اشرف الريفي :الوحدوي نت
على أسرَّة الموت تلتهب آلام أطفال تحتضنهم صالة رثة في* مستشفى الثورة العام بصنعاء،* يطلق عليها مجازاً* اسم* "مركز الأورام*".
وهناك أيضاً* يغلف الإهمال والتلاعب بأرواح الناس،* مآسي* أطفال هزمهم مرض سرطان الدم،* وحاصرهم عوزهم في* الرضوخ لإهمال حكومي* داخل مشفى لم* يعد* يلمس المريض من اسمه شيئاً*.
في* الوقت الذي* كانت تقودني* فيه خطواتي* صوب مستشفى الثورة،* لتلمس أوضاع مرضى* ينتظرون الشفاء والاهتمام،* لم أكن أتخيل أن ممراً* هامداً* يسار مدخل المستشفى،* سيكون محط مقصدي*.. ولم أكن أتوقع أن* يصدمني* مشهد كوم من الأطفال لم تستوعبهم الأسرَّة،* وإحباط أولياء أمور معدمين ليس أمامهم من خيار سوى مراقبة موت أطفالهم البطيء داخل تلك الصالة* غير الصحية،* أو تركهم في* المنازل بعذاباتهم* ينتظرون أمراً* كان مقضياً*.
إنه السرطان الذي* تنهب من أجله ميزانيات الوطن لسفر عديد مسؤولين الى بلاد العالم المتقدم لمكافحته*.. هو ذاته* يتجول في* دماء أطفال من أسر فقيرة*.. يتألمون،* يبكون،* لتتحول معاناتهم الى حالة من التسمر،* وتشخص معها أيضاً* أبصار تحاول ألاّ* تعي* شيئاً*.
عظمة وإهمال
نساء عظيمات،* كنَّ* بجوار أطفالهن،* قهرن العوز،* واشتغلن في* المنازل وأعمال مختلفة،* لتوفير قيمة علاجات وإبر كيماوية تصرف للمريض،* قيمتها تتراوح ما بين *٠٠٦١ و*٠٠٠٥ ريال*.. هذا في* مستشفى كان* يفترض أن خدماته مجانية*.
بحضن أمه كان* يجثم الطفل محمد سعيد أحمد إسماعيل العزاني،* البالغ* من العمر أربع سنوات وأربعة أشهر*. سرطان الدم فتك به،* وأنتج عنده* -إضافة الى معاناته*- تورماً* في* الطحال*.
أربعة أشهر ونصف ومحمد منتفخ البطن ومشخص البصر داخل قسم الأورام في* المستشفى الجمهوري،* يحيط به الإهمال،* خسرت على علاجه أسرته ما* يقارب *٠٥٢ ألف ريال*.
وجع ومذلة
وفي* الوقت الذي* كان* يربطه بقربة الدواء أنبوبة مائية مربوطة في* يده اليسرى،* كان محمد كتلة من الوجع*. كان من حقه أن* يلقى علاجاً* مناسباً* واهتماماً* أكبر،* ومن حقه أن* يلعب الكرة في* قريته بصبر،* مع الأطفال هناك،* لا أن* يتحول الى كرة منتفخة دون اهتمام* يعيده الى وضعه الطبيعي*.
في* السرير المجاور لسرير محمد،* تتقاسم هيفاء،* وعهود سريراً* واحداً،* يحتضن آلامهما،* ويطفح بحجم مأساتهما*.
هيفاء محبوب محمد* غالب؛ ابنة منطقة حيفان،* والسنوات الخمس،* تمكث في* هذا المكان منذ سنة،* ولم* يقدم لها شيء لتحسين صحتها،* والقضاء على سرطان* يهدد حياتها*.
لم تستطع هيفاء الكلام معنا،* قابلت ابتسامتي* المواسية لها بتغطية وجه بريء أنهكه الألم،* كانت تحمل من الشكوى والمرارة ما* يغيب عن اهتمامات رئيس الدولة الذي* يتجول هذه الأيام في* عديد مدن لاتقوده مسؤولياته لزيارة مفاجئة لأحد مشافي* تلك المدن،* ليعرف حينها حجم المأساة وحقيقة فشله*.
هيفاء المأسورة بالألم،* لاترى فائدة من زيارات رئاسية لعدد من المدن* يصرف عليها ملايين كانت كفيلة بإنهاء معاناتها لو وجهت لخدمة الصحة وتوفير إبر الكيماوي* التي* لاتستطيع والدتها شراءها*.. أو كان بالإمكان أن تجنب والدة الطفلة مذلة علي* الخولاني* الذي* رمى في* وجهها ورقة محولة من دكتور القسم،* يطلب فيها علاجاً* للطفلة من الجمعية التي* يعمل فيها*.
لم تستطع أم هيفاء إخفاء دموعها وهي* تشكو من رمي* طبيب في* جمعية خيرية من أهدافها مسح دموع القهر عن مثل هكذا أسر،* مذكرة تطلب دواءً،* في* وجه امرأة طلقت من زوجها الذي* تركها وحملها عبء إعالة أربعة أطفال،* من بينهم هيفاء بأوجاعها*.
هو القهر بعينه الذي* يلاحق بسطاء الوطن والمسحوقين*. وهي* الصورة التي* تختزل في* تقاسيمها* غبن وطن،* وفهلوة ديناصورات بهيئة بشر*.
كما قلنا سابقاً،* فإن عهود* يوسف تتقاسم مع هيفاء سريراً* واحداً،* إلا أن جسم عهود الشاحب* يبدو* غير قادر على تحمل سرطان* يسكن في* الغدد الليمفاوية*.
أم عهود تشكو من تدني* الخدمات وارتفاع تكاليف العلاج الذي* قالت إنها تشتري* معظمه على حسابها،* ولا تعرف شيئاً* عن جمعية تقدم لهم* يد العون*.
وليس سواه أخو عهود ابن الخامسة عشرة،* محمد اليريمي،* من* يعيل أسرة مكونة من سبعة أشخاص،* ويصرف على علاج أخته*.
ويبدو أن والدة محمد دائماً* ما تدعو الله بشفاء طفلتها،* وتجنيب ابنها الذي* يملك بسطة متجولة،* من إطارات أطقم البلدية*.
معاناة
شهر في* المستشفى الجمهوري،* وشهران في* الثورة حتى الآن،* قضاها الطفل ضياء محمد* غانم؛ القادم بوجهه من مشيخة الجعاشن بإب،* ومازال* يخضع لعلاج كيماوي* دون أي* تحسن في* صحته،* حسب مطيع أخيه الذي* صرف ما* يقارب *٠٠٣ ألف ريال،* في* ظل دولة ألغت مجانية العلاج من قاموسها*.
في* سرير مجاور،* كانت أسماء جسماً* منتفخاً* أرغمها على عدم الجلوس أو الاستلقاء على الظهر،* لتظل منكبة على وجهها عنوةً،* بعد أن وصل السرطان الى دماغها*.
يقول والد الطفلة نعمان محمد من أبناء منطقة الشعر بمحافظة إب،* إن أربع سنوات هو عمر المرض الذي* فتك بطفلته التي* سبق لها وتحسنت،* إلا أن المرض عاودها مرة أخرى وأفقدها السمع،* وأعادوها الى المستشفى للخضوع للعلاج الكيماوي*.
نعمان الذي* بذل كل ما* يملك من أجل تلمس الشفاء لطفلته،* باع دباباً* وخلاطة كان* يملكهما،* ومازالت طفلته أسيرة إهمال مستشفى بخدمات سيئة لاتحترم آدمية الإنسان*.
بالطبع،* لن* يكن مجد محمد حلقوم،* أو رندة عبده سيف السامعي،* أو جلال عبدالحكيم آخر ضحايا مرض سرطان الدم،* بل إن هناك عديداً* من الأطفال الذين تغيب براءتهم بفعل إهمال الدولة،* وتردي* الخدمات الصحية*.
ولعل مرض سرطان الدم ليس وحده الذي* يفتك بأطفال البلد،* بل إن سرطان الفساد* يساعد على عذابات الملايين*.
فضاعة
ما سبق صور حية لمعاناة جسيمة تبدد أحلام الطفولة،* وتسحق صفاء الحياة وعناوين البراءة،* ولكن هل توقفت المأساة عند هذا الحد؟
الأفظع من ذلك أن مركز الأورام* غير مكتمل،* إلا أنه* يستقبل المرضى رغم عدم وجود التشخيص والمختبر بشقيه الأنسجة والمحاليل*.
ومن المفترض أن* يقدم المركز العلاج الكيماوي* والإشعاعي،* إلا أن ذلك لم* يتم*.
والأمر من ذلك أنه تم شراء أجهزة للمركز* غير مطابقة،* بملايين الدولارات،* تم بعد ذلك إحراقها*.
وفي* الوقت الذي* لم* يكتمل فيه المركز الرئيس في* صنعاء،* ذهبت الوزارة لإنشاء مركزين آخرين في* الحديدة وإب*. وطبعاً* لن* يكون حالهما بأفضل من حال مركز مستشفى الثورة*.
إنشاء جمعية خيرية لمساعدة المرضى المعوزين والرقابة على الأدوية والكشف عن المواد المستهلكة والمساعدة في* بناء مراكز أورام،* خطوة جيدة،* إلا أن التقولات حول هذه الجمعية زادت سوءاً*.
ويقال إن الجمعية تقوم بشراء أصناف الأدوية الغالية من الشركات المحتكرة،* رغم وجود أصناف دوائية لنفس العلاج والبروتوكولات بسعر رخيص*.
وحسب مصادر مطلعة،* فإن ما* يقارب *٠٨١ مليون ريال تم صرفه خلال العام *٥٠٠٢م،* مقابل شراء أدوية*.
ومؤخراً* صدر قرار من مدير المستشفى بتشكيل لجنة تسمى اللجنة الاستشارية لأمراض السرطان،* إلا أن المركز* ينقصه العديد من الأشياء مثل أقسام الجراحة،* المختبرات،* الأطفال،* والنساء والتوليد*.
كما أن وضع المركز المتواضع ليس مهيأً* بعد ليكون مركزاً* بالتخصصات المختلفة*. ولكم أن تتخيلوا أن عمليات تجرى داخل* غرفة ضيقة بشكل كشك صغير،* وفوق طاولة متواضعة،* والغرفة ذاتها* يستخدمها الدكتور كذلك للمعاينة*.
جمعية بلا خير
الجمعية الخيرية لمساعدة مرضى السرطان لم تقم بدور سوى شراء الأدوية،* ولم تُلمس مساعدتها للفقراء المعوزين من السرطان،* كما سمعنا ذلك من المرضى أنفسهم،* الذين أشاروا الى أن الجمعية لاتقوم بمساعدة سوى الأغنياء وأصحاب القدرة*.
إذن،* لماذا أنشئت اذا كان المعوزون من المرضى لم* يلمسوا تعاونها بعد؟*!
ورغم جهود الحاج عبدالواسع هائل سعيد لتفعيل دور الجمعية،* إلا أن بقية القائمين على الجمعية لايقومون بأدوارهم من أجل تحقيق الأهداف المرجوة*.
الدكتور عبدالحميد أبو حاتم،* الدكتور المشرف على قسم الأورام،* قال إن القسم* ينقصه الكثير،* وإنه لم* يتسلم سوى كاميرا مستخدمة،* وثلاجة لحفظ الأدوية،* فيما تصرف مرتبات لأشخاص آخرين*.
ورغم أن ما* يقارب *٠٥٤ مليون ريال تصرف قيمة علاجات في* السنة،* إلا أن العلاجات تختفي* معظم الأحيان،* ناهيك عن أنها تكون* غير مطابقة للمواصفات،* حسب مختصين*.
وتظهر مشكلة أخرى كشفتها زيارتنا الى قسم الأورام،* عندما قابلنا شكاوى بأن معظم الأدوية تهرب وتباع في* الصيدليات،* فيما المركز* يبقى بدون علاجات حتى* يغيب الموت أرواح عدد من الأطفال*.. فهل من فساد أفظع من ذلك؟*!
احتيال
الأمر من ذلك أنه تم منع إعطاء تقارير للأمراض،* بحجة وجود مركز أورام،* بدل ما كان المريض* يأخذ *٠٦ ألفاً* مع تذكرتين ونصف للطفل بقيمة تصل الى *٠٦١ ألفاً* مقابل تنقلات*. ولكن ما* يحدث أن عديد حالات تدخل المركز وتخرج للعلاج في* العيادات الخاصة،* بل إن العلاج* يصرف في* المركز ويستخدم في* العيادات الخاصة*.
تلاعب والتفاف على أموال خصصت للمرضى المعوزين،* يتم هبرها بطرق مختلفة،* حيث هناك مقرر للمريض *٠٠٢١ دولار مع تذاكر للسفر الى الخارج،* إلا أن ما* يصرف هو *٠٠٠١ دولار،* ليس للمريض،* وإنما للمركز الذي* يأخذ امبلغ* باسم المريض،* ويعطي* نسبة للدكاترة تصل ما بين *٠٠٢ و*٠٠٤ ألف ريال،* وتلهف *٠٠٢ دولار بكل برود*.
تواطؤ
قضية أخرى في* هذا الجانب* يتم فيها مخالفة القانون،* حيث أن المجلس العلمي* في* المستشفى لايوثق شهادات الاختصاص لأعضائه المعينين من قبل الجمعية الخيرية،* وكان* يفترض أن* ينتخب هؤلاء الأعضاء من قبل النقابة*. والأدهى من ذلك أن الجمعية الخيرية لاتمتلك ملفات خاصة بتخصصات الأعضاء الذين أكثرهم* يحملون تخصصات إشعاع*.
الجمعية الخيرية حصلت على أرض مساحتها *٠٠٣ لبنة،* لبناء مركز أورام وأمراض دم للأطفال،* إلا أن ذلك لم* يتم بعد،* ومازال الأمر عبارة عن حبر على ورق*.
وكما سبق وذكرنا بأن الجمعية تشتري* الأدوية الغالية،* فإن عدداً* من الأطباء الذين* يقومون بصرف تلك الأدوية للمرضى،* لهم مميزات خاصة،* منها حضور المؤتمرات الخارجية على حساب شركات الأدوية التي* يتم صرف أدويتها،* فيما الذين* يقفون الى جانب المرضى المعوزين والفقراء،* يحرمون من تلك الامتيازات*.
تقرير من ألمانيا حصلت* »الوحدوي*« على نسخة منه،* يفيد بأن العلاج الهندي* المستخدم في* المركز،* والذي* اشترته وزارة الصحة،* في* مناقصة استحوذ عليها المسؤولون على المناقصات ومسؤول في* الجمعية*.. هذا العلاج* غير مطابق للمواصفات العالمية،* وبحاجة الى تخزين من نوع خاص،* حيث له مضاعفات كبيرة في* حال عدم تخزينه بعناية*.
إيجاز
هذه مآسٍ* يندى لها الجبين،* تدار فضائحها داخل مشافٍ* حكومية أنشئت من أجل تقديم خدمات مجانية للمواطنين*.
ولأن الخدمات المجانية لم* يعد لها وجود،* فإن الفساد والإهمال كذلك صارا حاضرين في* هذه المشافي* بقوة*. وكل ذلك على حساب أرواح أبناء هذا الوطن*. فهل هذه نعم ربنا الذي* يقول الرئيس أن نحدث بها،* أم هي* فساد نظام حكم عدوه الأساسي* المواطن والفقر؟*!
المفضلات