المصدر: جريدة الوطن السعودية -الخميس 12 جمادى الأولى 1427هـ الموافق 8 يونيو 2006م العدد (2078) السنة السادسة


للكاتب:حسن أبو طالب - كاتب مصري، رئيس تحرير التقرير الاستراتيجي العربي

يعد توقيع الوثائق النهائية لترسيم الحدود اليمنية السعودية، والذي جرت وقائعه في المكلا عاصمة حضرموت، جنوب اليمن مطلع الأسبوع الجاري، حدثا مهما في سياق العلاقات السعودية اليمنية من جانب وعلاقات اليمن مع مجلس التعاون الخليجي من جانب آخر. فالتوقيع ينهي واحدة من أعقد قضايا الحدود بين بلدين عربيين، استمرت 70 عاما، ولكن بالحوار ومبادئ التعاون والالتزامات المتبادلة أمكن إنهاؤها بما يرضي الطرفين ويفتح أمامهما آفاقا أرحب في المستقبل. وهو ما يمكن تبين ملامحه الأولية من خلال جملة الاتفاقات التنموية اقتصاديا واجتماعيا وتجاريا التي وقعت أيضا في اجتماعات مجلس التنسيق الأعلى بين البلدين، وتهدف إلى تعميق التعاون الثنائي جنبا إلى جنب والمساعدة في تأهيل اليمن اقتصاديا واجتماعيا كخطوة لازمة على طريق العضوية لمجلس التعاون الخليجي. وهو الأمر الذي بشر به الملك عبد الله في مناسبة سابقة، وأعاد التأكيد عليه ولي العهد الأمير سلطان بن عبد العزيز أثناء اجتماعات المكلا وصنعاء.
والحق أن قضية انضمام اليمن لمجلس التعاون الخليجي لم تأخذ حقها المناسب من الضوء الإعلامي الذي يناسب مضمونها السياسي والاستراتيجي معا. فهي من القضايا المنسية إعلاميا رغم أهميتها القصوى لكل أطراف الجزيرة العربية. والأهمية المقصودة هنا ترتبط أساسا بالدور الذي يمكن أن يلعبه مجلس التعاون على الصعيد الإقليمي في حال استكمال اليمن شروط العضوية، والمقدر لها أن تأخذ بعض الوقت، في حدود عقد أو أكثر قليلا سيدخل فيه اليمن ما يمكن وصفه بمرحلة وسيطة أو انتقالية يجري فيها مجموعة من التغييرات القانونية والإدارية والتعليمية والاقتصادية، والتي تصب جميعها في تقريب الوضع اليمني إلى أقرب نقطة ممكنة مع مجمل الأوضاع في بلدان مجلس التعاون.
مثل هذا التأهيل للوضع اليمني يشبه، مع خلاف في التفاصيل، ما يقوم به الاتحاد الأوروبي إزاء البلدان الراغبة في الحصول على العضوية، حيث يضع قائمة بالمتطلبات والشروط، ويقدم النصائح والتمويل ويراقب عملية التطبيق عن كثب، بما يسهل الوصول إلى قرار بقبول أو رفض طلب العضوية. وإذا كان الاتحاد الأوروبي قد توصل منذ أكثر من عقد ونصف العقد إلى أن توسيع العضوية هو شرط من شروط التطور والتحول إلى قوة كبرى في النظام الدولي، فإن مجلس التعاون كان قد توصل إلى نتيجة مشابهة في قمته الثانية والعشرين نهاية ديسمبر 2001، في مسقط ، حين استجاب إلى طلب اليمن المقدم منذ ما قبل أربعة أعوام سابقة بالانضمام إلى المجلس. ولكن الاستجابة كما هو معروف اقتصرت على السماح بعضوية اليمن في عدد من المجالس كمجلس وزراء الصحة ومجلس وزراء العمل والشؤون الاجتماعية ومكتب التربية لدول الخليج ودورة كأس الخليج لكرة القدم.
وبالرغم من محدودية هذه الاستجابة قياسا إلى طموح اليمن آنذاك، فقد اعتبرت ثغرة مهمة، قابلة للاتساع مع مرور الوقت. وبالفعل فإن التغيرات العاصفة التي مرت بها المنطقة في السنوات الأربع الماضية لعبت دورها في التمهيد إلى الإسراع بتسهيل عضوية اليمن للمجلس. حيث قام الأمين العام لمجلس التعاون ببحث اقتراح مع الرئيس اليمني علي عبد الله صالح في مارس 2005، لإقامة منطقة تجارية حرة بين الجانبين تنص على تحرير التبادل التجاري والاستثماري بينهما، على أن يلحق النجاح فيها بعد فترة اختبار قبول عضوية اليمن في الاتحاد الجمركي الخليجي.
وإدراكا من صنعاء بأن الأوضاع الاقتصادية اليمنية بحاجة إلى خطط عاجلة ومكثفة للتعجيل بتأهيل الاقتصاد اليمني، فقد طرحت بدورها برنامجين على دول المجلس، الأول خاص بتشجيع الاستثمار في اليمن من خلال توفير الحماية والقروض اللازمة، والثاني يتمثل في إنشاء صندوق للتنمية في اليمن يتولى اختيار المشاريع الاستراتيجية لاسيما في مجالات الطرق والكهرباء وتدريب القوى العاملة وبناء مؤسسات الدولة ودعم الإصلاح الإداري ومكافحة الفساد. وهما ما تم قبولهما من حيث المبدأ، حيث بدأ أعضاء المجلس في اتخاذ الخطوات المناسبة التي تصب، سواء بصورة جماعية أو ثنائية، في اتجاه إنعاش الاقتصاد اليمني وضبط الحركة الإدارية فيه وتوسيع مجالات التعاون بين القطاع الخاص في البلدين. وإذا نظرنا إلى قائمة المشروعات التي اتفق عليها اجتماع مجلس التنسيق السعودي اليمني مطلع هذا الأسبوع في المكلا، وجدناها بمثابة تطبيق ثنائي لدعم الاقتصاد اليمني وتوسيع دائرة تواصله العضوي مع أكبر الاقتصادات في المجلس، أي الاقتصاد السعودي.
إن مسألة عضوية اليمن في مجلس التعاون ليست قضية اقتصادية وحسب، بل لها تداعيات استراتيجية وأمنية مهمة تطال قضايا إقليمية ساخنة أقل ما توصف به بأنها تتصف بحالة من عدم اليقين والانفتاح على احتمالات عديدة. وفي مقدمة تلك القضايا مستقبل الأمن الإقليمي في ضوء ما يجري في العراق وينطوي على زيادة نفوذ دول الجوار الإقليمي بصورة غير مسبوقة من ناحية، واحتمالات تفكك أو لنقل تغيير الصيغة العراقية الإقليمية تغييرا يصعب التنبؤ به في اللحظة الجارية، إضافة إلى التطورات المحتملة على صعيد العلاقات الإيرانية الغربية الأمريكية بعد اتجاه التسوية السياسية الذي اعتمدته واشنطن أخيرا مصحوبا بمنح إيران المزيد من المزايا والمحفزات أمنيا وسياسيا واقتصاديا وتقنيا. ناهيك عما يمكن أن يحدث في المسار الفلسطيني الإسرائيلي من جانب، وفيما بين الفلسطينيين أنفسهم من جانب آخر.
ومثل هذه التطورات الإقليمية بكل ما فيها من تراجعات ظاهرة ومحتملة بقوة تستدعي بالفعل نوعا من تغيير المسارات على نحو منضبط، بحيث يحمي المصالح القائمة ويعظمها ويمنع عنها دروب التهلكة مستقبلا. ولقد كان مجلس التعاون، وما زال من الناحية النظامية تجمعا إقليميا منغلقا على أعضائه المؤسسين، إذ لا يوجد نص في النظام الأساسي يسمح بقبول أعضاء جدد أو على العكس يحول دون ذلك. والقرار يتوقف أولا وأخيرا على إرادة الأعضاء الجماعية، التي يمكنها أن تغير النص بما يسمح بقبول أعضاء جدد. والمتصور أن هذه الخطوة قد تحدث في مرحلة لاحقة وليس في الوقت الراهن. والأهم هنا بلورة إدراك بأن التطورات الإقليمية تفرض بالفعل استقطاب أعضاء جدد يقوى بهم المجلس، ويقوون هم به أيضا.
ومن الناحية النظرية البحتة، فهناك ثلاثة أشكال ممكنة لعملية التوسيع، إما أن يبقي المجلس على أعضائه الستة كاملي العضوية على أن ينشئ المجلس كمنظمة إقليمية علاقات خاصة مع عدد من الأطراف المجاورة في مجالات بعينها، اقتصادية أو أمنية أو ثقافية، وهي ما توصف بالتوسيع الوظيفي. وإما أن يفتح المجلس الباب أمام أعضاء كاملي العضوية، على أن توضع لذلك قائمة معايير واضحة لذلك تنطوي على مؤشرات اقتصادية واجتماعية وثقافية وسياسية وهكذا، كما هو الحال مع معايير كوبنهاجن الأوروبية.
أما الشكل الثالث فهو أن يبقى المجلس على حاله، ولكن ينظم تجمعا إقليميا أكثر رحابة يشمل أطراف شبه الجزيرة العربية ككل. ولعل هذا الشكل هو الأكثر تعقيدا، لأنه ينطوي على طبقتين من الالتزامات، أولها التزامات تابعة ونابعة من المجلس، وثانيها التزامات من الإطار التنظيمي الأكبر. ولعل هذا التعقيد الوظيفي يؤدي إلى التمسك بالصيغتين الأوليتين، واحدة منهما كمرحلة انتقالية وسيطة لمرحلة العضوية الكاملة لاحقا. والمؤكد هنا أن كل صيغة من الصيغ الإقليمية المطروحة سيكون لها مصفوفتها الأمنية المصاحبة لها. فمجرد النجاح في عدد من الخطوات الاقتصادية والتجارية والاجتماعية، سيفتح الباب أمام التفكير في إجراءات تعاون ذات طابع دفاعي وأمني وعسكري وهكذا. ذلك أن نظرية انتشار التأثير أفقيا ورأسيا المعروفة في عمل المنظمات الإقليمية، لا يمكن الوقوف أمامها، فالرغبة في التوسع وتعظيم الإنجاز تفرض الولوج إلى قطاعات أخرى ثم أخرى وهكذا. فالنجاح كما يقال يغري بالنجاح، أما الفشل فكفيل بالقضاء على كل الأمل.