للتفاهم بين قادة الجمهورية وقادة الملكيين من مشائخ وغيرهم وإزالة الوحشة والتوتر أولاً ثم الاتفاق علي استيعاب عدد كبير من المشائخ الكبار والعلماء والمثقفين من الصف الملكي في أجهزة الدولة، وكنا علي استعداد لتقديم بعض التنازلات وإعطائهم بعض الفرص ليصبحوا شركاء معنا في الدولة .
وعندما وصلنا إلي حرض تلاقينا جميعاً بقلوب مفتوحة وصدور رحبة وتبادلنا القصائد والزوامل الشعبية الأخوية المعبرة، والكلمات الودية أثناء افتتاح المؤتمر ومنها كلمة القاضي عبدالرحمن الإرياني والتي عبر فيها عن روابط الأخوة بين اليمنيين مستشهداً بقول الشاعر
:
إذا احتربت يوماً فسالت دماؤها تذكرت القربي فسالت دموعها
ومن الزوامل المعبرة التي كانوا يرددونها زامل قاله الشيخ حامس العوجري وهو من كبار قادة الصف الملكي يقول فيه :
سلام يا اللي أنت لي وأنا لك
من دون الأقصي والبعيد إذا صـلح حــالي وحالك ما همنا رأي البعيـــد وكان هذا فعلاً هو الشعور المشترك لدي الجميع (إذا صلح حالي وحالك ).
وأول رد فعل لهذا التقارب كان من المصريين والسعوديين بأن فرقوا بيننا فبعد أن كنا جميعاً، الوفد الملكي والجمهوري، في مخيم واحد إذا بهم في صبيحة يوم من الأيام يفصلون الملكيين عنا ويفصلوننا عنهم ويعملون أسلاكاً شائكة!! كانت صفتهم الرسمية مراقبين ولكنهم في الحقيقة كانوا هم المرتبين للمؤتمر والمشرفين والمسيرين له، كانت اللجنة المصرية برئاسة اللواء عبدالعزيز سليمان و الفريق أول محمد فوزي، والسعودية برئاسة الدكتور رشاد فرعون مستشار الملك فيصل
.
واستمر المؤتمر ثلاثة أسابيع أو أكثر كنا نلتقي يومًا ونتوقف يومين أو ثلاثة أيام، وكنا نطلب أشخاصاً جددًا من صنعاء وعندما قطعنا شوطًا في المفاوضات إذا بالقادة المصريين في لجنة السلام المصرية السعودية يبلغوننا حرفياً بالشيء المطلوب منا الموافقة عليه وهو ما اتفق عليه عبد الناصر والملك فيصل وقالوا لنا وقد اجتمعنا في خيمة كبيرة إن الرئيس عبد الناصر يزف إليكم تحياته وينقل إليكم تعليماته وتوجيهاته وهو أنه قد تم الاتفاق والمطلوب منكم الموافقة علي ماتم الاتفاق عليه وهو إنهاء الملكية وإقصاء بيت حميد الدين وإقصاء السلال وقيام دولة تسمي دولة اليمن نظامها نظام جمهوري ودستورها دستور الجمهورية وقوانينها قوانين الجمهورية ما عدا الاسم ويشترك في هذه الدولة كل اليمنيين الملكي والجمهوري.. هذه تعليمات عبدالناصر. ولا أدري في نفس اليوم جاؤوا لنا بالتهديد أو في لقاء آخر عندما رفضنا، وأعتقد أنه في يوم آخر عندما رفضنا هذا المقترح والتهديد هو (إذا لم توافقوا علي هذا فالجمهورية العربية المتحدة سوف ترفع يدها ودعمها مادياً وعسكرياً عن اليمن وتترك صنعاء للقبائل الملكية يدخلونها ويذبحون الصف الجمهوري من أكبر واحد حتي أصغر واحد
).
بعد أن سمعنا ما قاله الوفد المصري سكتنا ولم يتكلم إلا القاضي عبدالرحمن الإرياني بحكمته قائلاً لهم: سمعنا ما قلتم وما نقلتموه عن الرئيس عبدالناصر وهو الذي لا نتوقعه ولا نتصور أن تكون هذه هي قناعة الرئيس جمال عبدالناصر الذي عمل وعمل وقدم وضحي من أجل اليمن وينتهي المشوار بهذا، هذا الذي لا نتصوره ولا نريده، وعلي كل حال اتركوا لنا فرصة نتشاور فيما بيننا
.
تركوا لنا فرصة لا أدري يومين أو ثلاثة أيام، اجتمعنا خلالها نستشف آراء بعضنا البعض وإذا بنا نفاجأ بمجموعة صغيرة داخلنا تتبني استسلاماً كاملاً وتريد إقناعنا بأنه ليس أمامنا إلا التسليم بما يراه الرئيس جمال عبدالناصر وبتوجيهاته التي نقلت إلينا وإلا فماذا بوسعنا أن نعمل؟ لسنا قادرين أن نقف علي أقدامنا بدونهم إذا نحن تحديناهم، نحن نعرف ظروفنا وقدراتنا فبدون الوجود المصري لا نستطيع أن نعمل شيئًا، ولهذا ليس أمامنا إلا الموافقة علي هذا أو المواجهة إذا تراجعوا عنا
.
وكنت أول من حمل عليهم قبل القاضي عبد الرحمن الإرياني، وقلت لا يمكن أن نقبل هذا الرأي وهذا التوجيه أبداً، ونحن علي استعداد للاستماتة والدفاع عن الجمهورية فإذا أصر المصريون علي موقفهم وانسحبوا فسنعمل ونعمل ونقاتل في الجبال والوديان وحتي في شوارع صنعاء، وسنقاتل وسط صنعاء حتي بالجنابي، ورفعت جنبيتي. فشد هذا الموقف القاضي الإرياني الذي رد عليهم أيضاً حتي أسكتناهم، وفي اليوم الثاني اتصل القاضي عبد الرحمن الإرياني بالفريق حسن العمري حيث كان السلال قد أصبح مجمداً والعمري هو الذي يسير الأمور في صنعاء بعد أن أنضم إلي صفنا ضد السلال
.
وفي اليوم الثالث وصلت إلي حرض طائرة تقل الفريق العمري وبعض الضباط والمشائخ والمسؤولين، واتفقنا علي هذا الرأي والتقينا باللجنة العربية حسب الموعد وأبلغناهم بموقفنا، لم نبلغهم بالتهديدات، لكن القاضي رد عليهم ببرود وحكمة ونحن سكتنا، قام الوفد المصري بإبلاغ عبد الناصر بهذا الموقف ولم يمض أكثر من يومين أو ثلاثة أيام إلا وعبد الحكيم عامر يعلن في تصريح بثته الإذاعة أن القوات المصرية ستبقي في اليمن عشرين سنه، وأبلغوا الجانب السعودي بالموقف الجمهوري، وانتهي المؤتمر ونحن لا زلنا في حرض، وكأنهم كانوا يجسون نبضنا لأنهم اعتبروا أن الذين حضروا مؤتمر حرض متفقين مع الذين حضروا مؤتمر الطائف. وفشل المؤتمر وعدنا نتقاتل في كل جبل وبقينا في ميدان المعركة العسكرية، وبعد فترة
عاد السلال حيث كان مجمدا في القاهرة