ما أجمل أن يكون المثقف حراً طليقاً في توجهاته أو حتى متعرجاً في أفكاره وآرائه يدلي بها متى يشاء ويتخلى عنها أو يعدلها عندما يقتنع بعدم جدواها أو صحتها! ما أجمل أن يبني مواقفه على الحق والعدل والصدق والحس السليم وحرية الاختيار لا على الأيديولوجيا المتحجرة أو التقلبات المدفوعة الثمن والاعتبارات المحسوبة والانتماءات المفروضة وإرضاء جهات معينة! ما أجمل أن ينزع تلك الغمامة عن عينيه، ذلك البرقع الذي يلبسونه للأحصنة فوق عينيها كي تسير في خط أحادي ولا ترى أي شيء على جانبيها! ما أجمل أن يكون المثقف منصفاً مع كل التيارات، والاتجاهات، يمتدحها في سماتها الإيجابية، وينتقدها في جوانبها السلبية، دون أن يكون ملتزماً بخط محدد، أو حزب عقائدي، أو جماعة مؤدلجة، أو حركة متزمتة، أو جهة داعمة، تحتضنه ما داهنها ومالأها وتنبذه عندما يلعب بذيله، خاصة وأننا نعيش في عصر الطوفان المعلوماتي الجارف الذي يجعلنا في معظم الأحيان في حيرة من أمرنا تجاه الكثير من القضايا، فلا نستطيع أن نكوّن رأياً، أو نتخذ موقفاً ثابتا،ً وسط هذا الفيضان الإعلامي الرهيب، والرياح العولمية العاتية التي تتجاذبنا وتتقاذفنا وتدفع بنا ذات اليمين وذات الشمال. لقد قال أحد الفلاسفة الفرنسيين ذات يوم:"إن الجدران وحدها لا تغير آراءها". وقد قال المفكر المصري فؤاد زكريا: "إن الرصيف وحده لا يغير موقفه". وقد ذهب غيره أبعد من ذلك قائلاً: "الحمير وحدها لا تغير وجهة نظرها".

لكن في الآن ذاته ما أصعب أن يكون المرء ليبرالياً أو مستقلاً فعلاً فيصبح هدفاًً للمتمترسين وراء الـُدشم الأيديولوجية، والمتاريس المصلحية العفنة والمدعين والمدعيات. وهذا بحد ذاته يفضح خرافة الثقافة الحرة والمثقفين الأحرار التي يتبجح بها بعض المتفلسفين "المتلبرلين" والمتفلسفات "المتلبرلات" العربيات في أوروبا وأمريكا. فالمثقف الحر فعلاً عملة نادرة بكل المقاييس. ولا تغرّنك اللواتي أو أولئك الذين يتدثرون برداءات الليبرالية والديموقراطية والفكر الحر ويمطروننا بوابل أو فيض مدرار من مواعظهم الديموقراطية والتحررية والتنويرية النارية المزعومة من واشنطن ولندن وباريس وضواحيها وغيرها من العواصم الغربية.

لا الليبرالجيين، ولا الديموقراطجيين، ولا الإسلاماويين، ولا القومجيين ولا اليسارجيين يغفرون لك عندما تدوس على ذيلهم قليلاً، ويبدأون بكيل سيل من الشتائم والتهم بالجملة والمفرق ويطلقون عليك كل الأوصاف القميئة. ويقطعونك إرباً إرباً على مواقعهم الالكترونية وصحفهم العقائدية إذا لم يحولوك (كفتة) لحوماً مفرومة صالحة للاستهلاك (الالكتروني) الوحشي. كل ذلك لأنك تجرأت وشككت في مقولاتهم أو سخرت من بعض مواقفهم أو اختلفت معهم في الرأي ولم تداهنهم مائة بالمائة و انتقدت خذلانهم لقضايا أمتهم أو ألمحت إلى ممالأتهم واستزلامهم للغرب أو بعض الجهات على حساب قضايا أوطانهم. يا لليبرالية!

ولعل أكثر التيارات شراسة ووحشية واستئساداً واستذآبا وعدوانية ذلك المسمى التيار "التحرري الليبرالي التنويري" الذي لا هم له سوى التندر بالتخلف والتعصب العربي والإسلامي والتحجر العقائدي مع العلم أن معظم أتباعه لا يقلّون تخلفاً وتحجراً وعصبية وأصولية وتزمتاً عن عتاة المتخلفين والمتطرفين حسبما اكتشفنا - آسفين - مؤخراً بعدما كدنا نصدق فعلاً أنهم تنويريون حقيقيون يريدون حقاً تحرير هذا العالم العربي من ربقة التخلف الحضاري والفكر الحجري المتخلف الذي جعلنا أضحوكة العالم. لكن هيهات، فكم كنا مخطئين في نظرتنا إلى أولئك المدعين والمدعيات، فما لبثوا أن انقلبوا إلى زرقاويين في موقفهم من كل من اختلف معهم ولو قليلاً! وأستشهد هنا ببعض الكويتبيات والكتبة العرب المتمترسين بأمريكا والغرب عموماً الذين يشنون الهجوم الإرهابي تلو الآخر على الثقافتين العربية والإسلامية بشكل ممنهج ومنظم وعصبوي في بعض المواقع الالكترونية الممولة والمدعومة من أصوليين غربيين أخذوا على عاتقهم احتضان وتبني كل "مسقف" عربي مارق يجد في نفسه المقدرة على الشتم والبذاءة والنيل من أبناء جلدته.

ولو قرأت يوماً لأولئك الكويتبيات والكتبة العرب المتلبرلين الذين يتشدقون بالحرية والتنوير ويتباهون بـ"فولتيريتهم" المزعومة لظننت لأول وهلة أنهم لا بد أن يكونوا، بناء على كتاباتهم النقدية "للتعصب والجهل والتخلف الحضاري العربي والإسلامي"، قمة في التسامح واحترام الآخر وقبوله ونبذ التطرف والتشدد، لكن، كم سيُحبط ويُصدم هؤلاء لو عرفوا ذاتهم على حقيقتها، كما يقول المثل: "الجمل لو شاف حردبتو لسقط وانفكت رقبتو". لماذا تناسوا أن فولتير كان يقول:" أختلف معك في الرأي لكنني مستعد للتضحية بعنقي كي تبدي رأيك" لماذا يـُنهي أولئك الواعظون "الليبراليون الأصوليون" المنافقون عن خلق ويأتون بالعشرات مثله. فالويل كل الويل لو أنك تحررت من قيود الأيديولوجيا والعقائد والمصلحة الضيقة والانتماءات الجاهلية وحاولت أن تكون منصفاً جزئياً في أحد مقالاتك مع الجهة التي يختلف معها الأصوليون الليبراليون ويعادونها "عمـّال على بطـّال"، أي الإسلاميين، الذين لهم ما لهم وعليهم ما عليهم.. الكثير الكثير ككل التيارات الثقافية والسياسية الأخرى. والويل والثبور لك لو أنك تجرأت أن تدوس على ذيلهم قليلاً بالإشارة إلى ممالأتهم المفضوحة لأسيادهم في الغرب، فتثور عندئذ ثائرتهم ويستلون "فأراتهم" ليسلخكوك مقالات الكترونيةً من "كعب الدست" من حسن الحظ أنها تعرّيهم على حقيقتهم وتفضح ليبراليتهم المزعومة وتسيء إليهم قبل أن تسيء لغيرهم. ولا أدري ما الفائدة أن يُرضوا بكتاباتهم المسمومة والمكشوفة المستر فلان وعلان ويخسروا أهلهم وذويهم! ألم يسمعوا بالمثل الأمريكي الشهير: charity begins at home الأقربون أولى بالمعروف؟

كم هو سخيف ومفضوح وممجوج ومقزز ذلك الرهط من مدعي الثقافة والانفتاح والتحرر والتقدم! كم هو منافق إلى حد الضحك، فكم شعرت برغبة شديدة للقهقهة عندما أقرأ لأولئك الأصوليين المتدثرين بالجينزات والـ "تي شيرتات"، والبذات والفساتين الغربية الحديثة والمتسكعين والمتسكعات في العواصم الأجنبية والمشهرين سيوفهم الصدئة في وجه كل من قال إنه عربي أو مسلم! فأنت جدير بإطرائهم مادمت لم تدس على مخالبهم وبراثنهم ومادمت تشاركهم همروجة رجم العروبة والإسلام. لكن في اللحظة التي تتعرض لهم بنقد بسيط يكشرون عن أنيابهم "الليبرالية" (ما شاء الله واللهم لا حسد) إلى حد أنك تبدأ بالترحم على المتطرفين الإسلاميين والزرقاويين.

يا الله ما أشد نفاق الكثير من المثقفين العرب، فهم ما انفكوا ينتقدون المجتمعات العربية والإسلامية على تعصبها، بينما هم قادة التعصب الحقيقيون كما يؤكد المفكر السعودي الرائع عبد الله الغدامي. إنهم مازالوا يفكرون بعقلية داحس والغبراء. و"إذا كنا نعتبر المثقف المحرك الواعي للعبة التغيير في المجتمع، سنفهم عندئذ بعض أسباب تخلفنا أمام مثقفين يتنطحون لنقد كل ما لا يروق لهم ثم حين يُنتقدون تثور ثائرتهم. ولنعد هنا الى غاندي.. فهو حين قُتل وقبل أن يسلم الروح نظر الى قاتله وقال له: "إنني أغفر لك يا بني". إن هذه العبارة تمثل قيمة اجتماعية ضخمة، قيمة تعكس التسامح والمحبة والبناء. قيمة هي عبارة عن مشروع اجتماعي - اخلاقي مدهش" لم يستطع مثقفونا المتلبرلون بناءه لأنهم أساس البلاء. إن اكثر ما يعوق المجتمعات المتخلفة هو مفهوم الانتقام الذي يكرسه الكثير من المثقفين العرب. أما غاندي فإنه عندما يسامح يقتل مفهوم الثأر مجتثاً إياه من قلب الثقافة الهندية. أما نحن فإن أكثر من يروج للثأر لدينا هم "الليبراليون" المزعومون.

الليبرالية يا جماعة الخير تعني قبل كل شيء الانفتاح على الآخر وقبوله والتحاور معه بالحسنى لا استعداءه والتشهير به بطريقة "زقاقية" رخيصة ومنفرة حتى لو كان جاهلياً. وإلا كيف تختلف "التنويريات" المزعومات والتنويريون" المزعومون الذين يشنون علينا الغزوة الالكترونية تلو الأخرى من حواري واشنطن ونيويورك ولندن وباريس عن التكفيريين الذي أخذوا على عاتقهم تنويرهم وتحريرهم من "التخلف والتعصب والانحطاط؟" فعلاً: طبيب يداوي الناس وهو عليل!

بالطبع لايمكن أن نلوم مدعي الليبرالية ومعهّريها كثيراً إذا عرفنا المصدر الذي ينهلون منه ويعتاشون على أفكاره وتوجهاته. فقد صدّع الأمريكيون والأوروبيون رؤوسنا بالحديث عن فضائل الليبرالية والديموقراطية بما تستلزمه من فكر وإعلام حر. لكنهم يريدونها دائماً حرية باتجاه واحد كأن يرجموا الآخرين ليل نهار دون أن يسمحوا للغير بالتفوه بكلمة يتيمة ضدهم. فعندما ظهرت بعض وسائل الإعلام والإعلاميين العرب مثلاً وراحوا يفضحون علل وأمراض الدول العربية السياسية والاجتماعية والدينية والثقافية هلل الغرب لهم كثيراً واعتبرهم نقطة الضوء الوحيدة في عالم عربي مكفهر ومدلهم، فأغدق عليهم المديح والإطراء. لكن ما أن وجهوا سهامهم إلى أمريكا والغرب ليفضحوا سياساته وجرائمه بحق الإنسانية حتى انقلبت الأمور رأساً على عقب، لا بل أصبح أولئك الإعلاميون وتلك الوسائل الإعلامية التنويرية سابقاً في نظر الغرب بؤراً إرهابية جديرة بالسحق والمحق، لا لشيء إلا لأنهم حاولوا أن يكونوا لا منتمين إلا للحق والحقيقة فحلت عليهم اللعنات "الديمقراطية والليبرالية" من كل حدب وصوب.

لقد أصبح هذا السلوك المزدوج والمفضوح من قبل مدعي الليبرالية والتسامح وقبول الآخر مادة للتندر، والسخرية، والاستهزاء، من قبل قطاع واسع من الرأي العام، ويثيرون لديه فيضاً من مشاعر الامتعاض، والاستهجان، والاستنكار. إلا أنهم، وبكل أسف مازالوا سكارى وجذالى به، ويطربهم على أية حال. وإنها لدعوة خالصة، ومن القلب، (كي يتوبوا إلى الله)، ويثوبوا إلى رشدهم مع إدراكنا التام لما في الأمر من صعوبات جمة، وأن يقلعوا، ويكفوا نهائياً عن مثل هذا التلّون، والتمظهر والرياء، وهي نصيحة، لا أسديها أبداً، وصدقاً، إلا لمن أشعر أنه وصل لدرك بائس، يستحق عنده الصدقة، والشفقة، والرثاء.