Page 1 of 2 12 LastLast
Results 1 to 12 of 13

Thread: قصص الانبياء

  1. #1

    ملااااك الروح's Avatar
    Join Date
    Apr 2006
    Posts
    115
    Rep Power
    223

    قصص الانبياء

    السلام عليكم

    ان شاء الله بالموضوع هذا راح اسوي حلقات عن قصص الانبياء وان شاء الله تحوز على رضاكم

    =============================

    خلق حواء وزواج آدم منها :

    سمّى اللهُ سبحانه وتعالى مخلوقه الجديد، آدم، فهو الذي خلقه من أديم الأرض، ثم إنه عزّوجلّ، خلق حوّاء من الطين الذي تبقى بعد خلق آدم وإحيائه.

    ونظر آدم (ع) فرأى خلقاً يشبهه، غير أنها أنثى، فكلمها فردت عليه بلغته، فسألها: "من تكون؟" فقالت: "خلق خلقني الله".

    وعلَّم اللهُ آدمَ الأسماء كلها، وزرع في نفسه العواطف والميول، فاستأنس بالنظر إلى حوّاء والتحدث إليها، وأدناها منه، ثم إنّهُ سألَ الله تعالى قائلاً: "ياربّ من هذا الخلقُ الحسن، الذي قد آنسني قربه والنظر إليه؟!" وجاءه الجواب: "أن ياآدم، هذه حوّاء.. أفتحبُّ أن تكون معك، تؤنسك وتحادثك وتأتمر لأمرك؟" فقال آدم (ع): "نعم ياربّ، ولك الحمدُ والشكرُ مادمتُ حيا." فقال عزّوجلّ: "إنّها أمتي فاخطبها إليّ". قال آدم (ع): "يارب، فإني أخطبها إليك، فما رضاك لذلك؟" وجاءه الجواب: "رضاي أن تعلمها معالم ديني.." فقال آدم(ع): "لك ذلك يارب، إن شئت". فقال سبحانه: "قد شئت ذلك، وأنا مزوجها منك".

    فقبل آدم بذلك ورضي به.

    تكريم الله لآدم ورفض إبليس السجود له :

    أراد الله عزوجل، أن يعبد من طريق مخلوقه الجديد، فأمر الملائكة بالسجود إكراماً له، بمجرد أن خلقه وسواه ونفخ فيه من روحه، فخرت الملائكة سُجّداً وجثيّا.

    وكان إبليس، وهو من الجن، كان في عداد الملائكة حينما أمرهم الله بالسجود إكراماً لآدم(ع). وكان مخلوقاً من النار، شديد الطاعة لربّه، كثير العبادة له، حتى استحق من الله أن يقربه إليه، ويضعه في صف الملائكة... ولكن إبليس عصى هذه المرّة الأمر الإلهي، بالسجود لأدم(ع)، وشمخ بأنفه، وتعزز بأصله، وراح يتكبر ويتجبر، وطغى وبغى، وظل يلتمس الأعذار إلى الله سبحانه، حتى يعفيه من السجود لآدم(ع).

    وما فتئ يتذرّعُ بطاعته لله وعبادته له، تلك العبادة التي لم يعبد الله مثلها ملكٌ مقرَّب، ولانبيٌّ مرسل... وأخذ يحتجُّ بأنّ الله خلقه من نار، وأن آدم مخلوق من تراب، والنار خير من التراب وأشرف: {قال: أنا خيرٌ منه، خلقتني من نارٍ وخلقته من طين}. {أأسجد لمن خلقت طينا}!.

    ولما كان الله سبحانه وتعالى، يريد أن يُعبَدَ كما يُريد هو، ومن حي يريد، لاكما يريد إبليس اللعين هذا، صب عليه سوط عذاب، وطرده من الجنة، وحرّمها عليه، ومنعه من اختراق الحجب، التي كان يخترقها مع الملائكة (ع).

    ولما رأى إبليس غضب الخالق عليه، طلب أن يجزيه الله أجر عبادته له آلاف السنين، وكان طلبُه أن يمهله الله سبحانه في الدنيا إلى يوم القيامه، وهو ينوي الإنتقام من هذا المخلوق الترابي، الذي حُرِمَ بسببه الجنة، وأصابته لعنة الله. كما طلب أيضاً، أن تكون له سلطة على آدم وذريّته، وظلّ يكابر ويعاند، ويدّعي أنّهُ أقوى من آدم، وخير منه: {قال: أرأيتك هذا الذي كرّمت عليّ، لئِنْ أخّرتنِ إلى يوم القيامة، لأحتنكنَّ ذريته إلاّ قليلاً}.

    آدم (ع) يستعين بالله :

    أعطى الله سبحانه وتعالى، أعطى إبليس اللعين ماطلبه وأحبه من نعيم الدنيا، والسلطة على بني آدم الذين يطاوعونه، حتى يوم القيامة، وجعل مجراه في دمائهم، ومقرّه في صدورهم، إلا الصالحين منهم، فلم يجعل له عليهم سلطانا: {قال: إذهب فمن تبعك منهم فإنّ جهنم جزاؤكم جزاءً موفورا... إنّ عبادي ليس لك عليهم سلطان وكفى بربك وكيلا}.

    وعرف آدم ذلك، فلجأ إلى ربّه مستعصما، وقال: "يا ربّ! جعلت لإبليس سلطة عليّ وعلى ذرّيتي من بعدي، وليس لقضائك رادٌّ إلاّ أنت، وأعطيته ما أعطيته، فما لي ولولدي مقابل ذلك؟" فقال سبحانه وتعالى: "لك ولولدك: السيئة بواحدة، والحسنة بعشرة أمثالها" فقال آدم (ع): "متذرعاً خاشعا: يارب زدني، يارب زدني". فقال عزّوجلّ: "أغفِرُ ولاأُبالي" فقال آدم (ع) "حسبي يارب، حسبي".

    نسيان آدم وحواء وخطيئتهما :

    أسكن الله سبحانه آدم وحواء الجنة، بعد تزويجهما: {وإذ قلنا ياآدم أسكن أنت وزوجك الجنة} وأرغد فيها عيشهما، وآمنهما، وحذّرهما إبليس وعداوته وكيده، ونهاهما عن أن يأكلا من شجرة كانت في الجنة، تحمل أنواعاً من البر والعنب والتين والعناب، وغيرها من الفواكه مما لدّ وطاب: {وكلا منها رغداً حيث شئتما ولاتقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين}.

    وجاءهما الشيطان بالمكر والخديعة، وحلف لهما بالله أنه لهما لمن الناصحين، وقال: إني لأجلك ياآدم، والله لحزين مهموم... فقد أنست بقربك مني... وإذا بقيت على هذا الحال، فستخرج مما أنت فيه إلى ما أكرهه لك.

    نسي آدم(ع) تحذير الله تعالى له، من إبليس وعداوته، وغرّه تظاهر إبليس بالعطف عليه والحزن لأجله، كما زعم له، فقال لإبليس: "وما الحيلة التي حتى لاأخرج مما أنا فيه من النعيم؟" فقال اللعين: "إنّ الحيلة معك:" {أفلا أدلك على شجرة الخلد ومُلكٍ لايبلى}؟ وأشار الى الشجرة التي نهى الله آدم وحوّاء عن الأكل منها، وتابع قائلاً لهما: {مانهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلاّ أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين}.

    وازدادت ثقة آدم(ع) بإبليس اللعين، وكاد يطمئن إليه وهو العدوّ المبين، ثم إنّه استذكر فقال له: "أحقاً ماتقول": فحلف إبليس بالله يميناً كاذباً، أنّهُ لآدم من الناصحين، وعليه من المشفقين، ثم قال له: "تأكل من تلك الشجرة أنت وزوجك فتصيرا معي في الجنة إلى الأبد".

    لم يظنّ آدمُ(ع)، أنّ مخلوقاً لله تعالى يحلف بالله كاذباً، فصدقه، وراح يأكل هو وحوّاء من الشجرة، فكان ذلك خلاف ما أمرهما به الله سبحانه وتعالى.

    الخروج من الجنة :

    ماكاد آدم وحوّاءُ، يأكلا من الشجرة التي نهاهما الله عن الأكل منها، حتى نادى منادٍ من لدن العرش الإلهي، أن: "ياآدم، اخرج من جواري، فإنه لايُجاوِرُني مَن عصانيْ".

    وبكى آدم(ع) لما سمع الأمر الإلهيّ له بالخروج من الجنة... وبكت الملائكة لهذا المخلوق الذي سجدت له تكريماً. فبعث الله عزّ وجلّ جبرائيل(ع)، فأهبط آدم إلى الأرض، وتركه على جبل سرنديب في بلاد الهند، وعاد فأنزل حوّاء إلى جُدَّة..

    ثم أنّ الله سبحانه وتعالى، أمر آدم أن يتوجّه من الهند إلى مكة المكرّمة، فتوجّه آدم إليها حتى وصل إلى الصفا... ونزلت حواء بأمر الله إلى المروة، حتى التقيا من جديد في عرفة. وهناك دعا آدم ربّه مستغفراً: اللهم بحق محمد وآله والأطهار، أقلني عثرتي، واغفر لي زلتي، وأعدني إلى الدار التي أخرجتني منها.


    الرحمة والغفران :

    {وتلقى آدم من ربّه كلماتٍ فتاب عليه}.

    وأوحى الله عزوجلّ إلى جبرائيل(ع): إني قد رحمت آدم وحوّاء، فاهبط عليهما بخيمةٍ من خيم الجنة، واضربها لهما مكان البيت وقواعده، التي رفعتها الملائكة من قبل، وأنرها لهما بالحجر الأسود. فهبط جبرائيل(ع) بالخيمة ونصبها، فكان المسجد الحرام منتهى أوتادها، وجاء بآدم وحواء إليها.

    ثم إنّه سبحانه أمر جبرائيل بأن يُنَحّيهما منها، وأن يبني لهما مكانها بيتاً بالأحجار، يرفع قواعده، ويتم بناءه للملائكة والخلق من آدم وولده، فعمد جبرائيل إلى رفع قواعد البيت كما أمره الله.

    وأقال الله آدم عثرته، وغفر زلته، ووعده بأن يعيده إلى الجنة التي أُخرج منها. وأوحى سبحانه إليه، أن: "ياآدم، إني إجمع لك الخير كله في أربع كلمات: واحدة منهن لي، أن تعبدني، ولاتشرك بي شيئاً، وواحدة منهن لك: أجازيك بعملك، أحوجَ ماتكون، وكلمة بيني وبينك: عليك الدعاء ومني الإجابة، وواحدة بينك وبين الناس من ذريتك، ترضى لهم ماترضى لنفسك.

    وهكذا، أنزل الله على آدم(ع) دلائل الألوهية والوحدانية، كما علمه الفرائض والأحكام والشرايع، والسنن والحدود.

    قابيل يقتل هابيل :

    كان قابيل أول أولاد آدم(ع). فلما أدرك سنّ الزّواج، أظهر الله سبحانه جنية يقال لها جهانة، في صورة إنسية، فلما رآها قابيل أحبها، فأوحى الله تعالى إلى آدم(ع) أن يزوجها من قابيل ففعل.

    ثم لما ولد هابيل، الإبن الثاني لآدم (ع). وبلغ مبلغ الرجال، أهبط الله تعالى إحدى حوريّات الجنة، فرآها هابيل وأحبها، فأوحى الله لآدم (ع) أن يزوجه بها.

    ثم إن الله سبحانه وتعالى، أمر نبيه آدم (ع)، أن يضع مواريث النبوة والعلم عند ولده هابيل، ويعرفه بذلك... ولما علم قابيل بذلك، غضب واعترض أباه قائلاً: "أنا أكبر من هابيل، وأنا أحق بهذا الأمر منه".

    وتحيّر آدم(ع)، فأوحى الله إليه أن يقول لابنه قابيل: "يابني، إنّ الأمر لم يكن بيدي، وإنّ الله هو الذي أمرني بذلك، ولم أكن لأعصي أمر ربي ثانية، فأبوء بغضبه، فإذا كنت لاتصدقني، فليقرب كل واحدٍ منكما قرباناً إلى الله، وأيُّكما يتقبَّل الله قربانه، يكن هو الأولى، والأحق بالفضل ومواريث النبوة.

    قدّم قابيل قرباناً من أيسر ملكه، وقدّم هابيل قربانه من أحسن ماعنده... فتقبل الله سبحانه قربان هابيل، بأن أرسل ناراً تركت قربان قابيل كما هو، ممّا أثار حفيظة قابيل، وأجّج نار الحقد في صدره.

    ووسوس له الشيطان بأن: اقتل أخاك فينقطع نسله، وتُريحُ أولادك من بعدم إن كان لك ولد، ثم لايجد أبوك من يعطيه المواريث سواك، فتفوز بها، وذريتك من بعدك..

    وسوّلت له نفسه قتل أخيه هابيل، فقتله... وكانت أوّل جريمة على وجه الأرض، نفّرَت الوحوش والسّباع والطيور، خوفاً وفرقا.

    ولم يدر قابيل كيف يخفي جريمته... وماذا يصنع بجسد أخيه الملقى على الأرض بلا حراك؟... ويبعث الله تعالى غرابين يقتتلان في الجو، حتى يقتل أحدهما الآخر، ثم يهوي وراءه إلى الأرض، فيحفر، بمخالبه حفرة، يدفن فيها صاحبه، وقابيل ينظر ويرى.

    أدرك قابيل عجزه وضعفه وقال: "ياويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغُراب فأواري سوأة أخي} وأدفنُ جُثّتهُ، كما دفن هذا الطائر الصغير الحقيرُ صاحِبُه المقتول؟! {فأصبح من النّادمين}.

    ذرية آدم(ع) :

    ولد لآدم وحواء سبعون بطنا، على مايُروى، وكان أوّل أولادهما قابيل ثم هابيل اللذين لم ينجبا على مايبدو...

    ولكن الله جلّ وعلا وهب لآدم وحوّاء إبنهما شيثا (هبة الله) ومن بعده ولد لهما يافث.. فلما أدركا وبلغا مبلغ الرجال، وأراد الله أن يبلغ بالنسل مانرى... وأن يكون ماقد جرى به القلم، من تحريم ماحرّم الله تعالى، من زواج الإخوة وبالأخوات أنزل سبحانه من الجنة حوريتين، هما نزلة ومنزلة، وأمر آدم أ، يزوجهما من شيث ويافث، فكان ذلك... وولد لشيث غلامٌ، وولدت ليافث جارية، فأمر الله تعالى أن يزوج آدم (ع) إبنة يافث من ابن شيث.

    ولم يحرم الله آدم وحوّاء من الإناث، فقد رزقهما الله ابنة أسمياها عناق، تزوجت وولدت ولداً اسمه عوج، وصار فيما بعد جباراً شقياً، عدواً لله ولأوليائه، فسلط الله عليه وعلى أمه عناق من قتلهما.
    وفاة آدم وحوّاء :


    انقضت أيام آدم(ع)، فأمره الله أن يوصي إلى ولده شيث، ويدفع إليه مواريث النبوة والعلم والآثار، وأمره بأن يكتم هذا الأمر عن قابيل، حتى لاتتكّرر الجريمة المأساة، ويقتله كما قتل أخاه هابيل من قبل.

    وتوفي آدم(ع) ولهُ من الذريّة من ولده وأولاد ولده العدد الكثير، بعد أن عمّر تسعمائة وستين سنة، ودفن في جبل أبي قبيس، ووجهه إلى الكعبة المشرَّفة على ماذكر في كتب السير. ولم تعمرّ حواء بعد آدم إلاّ قليلاً، عاماً واحداً مرضت بعده وماتت، ودفنت إلى جانب آدم(ع).

    وفي أيام النبي نوحٍ(ع)، وعندما حصل الطوفان، أوحى الله سبحانه إلى نوحٍ أن يحمل معه في السفينة جثمان أبيه آدم (ع) إلى الكوفة، فحمله إلى ظهر الكوفة، وهو النجف الأشرف، حيث دفنه هناك في المكان المعروف بمرقد نوحٍ(ع)..



    فسلام على آدم وحوّاء

    اختكم ملااااك

  2. #2

    أمـ من الشرق ـيرة's Avatar
    Join Date
    Dec 2004
    Posts
    3,108
    Rep Power
    395
    غاليتي الرائعة :

    اشكرك جزيل الشكر على المجهود الذي تبذلينه

    وجزاك الله خيرا و بارك فيك


    و ننتظر البقية .......

    احترامي
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
    يا قارئ خطي لا تبكي على موتي..
    فاليوم أنا معك وغداً في التراب..
    فإن عشت فإني معك وإن مت فاللذكرى..!
    ويا ماراً على قبري لا تعجب من أمري..
    بالأمس كنت معك وغداً أنت معي..
    أمـــوت و يـبـقـى
    كـل مـا كـتـبـتـــه ذكــرى
    فيـا ليت
    كـل من قـرأ خطـي دعا لي
    *************
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

  3. #3

    ملااااك الروح's Avatar
    Join Date
    Apr 2006
    Posts
    115
    Rep Power
    223
    sumy
    اشكرك على مرورك الرائع



    دمتم بخير
    اختكم
    ملااااك

  4. #4

    الرياشي's Avatar
    Join Date
    Dec 2005
    Location
    قطــــر
    Posts
    11,545
    Rep Power
    651
    جزاك الله كل خير اختي ملااااااااااااااااااااااااك واذا لديك الرغبه في ان نشاركك
    في سرد قصص الانبياء فالامر عاد اليك .
    اذا نطق السفيه فلا تجبه
    فـخيرمن إجابته السكوت

    رحلوا من توقيعي وربما يرحلوا عن وطني

  5. #5

    ملااااك الروح's Avatar
    Join Date
    Apr 2006
    Posts
    115
    Rep Power
    223
    Quote Originally Posted by الرياشي
    جزاك الله كل خير اختي ملااااااااااااااااااااااااك واذا لديك الرغبه في ان نشاركك
    في سرد قصص الانبياء فالامر عاد اليك .
    اشكرك جزيل الشكر على مرورك وماعندي مانع لو في اي اضافات ممكن تضيفوها

    تقبل تحياتي


    اختكم
    ملااااك

  6. #6

    ملااااك الروح's Avatar
    Join Date
    Apr 2006
    Posts
    115
    Rep Power
    223
    النبي موسى عليه السلام

    ولادة موسى "ع" وتربيته :

    " يوكابد " في احدى زوايا منزلها تعاني المخاض وتستدعي قابلة ، وسرعان ما تضع غلاماً ، يلتمع جبينه بنور ساحر اخاذ فتسميه " موسى " …وتخاف عليه عيون فرعون وجواسيسه ، وقد بثهم فرعون في كل مكان يترصدون كل صغيرة وكبيرة في بني اسرائيل ...وتتامل " يوكابد " وجه الغلام ، وكانه قطعة من نور ، وتتمتم بحزن غامر : اليس حراماً ان تنتهي الى القتل ، يا هذا الوجه الكريم ؟

    وبقيت ام موسى الى جانب وليدها لا تفارقه ، ملتزمة بيتها لاتغادره، فهي بطفلها مشغولة . وظلت كذلك ثلاثة شهور ، ترعاه بحذر ، وتحفظه من كل سوء …ولكن اعين رقباء فرعون ، وجواسيسه مفتوحة على كل حدث جديد ، مهما صغر شانه…وتشعر ام موسى بالخطر يزحف على وليدها الوسيم الطلعة ، فترتاع لذلك وتضطرب . وترفع وجهها الى السماء متضرعة : ربي ورب اسرائيل وابراهيم ، واسحاق ، ويعقوب ، ويوسف ، اليك اتوجه بهذا الغلام وعليك اتكل في حفظه فكن له حفيظاً ، يا ارحم الرحمين !..

    ويلقي في روعها شئ كالالهام :{ ان ارضعيه ، فاذا خفت عليه فالقيه في اليم ، ولا تخافي ولا تحزني …} وتلتفت الى ناحية في منزلها ، فاذا بصندوق .. وبيدين مرتعشتين تحمل وليدها ، فتضعه فيه ، وتخرج به ، ترافقها ابنتها ، على حذر وخشية من ال فرعون ورجاله متجهة الى شاطئ النيل ، وما هو عنها ببعيد ، ويصلون ، وقد صرف الله عنهم عين كل رقيب يترصد !..

    وبرفق وحذر .. تضع الام الصندوق ، وفيه موسى على صفحة مياه النيل الهادئ الرقراق ، وتطفر من عينها دمعة حرى ، ومن صدرها اهة حزن وشجن ، وتكاد الابنة ان تصرخ خوف على اخيها الصغير ، فتمنعها الام ، فتشهق بهلع مكتوم . وتشيع الام وابنتها الصندوق بنظراتهما الولهى ، وقد حملته مياه النهر ، متنقلاً من موجة رقيقة الى ثانية والى ثالثة ، متهادياً بين طياتها ، وكانه على راحات ايد حانيات !… ويقترب الصندوق من بعض البساتين المحيطة بقصر فرعون ، حيث كانت اسية زوجة فرعون ، تتنزه ، وبعض جواريها . ويلاحظن النهر يحمل على صفحته الهادئة صندوقاً ، وتامر سيدة القصر من ياتيها بالصندوق ، وعندما فتحته ، فوجئت بما فيه فشهقت دهشة . وتتناول السيدة الغلام بين يديها فخيل اليها انها تحمل فلقة قمر !.. والقي في قلبها حبه وكأنه ابنها حقاً . يجري ذلك بمرأى من ام موسى وابنتها ، اللتين كانتا تراقبان ما يحدث من مكان بعيد !… وتحمل اسية الطفل في حضنها ، وتشده الى صدرها بحنان غامر ..

    وعندما بدا لها زوجها بعد آن قصير ، توجهت اليه باستعطاف رقيق ، قائلة له : اظن بان هذا الغلام الجميل احد ابناء بني اسرائيل ، ارجوا ان تكرمني بالابقاء عليه ،{ عسى ان ينفعنا ، او نتخذه ولدا }…وكيف تطلبين مني الابقاء على حياة من امرت بقتله ؟

    انه غلام صغير جميل ، ولم يتمكن من الحاق اذى بك ، خاصة ، اذا اقمنا على تربيته عندنا في القصر بعيداً عن العامة والدهماء ( اوباش الناس ) ، فيشب بيننا وكأنه احد ال فرعون طبعاً وتطبعاً …وينظر فرعون الى وجه الغلام الطفح بالنور ، فيبتسم ، ويومئ براسه موافقا فليست اسية ممن يرد لهن طلبا … وتسلم امرأة فرعون الغلام الى المراضع ، فيابى الرضاعة ، وقد حرم الله عليه ذلك !.. ويعلوا صوته بالبكاء فتحتار اسية ، ما العمل ؟… واصبح الجميع حائرين في امر هذا الغلام ، الذي لا ينقطع عن الصراخ …وتحين من اسية نظرة من احدى نوافذ القصر ، فتقع عينها على فتاة غريبة متجهة نحو القصر ، وهي تتعثر باطراف ثوبها ، فماذا تريد ؟…وتنزل السيدة الى حديقة القصر ، حيث فرعون ، والجواري ، والغلام الذي عكر هدوء القصر بصراخه المتواصل ، … وتصل الفتاة فتحيي سيدة القصر ومن حولها ، وتنظر ، من طرف خفي ، الى اخيها ، وقد علا صراخه ، والى السيدة وقد احتارت في امر هذا الغلام البكاء ، وتقول لها ، بتودد ورقة : سيدتي ، {هل ادلكم على اهل بيت يكفلونه وهم له ناصحون ؟ .. } وتسرع اسية في جوابها دون ابطاء : أجل ، ايتها الفتاة ، هل لديكم من يرضع هذا الغلام ويكفله ؟ وتجيب الفتاة بفرح : اجل سيدتي ، أجل ! .. هنالك امرأة بوسعها ان تقوم بهذا العمل خير قيام !.. وتنطلق الفتاة الى امها ، فتأتي بها الى القصر ، وما ان ترى ( يوكابد ) الغلام بين يدي فرعون الذي كان يهدهده ، حتى خفق صدرها ، .. وبلهفة تتناول الطفل منه ، وتضمه الى صدرها ، وتنتحي به جانباً ، وتلقمه ثديها فيلتقمه بفرط نهمة ، وعندما انتهى من الرضاعة ، علت ثغره الطيف ابتسامة ، ونشوة فرح وأخذ يناغي امه ، وقد طفحت على وجهها السعادة ، كالكنار تغريداً ... ويعجب فرعون من ذلك ، وتعتري الدهشة وجه آسية وجواريها . فالجميع واجم مأخوذ بما يرى ويتساءلون من تكون هذه المرأة التي ارتاح اليها الغلام ، وسكن سكوناً مطمئناً ؟... فتجيب : انني امرأة طيبة الريح ، طيبة اللبن ، يرتاح الي كل رضيع !... فيسلمها فرعون الغلام ترضعه وترعاه ، وتأتي به الى القصر كل يوم ، ان استطاعت ، ويجري لها رزقاً وعطاءً . ويرد الله الى ( يوكابد ) ابنها لتنشرح به صدراً ، وتقر به عيناً ، وتطيب به نفساً ! فتعود به ، وبالمال الوفير !...

    وهكذا يشب الغلام بين يدي امه ، وفي قصر فرعون ، حيث الحياة اسطورة ، لا كبقية الاساطير . وينشأ في كنف فرعون ، ويبلغ مبلغ الرجال ، وقد آتاه الله ما لم يؤت مثله احداً من الرجال : صلابة جسم ، وسداد فهم ، وغزارة علم …فمن كموسى فتى ، من الفتيان اودع الله فيه فتوةً وحكمةً ، على ايمان و تقىً ، { فتبارك الله احسن الخالقين!..} .
    موسى والمجتمع المصري :

    وكان لموسى ان يتعرف على طبقات المجتمع المصري ، وهي يومئذ : طبقة فرعون وحاشيته ، تليها طبقة الكهنة والاشراف ، فطبقة المقدمين من مدنيين وعسكريين ، ثم طبقة عامة الشعب : عمالاً وفلاحين ، وفي النهاية طبقة العبيد و الارقاء ، وهي ادنى الطبقات درجة . وكان قلبه يعتصره الالم لما تلاقيه هذه الطبقة الكادحة من عمال مصر ، وفلاحيها من مذلة وهوان ، وكان لا يغمض له جفن وهو يفكر بهذه الطبقة الدنيا من المجتمع المصري ، وطبقة العبيد والارقاء ، والتي كانت تحيا كما الحيوان ، و تعامل كما يعامل ، ويقول في نفسه : أو ليس هؤلاء بشراً ، فلم كل هذا الاذلال والتعسف والاحتقار ، يحيط بهم ، فيطحنهم طحناً ؟ .. وفرعون هذا المدعي الالوهية كفراناً ، وطغياناً ، وبهتاناً ، اليس انساناً عادياً ، يولد ويعيش ويموت ، كما الناس ، كل الناس ، يولدون ، ويعيشون ويموتون؟ … ويتأمل موسى واقع مصر ، فهو فاسد برمته ، ولن يتم اصلاحه الا باقتلاع كل هذه المفاسد والاوهام التي علقت بأذهان الناس ، فتاصلت في نفوسهم ، فأحلوها محل التقديس ، اما وقد بلغ رشده فلن يكون الا للمظلومين نصيراً !..
    موسى والرجلان يقتتلان :

    وبينما كان موسى متوجهاً الى عاصمة الفراعنة ، لبعض شؤونه ، { وجد رجلين يقتتلان ، هذا من شيعته ، وهذا من عدوه ، فاستغاذه الذي من شيعته على الذي من عدوه } فتصدى موسى له ، وضربه ضربة قضت عليه ، وما كان موسى ، يشهد الله ، يريد قتله ، ولكن ، هكذا جرت مشيئة الله ، فندم على ما جنته يداه ، واستغفر الله ، فغفر الله له ذلك ، وعاهد موسى الله على الا يكون ، بعد للظالمين ظهيرا !..

    واصبح موسى بالمدينة خائفا ، يترقب ، خشية افتضاح امره ، بانكشاف فعلته ، واذا هو في اليوم الثاني امام المشهد نفسه ، يتكرر مرة ثانية ، كما في الامس : فهذا اليعقوبي ، الذي من شيعته ، في عراك جديد ممع رجل فرعوني ، عدو لهما ، ويشاهد اليعقوبي موسى من بعيد ، فيناديه مستنصراً اياه ، .. وينطلق موسى ، بعفوية صادقة لينصر اليعقوبي ، فهو نصير المظلومين ، وظن هذا الاخير انه يريد قتله ، كما قتل خصمه بالامس ، فتضرع اليه مسترحما ، يا موسى { اتريد ان تقتلني كما قتلت نفس بالامس ؟..}

    ويسمع خصمهما هذا القول ، فيسرع الى قومه الحائرين في امر قتيل الامس ، وقاتله ، .. فاخبرهم انها فعلة موسى ، فتعجبوا ، متى كان يقوم موسى بمثل هذه الفعلة الشنعاء ؟ واجمعوا على النيل من موسى ، وقد قتل منهم ، ظلما ، رجلاً ! .

    ويتصل بموسى واحداً من جماعته المؤمنين ، فيحذره قائلاً : {.. ان الملأ ياتمرون بك لقتلوك ، فاخرج اني لك من الناصحين } فيتوارى موسى عن الانظار !.ويطلب فرعون موسى ، فلا يعثر له على اثر .

    ويتساءل في قرارة نفسه : اتراه يكون نبي بني إسرائيل الموعود ؟ فيعض على اصابعه ندما ! ..

    ويتسلل موسى من ارض مصر ، خائفاً يترقب ، وقد اتخذ الليل له جملاً (أي : متستراً بظلمة الليل في مسيره ) متجهاً نحو بلاد قدامي الاجداد ، وقد اسلم وجهه لله ، فعلى الله قصد السبيل ، وهو الاخذ بيد الحياري المساكين في مدلهملت النوازل والخطوب ( أي : عند اشتداد المصائب ) .

    وتقوده قدماه شمالاً ، في متاهات صحراء سيناء ، فيجتازها ، وهو الجلد ، الصبور ، … مبتعداً ، وما امكن ، عن المدن ، وعن الناس ، فالبراري مأواه !..

    وتمضي على ذلك ثمانية ايام ، لامعين له ، ولا نصير ، ولادليل ، سوى رحمة الله ، ونوره وهداه ، وكان يقطع الفيافي حافياً ،بعد ان تقطعت نعلاه ، فشققت قدماه ، يقتاب بعشب الارض وبقلها ، حتى كان يبدو صفاق بطنه ( عضلة الحجاب الحاجز ) لشدة ضعفه ، وضموره ، وهزاله ، وكان طيف فرعون ورجاله يلاحقه ، فيجد السير ، ويحث الخطى ، حتى وصل اخـيراً الى الارض " مدين " في الجه الشمالية الغربية من ارض كنعان ، فيتنفس الصعداء ! ..

    لقد اصبح بمامن من فرعون ، ومنجاة من كيده ، وضلاله ، وجبروته .

    اتصال موسى بشعيب :

    ويشاهد موسى من بعيد ازدحام ناس وقطعان اغنام ، فيقصد هذا الجمع ؛ واذا به امام رعاة انهمكوا بسقيا قطعانهم ، وقد علا ضجيجهم ولغطهم ، وكان الاشداء منهم يتقدمون لسقاية اول الناس ثم بعد ذلك ، ينصرفون .

    وتلفت نظر فتاتان تذودان غنمهما ، كي لا يختلط بغيره من اغنام القوم ، وقد وقفتا بذلة ومسكنة ، تنتظران صدور الرعاء ( انصراف الرعيان ومواشيهم بعد السقاية ) وتتحرك فيه طبيعة نصره المظلوم ، المقهور ، فيتقدم منهما مستفسراً : ما شانكما ؟ . فقالتا :{.. لانسقي حتى يصدر الرعاء ، وابونا شيخ كبير .. }

    وتثور نفسه لمساعدتهما ، فتقدم من البئر ليسقي لهما ، متخطياً اليه الرجال ، حتى وصل الى فوهته ، فوجد صخرة تحول دون تدفق الماء غزيراً ، فاقتلعها زندين قويين ، وكانهما اصول سنديانة عتيقة فانبهر الجميع لقوة هذا الغريب واندفاعه ، رغم ما يبدو عليه منمظاهر الاعياء ، وعلائم الهزال ؛ فتركوه ، والبئر ، وشانه ، فسقى للفتاتين {.. ثم تولى الى الظل ، وقال : رب اني لما انزلت الي من خير فقير }

    فالجوع ، الى جانب ما كابد من اعياء ، يكادان يهدان عزيمته هدا ؟ وما هي الا ساعة ، .. واذا باحدى الفتاتين تتجه مقبلة نحوه استحياء وخفر ، وتقول له : { .. ان ابي يدعوك ليجزيك اجر ما سقيت لنا .. }

    فيقبل الدعوة موسى ؟ .. ويتبع الفتاة الى دار ابيها . وفي الطريق يطلب موسى من الفتاة ان يتقدمها وتسير هي خلفه ، فهكذا تقضي العفة ، وواجب الوفاة ! .

    وعندما وصل موسى الى البيت نزل على ترحاب واطمئنان ، بعد ان استقبله الشيخ بالحفاوة والاكرام . وبعد ان اخذ حظهمن الراحة ، وتناول نصيبه من الطعام ، قص على مضيفه قصته ، فتعجب الشيخ ايما تعجب ، وربت على كتف الفتى قائلاً له بصوت يشيع فيه الوقار ، وهو يهز رأسه : { لا تخف . نجوت من القوم الظالمين }

    ويسأل موسى الشيخ الجليل عن اسمه ، فيقول له الشيخ وهو يعبث بلحيته الكثة : " انني شعيب ! .. ارسلني الله تعالى الى اهل هذه القرية المجاورة واسمها " الايكة " ولكنهم قوم يجهلون ، وسفهاء لا يعقلون ، يطفطفون ( أي : ينقصون ) الكيل والميزان ، ويبخسون الناس اشيائهم ! … "

    ويصمد الشيخ قليلاً وقد سرح نظره بالافق المتـرامي البعيد . ويصـمت موسى . فالله الحكمة البالـغة ، ان امره كان حتماً مقضيا !.

    وتحدثنا بعض الرويات بان"الايكه"هذه،هي،قريه"بليدا" في جنوبي لبنان ،وان البئر التي سقي منها موسى،هي " بئر بليدا " القريبه منها، جنوبا شرقا …وتتقدم احدى الفتاتين من ابيها ،لتهمس في اذنه ، عاى حين غفله من موسى : {..يا ابت ،استاجره، ان خير من استاجرت القوي الامين !}.

    وتقص الفتاه على مسامع ابيها كيف اقتلع موسى الصخره من على فوهه البئر ،على هزاله وضعفه فتفجر الماء غزيرا ،..وكيف اطرق الى الارض وهى تدعوه الى منزل ابيها ، وكيف طلب اليها في الطريق ، ان يتقدمها ، وتتبعه ،كي لاتقع عينه على مالا يجوز لها ان تقع عليه ..ويطرق الاب الى حديث ابنته ، فيا لهذا العف، الشهم ،الكريم !.

    ويدعو موسى ، ويجلشه على جانبه ، ثم يتوجه اليه بوجهه ، وطيف ابتسامه ياتمع على ثغره الوضئ ، ويقترح الشيخ على فتاه اقتراحاً مفاجئاً :

    ما تقول يا موسى في ان ازوجك احدى ابنتي هاتين ، على ان تقوم بمناصرتي وعوني ورعاية اغنامي ثمانية اعوام ، وان اتممتها عشراً اكن لك من الشاكرين .. ، وما اريد ان اشق عليك !…وذلك بمثابة مهر العروس ، كما تعارف على ذلك الناس ؟

    فيشرق وجه موسى . وتؤوب اليه نفسه مطمئنة ، اسعد واهنا ما تطمئن اليه نفس انسان !.. لقد وجد في هذا المنزل الكريم ضالته المنشودة ، وفي هذا الشيخ الوقور اسمي درجات الوقار والايمان ، فانجذب اليه ،وشبه الشئ منجذب اليه !..

    ولم يطل تفكير موسى ، اذ ما لبث ان وافق ، فتعاهد الرجلان علىذلك ، وكان الله على تعاهدهما شهيداً !..

    ويتزوج موسى احدى الفتاتين ، ويبقى عند سيده عشر سنين ، موفياً بما عاهد ، ومتماً اوفى الاجلين ، يناصره ويعينه ، ويرعى له اغنامه التي تكاثرت بشكل مطرد !… ورد في احدى الروايات ، على هذا الصعيد ـ ، نادرة تقول :

    بينما كان موسى يرعى قطيع سيده ، اذ فر تيس ماعز في ارض وعرة ، مصعداً في هضاب عالية ، واكام ، وتلال .. ولحق به موسى ، متتبعاً اياه ، لاهثاً ، حتى ادركه بعد عناء شديد ،وجهد جهيد . فاوقفه ، وجلس موسى يستريح ، وقد كادت تنقطع انفاسه الاهثة ، ثم جذبه اليه من قرنيه برفق ، وقبله بين عينيه ، واخذ يمسح جبهته بحنان ، مخاطبا اياه ، وقد تحدرت دمعة على خديه الكريمين :

    والله لم الحق بك هذه المسافة الطويلة خوفا من احد ، ولا طمعا بك ، ولكن ، حرصاً عليك من ان يفترسك الذئب !.

    وكانت اطلاعة له تعالى على قلب موسى ، فاذا كالذهب الخالص صافياً ، او اشد صفاء ونقاء .. فيقضى ساعتئذ لموسى بالنبوة احسانا لقلبه السليم ، ونفسه الطهور ، وتكريماً !…

    تحرك الحنين في نفس موسى بالعودة الى الديار التي درج فيها ايم طفولته وصباه . فما1ا حدث لها بعد هذه السنين العشر الطـوال ، وكانها دهر مديد ؟ .. ويحدث زوجه بالامر ، فلا تمانع ، وويرضى بذلك شعيب .. ويتحول الحنين الى عزم ، وتصميم ، فقرار !.

    فيجمع موسى امتعته البسيطة ، ويزوده شعيب بقطيع من الاغنام ، صغير ، ويدعو لهما برحلة سعيدة ، فيودعانه وداعاً حسنا ، ويتجهان في رحلتهما جنوباً ، والله الهدي سواء السبيل !.

    ويقطعان ارض كنعان وفلسطين من شمال الى جنوب ، ولايجدان في اجتيازها مشقة تذكر ، او كبير عناء ، .. ففيها الـماء ، والكلا ، والخصب الوفير ..

    واليها انشداد روحي عميق عميق ، ففي زايتها الشمالية الغريبة ، عاش اباء له واجداد ، صلحاء واتقياء ً.. وتطوى لموسى وزوجه الارض طياً !.

    فاذا بهما بعد بضعة ايام في سيناء ، الارض التي سيكون لـها في تاريخ بني اسرائيل ، بعد حين ، شان جد خطير !.. ويهبط الظلام ، فتمحي الحدود والمسافات ، والابعاد ، والجهات ، .. وتهب ريح باردة .. وياتي زوجه الحامل المخاض ..

    فيتلفت موسى الى عل ، والى امام ، وذات اليمين وذات الشمال ، تلفت الحيران في امره ، المضطرب في مسيره ، وقد ضل السبيل ، والتوت عليه الطريق ، فما يدري ماذا يفعل . فيصفق كفاً بكف ، قائلاً : رباه ، ما العمل ؟ ويتلفت موسى الى طور سيناء ، وقد عميت عليه الجهات ، فلا يدري شرقاً من غرب ، ولا يميز شمالاً من جنوب … فلعله يجد في هذا الجبل ، المتواضع بعلوه ، بعض دليل ، واذ به يرى ناراً من الجهة التي تليه .

    انها لمفاجأة سعيدة حقاً ، ويفرك عينيه ، وكانه لا يكاد يصدق ما تشاهدان ، احقيقة ما يراه ام طيف منام ؟ ولكن النار ما زالت تظطرم . وما زال لهيبها يسطع في الاجواء بنور ابيض ، لطيف ..

    ويقول موسى لزجه التي تعاني ، وقد اخذ يفرك يديه ، بانفعال :

    { امكثوا اني انست نارا ، لعلي اتيكم منها بخبر ، او جذوة من النار لعلكم تضطلون .. }

    ويحث موسى خطوه الى النار الملتهبة ، بسرعة الولهان ، وسرعان ما يصل الى { شاطئ الواد الايـمن في البقعة المباركة من الشجرة } وينظر الى النار . انها لنار عجيبة حقاً ، فيغفر فاه دهشاً !..

    ويكرر موسى الى النار النظر ، ويعيد ، .. انها تلتهم من العوسجة الاغصان والاوراق ، اما الجذع فمخضوضر يانع ، وكأن بينه وبين النار المشعشعة حائلاً !. ويتأملها برهة ، كالمصعوق ، .. فهي ، بالاضافة الى ذلك لا تتغير ابداً ، فلا لهيبها يخبو ، ولا اضطرامها يزداد . انها على حال واحد لا يتغير ، .. فهي اشبه ما يكون بالنور بال هي نور لا نار !..

    وتتعلق بهذا النور الشفاف ، عينا موسى ، مأخوذ !.. ويقطع دهشته صوت ، لا كالاصوات ، ينبعث من قلب هذ العوسجة الغريبة ، بناديه باسمه : { اني ربك فاخلع نعليك ، انك بالواد المقدس طوى } فيتمثل للامر موسى ، وقد ارتعدت فرائصه لهول المفاجأة
    التحدي العظيم، وتفوّق موسى :

    ونزل فرعون بعظيم أبّهته وجلاله، يحيط به سادة المملكة وأشرافها، ويتبعه السحرة أفواجاً، وهم يحملون عصيّاً لهم، وحبالاً!.. وتتجه بهم العربات الموشاة بالذهب إلى الساحة الكبرى في المدينة التي أعدّت لاستقبال فرعون مصر، فرفرفت حولها رايات كثيرةٌ، وزينة ذات ألوان... واحتشد حولها خلقٌ من المصريّين، عظيمٌ. توافدوا من كل أقاليم مصر، وأطرافها.. إنّها لمناسبة يضن (أي:يبخل) بمثلها الزمان. فهي حدث العصر الضخم، وحديث الدنيا كلها!..
    ويصل فرعون ورهطه..

    وكان موسى وهرون لهم بالانتظار!. إنّ لهذا اليوم ما بعده!..

    وانتهى إلى مسامع موسى وأخيه تهامس السحرة فيما بينهم، كالنجوى:

    - مالهذين الساحرين العالمين، يريدان إخراجنا من أرضنا بسحرهما، والذهاب بطريقتنا التي تعارفنا عليها أسلوب حياة، ونظام عيش. والتي هي بالنسبة لنا، الفُضلى والمثلى؟!..

    فيحذّرهم موسى: {.. ويلكم، لاتفتروا على الله كذباً، فيُسحتكم بعذاب وقد خاب من افترى!}.

    ويلتفت كبيرهم إليه، قائلاً: مالهذا جئناك ياموسى، أنلقي نحن، أم تكون أول من ألقى؟

    فأجابهم: {بل ألقُوا!..}.

    وتقدم كبير السحرة فألقى عصاً كانت بيمناه، فإذا هي {يخيّلُ إليه من سحرهم أنها تسعى،..} وأتبع ذلك بحبل كان على كاهله، فألقاه، فإذا هو حيةٌ أعظم من الأولى، وأدهى!.

    ثم أشار كبير السحرة إليهم، أن ألقوا!.. فألقوا حبالهم وعصيهم، فإذا بالساحة تموج بالحياة، من كل شكل، وبالثعابين، تتحوى، وتتلوّى!...

    فتهلّل وجه فرعون، وقد ترنّح عطفاه، فاهتز طرباً، وصفق بيديه مستبشراً!.. وصاحت الجماهير المحتشدة، وهتفت لفرعون، ومادت الارض بالجموع النسوى (أي السكرانة).

    شاهد ذلك كلّه موسى،.. فأوجس خيفة مما رأى!.

    وأوحى الله الى نبيِّه في غمرة المفاجأة:

    {.. لاتخف انك أنت الاعلى!. وألق مافي يمينك...}

    فانتفض، كمن أفاق من سهوته، وألقى عصاه،.. فاذا هي حيّة، لاكالحيّات، وقد أخذ جسمُها ينتفخ ويتعاظم، حتى صارت ثعباناً مهولاً، تقدح عيناه بعظيم الشرر، ولفحيحه صوت هادر، وقد تدلّى لسانه من بين شدقيه الهائلين، متحرّكاً يمنةً ويَسرة، وكأنه يتوعّد بالخطب الجلل. وانبرى إلى الحيّات الساعيات أمامه، وهي مئات، فبدت أمامه، لضخامة هيكله، وكأنها الديدان الحقيرة... وأخذ بالتقامها الواحدة تلوَ الأخرى!..

    وكان الثعبان يتلفَّتُ، هائجاً، إلى المتحلّقين حوله، فتمتلئ قلوبهم رعباً.

    ويدمدمُ فرعون، وقد أخذ الخوف منه مأخذاً عظيماً، يالهذه الداهية النكراء!..

    ويلتفت كبير السحرة، وكان أعمى، إلى ساحرٍ آخر بجانبه قائلاً:

    - ويحك!.. ماالخطب في ماترى؟..

    فوصف له مايحدث، وقد بان الخزي على وجوه السحرة، فهم لما يشاهدون منكرون، وقد ظهر موسى وأخوه عليهم ظهوراً بيّناً!..

    - ثكلتك أمُك لما أسمع!.. تأمّل جيداً هذا الثعبان، فهل يكبر جسمه ويعظم حجمه عند التقامه الحيات، أم أنه يبقى على حاله، لايتغير أبداً؟.

    - بل يبقى على حاله، أبداً!.
    إيمان السحرة وآخرين :

    فأطرق كبير السحرة برأسه قليلاً، ثم رفع رأسه، متوجّهاً الى السحرة، صارخاً بهم:

    - ويحكم ياسحرة مصر!.. إن ماترون، ليس بسحر كسحركم، ولكنّه الحق أتاكم من ربكم،.. فتوبوا إلى بارئكم، وأقلعوا عمّا انتم عليه من الضلالة والغواية، وعبادة فرعون، وآمنوا بالحق الذي أتاكم به موسى.

    {فألقى السحرة سُجّداً، قالوا: آمنّا بربّ هارون وموسى!}.

    وكان الثعبانُ قد أتى على الحيّات جميعاً!.

    ومد موسى يده إليه، فتناوله، فإذا هو، كما كان، عصا!.

    ونظر القوم بعضهم الى بعض محملقين، وكأنهم كانوا تحت وطأة كابو رهيب!.. فثارت، عند ذلك ثائرة فرعون، وتغيّرت سحنته (اي: هيئته) فبدت دكناء،.. وعلا صوته، كالعاصفة المجلجلة، متهدّداً السحرة، ومتوعّداً أياهم، فهم، بزعمه، قد تواطأوا عليه، وعلى حكمه، مع موسى،..

    وأمر بالقاء القبض عليهم، وخاطبهم، فأسمعوه من القول مالايرضى!.. ثم امر بهم، فصلبوا، بعد أن عذّبوا عذاباً نكراً!..

    وانصرف موسى.. وتبعه خلق كثير ممن آمن به واهتدى.. ولم يهنوا، ولم يضعفوا، بل صبروا على ماأصابهم من فرعون من عظيم الكيد والأذى!..

    وبدأ موسى يسُنّ لجماعته سنن الدين القويم،.. وكان أول ماقام به التوجه لعبادة الله وحده، والإيمان به خالق كل شئ، بيده الملكُ، وهو على كل شئٍ قدير...

    وأمر جماعته بالصلاة!.. فبالصلاة يعرف مؤمن من غوي!.. على أن يتوجه المؤمن منهم لجهة منزل أخيه المؤمن، يتخذه قبلة له، يصلي اليها. وكان قصر فرعون قبل ذلك كعبة المصلين، وقبلتهم، إليه يتجهون في صلواتهم، فحرم ذلك عليهم موسى!.. وازداد أذى فرعون، وعظم كيده، وعمت بلواه المؤمنين، فلا طاقة، بعد، ولااحتمال. وأقبل إلى موسى رهط من بني اسرائيل يتذمرون، - فإلى متى هذه المحنة السوداء؟.. - وأسمعوه من القول مالايحب، عندما {قالوا: أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ماجئتنا. قال: عيسى ربكم أن يُهلك عدوّكم، ويستخلفكم في الارض..}.

    ويأمركم أن يستعينوا بالصبر، وبالصلاة، وبالتوجه الى الله تعالى دائماً!..

    ويبقى المؤمنون من بني إسرائيل وبعض المصريين المستضعفين، يحتملون من العذاب والأذى مالايطاق! ويبقى فرعون سادراً في غيّه، وعلى ضلاله القديم، عتوّاً وطغياناً..

    ويصل به الأمر أن يأمر هامان -وكان له وزيراً- ببناء صرح، له، عظيم، يناطح أعالي الأجواء، لعلّه يطلع إلى إله موسى، ونادى في جمع كبير من انصاره المصريين: {ياقوم:.. أليس لي ملك مصر، وهذه الانهار تجري من تحتي أفلا تبصرون. أم انا خير من هذا الذي هو مهين ولايكاد يبين!.}.

    واتبع فرعون من أساليب التعذيب وفنونه، والتنكيل وضروبه، مالم يخطر ببال!.. وصبر جماعة موسى على ذلك كله صبراً عجيباً، ابتغاء رضوان الله ومثوبته، واحتساباً!. فما ازدادوا إلاّ إيماناً وتسليماً!..
    بطش فرعون بخصومه :

    ويطفح الكيل بالنسبة لفرعون، أخيراً.. بعد أن لم تجد كل أساليبه نفعاً!. فيعزم على أمر خطير، يحسم الأمور، ويضع لها حداً نهائياً!.. فيقرر قتل موسى!...

    ويشيع الخبر بين الخاصة من رجالات البلاط، فيتكتّمون. ويسمع بذلك أحدُهم، فيقبل عليهم وهم مجتمعون صارخاً فيهم بلاذع التأنيب.

    {.. أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله؟..}.

    ويحذرهم مغبّة ماهم عليه مقدمون، ويخوّفهم عذاب الله، وأخذه الشديد. مذكراً إياهم بأيام الله الماضيات، وبأقوام قبلهم، كقوم نوح وعاد وثمود، وأصحاب الرّس، وطسم، من قبل، وجديس، عتوا عن آيات ربهم، واستكبروا، فأخذهم الله بذنوبهم، ودمّرهم تدميراً، فتلك ديارهم خالية منهم، فهي قفر بلاقع!. (ج، بلقع: لاحياة فيه).

    ويدعوهم إلى نبذ ما هم عليه من عبادة فرعون، الذي أضلّهم، فما اهتدى، ولاهدى، والايمان بالله وحده الذي {له مافي السموات ومافي الارض ومابينهما وما تحت الثّرى!..}.

    فترتفع أصوات المجتمعين ثائرة بوجهه، ويامر به فرعون، فيقتله شر قتلة!.

    إنّه مؤمن آل فرعون، على رأس قافلة الشهداء أيّامذاك!..

    وتعلم آسية بالأمر، فتثور، معلنة براءتها من ظلم زوجها، وطغيانه وعتوه، وإسرافه على نفسه وعلى الناس الذين حوله أجمعين، وتتوب إلى الله خالقها، كي يغفر لها خطاياها، كما تاب قبلها سحرة فرعون فغفر الله لهم خطاياهم، وما أكرههم عليه فرعون من السحر. وجعلهم من عباده المكرمين. ويمسك بها فرعون، ويأمر بها الى أشد العذاب.. ويتلوى جسدها الغض تحت سياط التعذيب المبرّح. فتتمتم: {.. رب ابن لي عندك بيتاً في الجنّة، ونجّني من فرعون وعمله..}.

    وتُغمض عينيها، وقد أغمي عليها، ثم تفتحهما، وتنظر إلى السماء، فتبتسم سعيدة بما ترى: لقد استجاب الله لها دعاءها، فأراها قبل انطفاء أنفاسها، قصراً يتلألأ في العُلى.

    ويجن فرعون، مما يرى، جنوناً.. ويقول لأصحابه:

    - أترون؟.. إنّها مجنونة، فهي تبتسم تحت العذاب الشديد!.

    ثم لاتلبث أن تلتحق بركب أمراء أهل الجنة، الشهداء السُعداء، الأبرار الأخيار!..

    ويزداد فرعون تصميماً!.. فبقطع الرأس، يتلاشى الجسد.

    وموسى رأس هذه الحركة، وهو المخطط والمدبّر والمنفّذ معاً!.

    فبقتله، ينتهي كل ماقام به وكأنه عاصفة في فنجان. وتعود بعد ذلك الأمور الى سابق عهدها القديم. ولكن،.. هيهات، هيهات، {.. إنّ أجل الله لآت} و{إنّه لايُفلح الظالمون!}.

    آيات وإنذارات :

    ولايترك نبي الله موسى مناسبة تمرُّ دون أن يدعوَ فرعون وملأه إلى الإيمان بالله، بالحسنى، والقول الطيِّب، ويرغب موسى فرعون، كالمكافئ له إن آمن، فهو يضمن له، على الله، دوام ملكه لاينقُصُ منه شئ، وصحته، لايصيبها شئ، وأن ينسأ بأجله (أي يطيل عمره) إلى الضعفين، ولامن مجيب!.. بل لجاجة في الطغيان، وفي العمى.. {فإنّها لاتعمى الأبصار، ولكن تعمى القلوب التي في الصدور} فيحذرهم موسى سوء المصير، ووخيم العواقب، فلايرعوون، بل يزدادون عتواً ونفوراً.

    وتكرّ سبحة العذاب :

    وكان أول إنذار من الله لهم، نقص في الاموال، والانفس، والثمرات.. فلم يعُد نهر النيل، كما كان يفيض خيراً عميماً، وبركة وعطاء جمّاً، بل شحّ ماؤه، ونضب عطاؤه. فعمّ القحط والجدب البلاد. ثم لاتلبث السماء أن تفيض عليهم بالمطر الغزير يهطل مدراراً دون انقطاعٍ، فيأتي الطوفان، ويعمُّ ضررهُ البلاد والعباد..

    ويرتفع إذ ذاك صوت آل فرعون، والمصريين، ويُقبلون على موسى مستصرخين، مستنجدين، مولولين، يجأرون مستغيثين:

    - {.. ياموسى.. ادعُ لنا ربُّك بما عهد عندك، لئن كشفت عنّا الرجز (أي: العذاب). لنؤمنن لك ولنرسلنّ معك بني إسرائيل}.

    - أحقاً ذلك، وعهداً؟..

    - إي وربِّ بني إسرائيل!

    فيرفع موسى يديه الكريمتين إلى السماء داعياً، فيستجيبُ له الله الدعاء.

    وتمضي أيام، وتكُرُّ أعوامٌ،.. فيتدفَّقُ نهرُ النيل، كما كان، يحملُ الخِصبَ لأرض مصر، ويهب لها الحياة فمصر هبة النيل!. وتخضوضرُ الأرض، وتزهو بيانع النبت والثمر، وتضحك الجنائن عن متألّق الزهر، وكأنَّ شيئاً لم يكن!.

    ويُطالب موسى القوم بالوفاء بوعودهم، فيستهزئون به، وهم ناكثون!.

    {فلما كشفنا عنهم الرجز الى أجل، هم بالغوه، إذا هم ينكُثون}. ويزدادون كفراً.

    ويغضب موسى. ويغضب لغضبهِ اللهُ!..

    فأرسل الجراد عليهم، يأتي على الأخضر واليابس. فإذا بأرضهم يباب موات!. ثم سلط عليهم القمل، فلم يهنأوا في رُقاد، وقد أقضَّ مضاجعهم، وهو ينهش بجلودهم نهشاً. ثم نغَّص الله عليهم حياتهم بالضفادع، فكانت تمتلئ بها بيوتهم، وأماكن تواجدهم، وأواني طعامهم وشرابهم، حتى أنها كانت تتغلغل بين ملابسهم..

    وكانوا في كل مرة، كما في الأولى، يستصرخون موسى فيصرخهم (أي: يلبّي نداءهم وينجدهم) فيعدونه ويعاهدونه، وكانوا، عندما يرفع الله عنهم الرجز بدعوة موسى، ويبعد عنهم العذاب، يعودون لغيّهم، وضلالهم وقد نكثوا عهودهم وأخلفوا وعودهم!. ويُختم هذا البلاء بالدم الرعاف من أنوفهم، فاصفرت ألوانهم وبهتت هيئاتهم..

    ثم، بالدم يلاحقهم عند كل مشرب هم واردوه!..

    يكون الماء في الكأس، أو غيره، أمام أحدهم صافياً زلالاً، كالفضّة السائلة، وما أن يرفعه ويقدمه إلى فيه ليشرب، حتى يتحول الماء دماً عبيطاً!.. فيعافه، ويبقى على ظمئه عطشاناً..

    حتى أن المرأة من بني اسرائيل، كانت تتناول الماء بفيها، وتزقّه فم المرأة الفرعونية، كالطير يزق فرخه، فيتحول في الفم الآخر دماً،...

    ومرة أخيرة يستصرخون، مظهرين الندم، قاطعين الوعود، مشهدين إله موسى وبني إسرائيل على صدق دعواهم، هذه المرة، فيصرخهم موسى، ويرفع الله عنهم هذا الرجز المرير، وهو الذي يُمهل ولايهملُ!.. ولكنّ نزعة الشرِّ كانت قد تمكنت في نفوسهم، وتأصّلت، وتجذرت حتى عميق الأعماق. فلم يحاولوا الإقلاع عمّا أدمنوا عليه من السجايا القباح!. بل عادوا لما كانوا عليه من نكثٍ ونُكرانٍ، وجحودٍ، وتكذيب بآيات الله واستهزاءٍ برسله وبالمؤمنين...

    {وقالوا: مهما تأتنا من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين!}

    ويعود موسى فينذرهم إنذاراً نهائياً، لاعودة منه، فذهبت صرختُهُ أدراج الرياح. فييأس منهم موسى، ويقطع من إصلاحهم كل أمل ورجاء.

    ولشدة مالاقى منهم من عنت ومن قهر، يدعو الله أن يطمس على اعينهم ويشد على قلوبهم، {فلا يؤمنون حتى يروا العذاب الأليم}.

    فيستجيب الله لنبيّه دعوته!...

    - {أفبعذابنا يستعجلون؟}.

    خروج موسى وجماعته من مصر وغرق فرعون وقومه :

    ويهبط الوحي على موسى، يأمره وقومه، أن يتأهبّوا لمغادرة ارض مصر، فليس لهم بعد اليوم فيها مقام. فخرج معه نفر من المؤمنين، وتخلّف آخرون!...

    وسخّر الله على مدينة فرعون ريحاً عاتية، ألزمتهم منازلهم ثلاثة أيام لم يستطيعوا الخروج منها. وفي اليوم الرابع تفقّد جند فرعون بني إسرائيل، فوجدوهم قد غادروا المدينة، لم يتخلف منهم إلاّ القليل. وعلم فرعون بالأمر فاستشاط غضباً وحنقاً، مقسماً على الانتقام منهم، فستنالهم يداه، مهما بعدوا عنه، هرباً!.

    - فأرسل فرعون في المدائن حاشرين. إنّ هؤلاء لشرذمةٌ قليلون. وإنّهم لنا لغائظون. وإنّا لجميعٌ حاذرون}..

    واتّبع بني إسرائيل، فأنّي لهم أن يُعجزوه طلباً!... وأمر الله موسى أن يتبع اتّجاه الرياح، ففعل!.. وعجب بنو إسرائيل من هذه الطريق الغريبة يسلكها بهم موسى، وهي بمنأى عن دُروب القوافل والمسافرين.

    وماهي إلاّ ساعات، حتى كانوا أمام البحر وجهاً لوجهٍ. فعلا صراخهُم، واحتجاجهُم، وتذمُّرُهُم، وقد دخل الشكُّ قلوبهم، فلم يغادرها، ولن!.. فاستمهلهم موسى، داعياً إياهم -كما في كل مرة- إلى الصبر والأناة. فإلى الله الرجعى!..

    وتراءَت لهم جيوش فرعون من بعيد، يملأون الأفق عدّة وعدداً.. فأيقنوا بالهلاك، وساد صفوفهم هرج ومرج، وذعُر وصخب. وأحاطوا بموسى، يلومون:..

    - أإلى الهلاك تقودُنا ياموسى، هانحنُ أولاء بين البحر وفرعون، فأين سدادُ رأيك،؟.. بل أين ماوعدّك ربُّك يا موسى؟..

    ويعود يدعوهم إلى مزيد من الصبر والتوكُّل على الله، فهو منجيهم، ولن يروا، بعد اليوم، من فرعون وجنده أحداً!..

    ويرتفع صوت ظريف منهم، بخبثٍ: الحقَّ تقول ياموسى. فبعد هلاكنا على أيديهم لن نرى منهم أحداً أبداً

    ويجيبه موسى: بل الله مهلِكهُم جميعاً!..

    { فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنّا لمدركون. قال كلاّ إنّ معي ربي سيهدين}.

    وعندما غربت الشمس، أرسل الله مايشبه السحابة المضيئة، وكأنها تلتهب. فانتصبت في الجو كعمود من نار ونور آضاء كل شئٍ. فبدّد غياهب الظلام، وموسى وقومُه واقفون أمام البحر حيارى. بوجومٍ وذهول!..

    { فأوحينا إلى موسى ان اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم}.

    وكانت المعجزة.. وقد انشق البحر عن اثني عشر طريقاً!..

    وعلت مياه البحر المتجمّدة فكانت كالجبال الثوابت، وتقدّم موسى قومه يسلُكُ بهم هذه السبل العجيبة، عابرين إلى الضّفّة الثانية، وقد جعل الله في هذه المياه المتجمدة العالية مايشبه الكوى (جمع. كوّة). فكانوا يشاهدون بعضهم بعضاً، وهم يعبرون، وكانوا يتحادثون مستأنسين!..

    وتبعهم فرعون بجنوده مقتفياً آثارهم في البحر المنشقّ لهم، وقد علت أهازيج جنده وصيحاتهم. ظناً منهم بأنّ البحر انشق لفرعون بقدرته!. وكان بنو إسرائيل قد اتمّوا عبورهم إلى الضفة الثانية. وإذا بصوت كالرعد القاصف، فالتفتوا خلفهم، فإذا بالبحر قد أطبق على فرعون وجنوده، فكانوا من المغرقين! ولما أيقن فرعون بالغرق، قال {.. آمنت أنّه لا إله إلاّ الذي لآمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين}. ويجيبه صوت: آلان؟.. بعدما فات الأوان، فلا إيمان لمن فاته- في ماسلف من عمره- الإيمان!.. واتجه موسى ببني إسرائيل، وجهه الديار المقدسة، مشرقين، مخلِّفاً وراءه جيش أعدائه في اليم غرقى. وقد قاء البحر جثة فرعون إلى الشاطئ. فهذه نهاية كل متكبر جبار لا يؤمن بيوم الحساب!.

    ويشاهد الخلقُ جثة فرعون ملقاةً على الشاطئ، سليمةً، وقد بدأ يدب فيها الفساد ويسرع إليها النتن، فيقول قائلهم:

    - أين ألوهيتك يافرعون مصر؟ وأين عزتك القعساء؟ وأين سلطانك والكبرياء؟ إنها حكمة الله التي أبت إلاّ أن يظهر الحق جلياً كفلق الصبح.

    {فاليوم نُنجِّيك ببدنك لتكون لمن خلّفك آية}.

    ويحملون الجُثة عائدين بها إلى عاصمة الفراعنة. ويحنطونها، كي تبقى أبد الدهر شاهدة على وحدانية الله الواحد القهار، وأخذه مدعي الربوبية أخذة رابية!. بالمناسبة. فقد اختلف بعض المؤرخين حول شخصية فرعون مصر، فرآه بعضهم أنه فرعون آخر غير رمسيس، الذي نحن بصدده،... ويأبى الله إلاّ إظهار ساطع برهانه فهاهي ذي جثة الفرعون الآخر هذا، لازالت محفوظة بالتحنيط، ومسجاة إلى جانب جثة رمسيس، آية من الله لأولي النهى، وعبرةً لمن أبصر فوعى.

    مما دعا بعض كبار علماء الآثار الغربيين إلى الإسلام انطلاقاً من الآية السالفة.. فأياً كان منهما، صاحب موسى، الذي ادّعى الألوهية... فها هي جثته معروضة لكل ذي عينين، أو ألقى السمع وهو منيب!..

    ميقات موسى وردّة بني إسرائيل :

    ومر بنو إسرائيل على قوم يعكفون على أصنامهم (يحيطون بها) يعبدونها من دون الله. فانقدح الشك في قلوبهم، وحنّوا إلى قديم وثنيّتهم، وقالوا لنبيّهم موسى:

    - {.. ياموسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهةٌ. قال: إنّكم قومٌ تجهلون. إن هؤلاء متبّرٌ (أي: مدمّر) ماهم فيه وباطل ماكانوا يعملون}.

    والحّوا عليه، فصاح بهم: {أغير الله أبغيكم ربّاً وهو فضّلكم على العالمين؟..}.

    وسأل موسى ربّه كتاباً يكون نوراً لبني اسرائيل، وهدى. لهم، لقلقهم، وما فطروا عليه، من العناد والعصيان لايكادون يستقرّون على الرأي الحق، ولمّا يدخل الايمان قلوبهم، بعدُ!.. فيأمره ربُّه بالطهور والصيام، ويواعده أربعين ليلة، يكلّمه بعدها، ويناجيه.

    ولكن موسى كان على عجلة من أمره فقبل أن يتم أربعين ليلة كما واعده ربُّه اختار من قومه سبعين رجلاً صالحاً، وسبقهم إلى طور سيناء، بعد أن استخلف أخاه هارون على قومه، موصياً إيّاه بالصلاح فيما بينهم والإصلاح، مشدداً عليه: {اخلفني في قومي، ولاتتبع سبيل المفسدين}.

    ويسأل الله نبيّه عن سبب استعجاله دون قومه:

    - {وما أعجلك عن قومك ياموسى؟.}

    فيجيب: -{هم أولاء على أثري. وعجلت إليك ربِّ، لترضى}.

    ويأبى الله إلاّ أن يُتم ميقاته (أي: ميعاده) فعاد موسى، فأتمَّ عشر ليالٍ أخريات، حتى تصرّمت (أي مضت وانقطعت) أربعون ليلةً تماماً، كما قدّر الله لذلك وقضى!. وعاد موسى إلى ميقات ربِّه مسرِعاً، وقدماه تنهبان الأرض نهباً، لفرط حنينه للقاء مولاه، وولهه، وشدة شوقه وشغفه.

    ويستبدُّ بموسى الشوق الشغوف، ومبرّح التوقِ، والوجدِ، والانجذاب،.. فيسأل ربّه شيئاً عظيماً، أليس هو أقرب خلقِه إليه، يحادثه، ويكلِّمه، ويناجيه، بصفاءِ محبةٍ، ومحضِ وَدادٍ؟..

    لنستمع إليه تعالى يقصُ علينا هذه الطُّرفة:

    { ولما جاء موسى لميقاتنا، وكلّمه ربه، قال: رب أرني أنظر اليك. قال: لن تراني. ولكن انظر الى الجبل فان استقرّ مكانه فسوف تراني، فلمّا تجلّى ربُّهُ للجبل جعلهُ دكّاً، وخرّ موسى صعقاً، فلمّا أفاق قال سبحانك، تبت إليك، وأنا أول المؤمنين}..

    ويتوب الله على موسى، وقد تجرأ على طلب ماليس له بحقٍّ، وما لاقُدرة له عليه، ولا احتمال!.. ويُناوله الألواح فيها أحكام كل شئٍ مفصّلاً، وموعظةٌ، وهدىً، ورحمةً لبني إسرائيل. ثم يخبرهُ بأنّ قومه ضلُّوا، وقد فتنهُم "السَّامري"، {فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفاً!}. وإذا بهم متحلِّقون حول عجلٍ من ذهبٍ، يهزجون حوله، طربين، متعبِّدين. فعلم أنهم بالفتنة سقطوا وأقبل عليهم موبخاً ومؤنّباً، وثار غضبه، وفار.. وألقى الألواح المقدَّسة التي كان يحملها إليهم، أرضاً، فتحطَّمت، فاشتعل غضباً، وتميَّز غيظاً،. {فما لهؤلاء القوم لايكادون يفقهون حديثاً؟..}.

    ووقعت عينُه على أخيهِ هرونَ، فأسرعَ إليه معنِّفاً، ممسكاً بشعره الكثِّ، ولحيتِه الطويلة، يجرّه بها إليه جراً عنيفاً، فصرخ هرون من فرط جزع وفزع:

    {.. قال ابنَ أُمَّ، إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني، فلا تُشمت بي الاعداء ولاتجعلني مع القوم الظالمين}.

    فرجع موسى إلى نفسه، {قال: ربّ اغفر لي، ولأخي، وأدخلنا في رحمتك، وأنت أرحمُ الراحمين}.

    وأيقن من جليّة الأمر، فقد عصى القومُ هارون الذي حذّرهم من مغبّة الوقوع في الفتنة، وعصيان خالقهم، وماكان بقاؤه فيهم على ماهم عليه من التمرد، والنفاق، والزيغ (أي: الميل إلى الباطل) إلا حفاظاً على وحدتهم، ولمِّ شعثهم.

    والتفت موسى إلى "السامريِّ": فما الأمرُ؟..

    ويجيب السامري: لقد شاهدتُ مالم يتسنَّ للقوم أن يشاهدوه، فقبضتُ حفنةُ تراب من أثر الملاك جبريل، وجمعتُ ما يحملُ بنو إسرائيل من حليِّ الذهب، وقذفتُ ذلك كلّه في حفرة، أجّجتها ناراً، وصنعت من ذلك {عجلاً جسداً له خوار}، اتّخذه بعضُ بني إسرائيل إلهاً!..

    ورمقهم موسى بعين غضبى، فأطرقوا ندماً وخجلاً!..

    ويهبُّ موسى لمعالجة الأمر سريعاً. ويأمرُ بالعجل، فتُرسلُ عليه النار، فتحرُقُهُ، وتفتِّتُهُ تفتيتاً، وتهب ريح تذروه في البحر، هباءً منثوراً..

    وأمر بالسامري منبوذاً، لايدنو من الناس، ولايقربُه الناس، ولايمسُّه أحدٌ أبداً.

    وأمر قومه بالتوبة، وقتل أنفسهم، ولعلَّ المقصودُ بذلك كسرَ حدَّتها، وكبتَ شهواتِها، وكبح رغائبها، وتطهيرها وتزيكتها، ففعلوا ماأُمرُوا به، وتاب الله عليهم جميعاً!..

    وعاد موسى إلى ميقات ربّه، من جديد، بعد أن اختار من قومه - كما فعل آنفاً- سبعين رجلاً ولما وصلوا الى الجبل، زلزلت الارض بهم زلزالاً شديداً. فصاح عندئذ موسى متضرعاً وجلاً:

    - {.. رب، لو شئت أهلكتهم من قبل، وإيّاي. أتُهلكنا بما فعل السفهاء منّا؟..}.

    فتشملهم رحمة الله،.. وتستقر الارض تحت أقدامهم، وتهدأ، فيهدأون!..

    وعاد موسى يدعو قومه الى اجتماع ليبين لهم ما أنزل الله من أحكام إقامة صلاة وتأدية زكاة، وكانت الدعوة أمام سفح الجبل، فلم يسمعوا له قولاً. فتزلزل الجبل فوقهم، وتناثرت حجارته عليهم، فسمعوا عندئذ قول موسى!..

    التيـــه :

    ويقود موسى قومه إلى أرض الميعاد في فلسطين، لعلهم يلقون فيها عصا ترحالهم، بعد عنائهم الطويل ويصيبهم في الطريق الظمأ، فيصرخون: ياموسى.. الماء، الماء!..

    {وأوحينا الى موسى إذ استسقاه قومه، أن اضرب بعصاك الحجر، فانبجست منه اثنتا عشرة عيناً، قد علم كل أناس مشربهم!}. فارتووا!..

    وكان هجيرٌ قائظ، فأرسل الله فوقهم الغمام، يظللهم من لفح الشمس، ويكسر حدة الرمضاء. ثم أدركهم الجوع، فصاحوا: ياموسى.. الطعام، الطعام، فأرسل الله لهم المنّ والسلوى، {كلوا من طيبات ما رزقناكم}، دون طغيان، ولا جحود ولاكفران!..

    وتابع طريقه موسى، ووجهة سيره "أريحا" لمواجهة من فيها من عتاة الكنعانيّين والحثّيّين. فاستسلم بنو إسرائيل إلى خور العزيمة، ودبّ فيهم الوهن، وقالوا:

    - {.. إنّ فيها قوماً جبّارين. وإنّا لن ندخلَ حتّى يخرجوا منها، فإن يخرجوا منها فإنّا داخلون!}.

    فهاله ماهم عليه من التقاعس، والجبن. وأخذ يحبب إليهم القتال في سبيل الله ويرغّبهم بالجهاد، فكان كمن ينفخ في رماد، أو، كمن يصرخ في وادٍ!..

    ثم صارحوه بجليّ أمرهم، وما انطوت عليه نفوسهم من خبثٍ، ولؤم طباعٍ:

    - {.. ياموسى، إنّا لن ندخلها أبداً ماداموا فيها، فاذهب أنت وربك فقاتلا، أنّا ها هنا قاعدون}.

    فأيقن عندئذٍ موسى بأن قومه قد غرقوا في بحر الضلالة والخذلان، والعصيان، والغيّ الموفي بأهله على النار، فرفع بصره الى السماء، وقلبه يكاد يتفطّر قائلاً: {ربّ، إنّي لاأملك إلا نفسي وأخي}. نافضاً يديه منهم أجمعين!..

    وكان جزاء تقاعسهم، وخور عزيمتهم، أن ظلّوا يتيهون في (أرض التيه)، حيارى، لايهتدون إلى معالم طريق، مدة أربعين سنة، هلك خلالها كل هذا الجيل المتهاوي، المتهالك على نفسه، الذي ما أن يؤمن حتى يعود إلى الكفر من جديد،.. لينهض على أنقاضه جيل منيع عزيز،.. لايسأم الجهاد، وركوب متون (أي: ظهور) الحرب والقتال!..

    وفاة موسى، وظهور يوشع بن نون نبيّاً جديد :

    ولما شعر موسى(عليه السلام) بدنّو أجله، نظر في أمور قومه، فأحسن تنظيم أوضاعهم، خاتماً فيهم رسالته ناظراً بعين الغيب إلى نبيٍّ جديد، يرسله الله إلى أهل مكة ومن حولها فيخرجهم من الظلمات الى النور!..

    ثم غادرهم، وهم عنه غافلون، تجرّهُ قدماه في عمق الصحراء، وخيالهُ يلتهب بذكريات، وما أكثرها.. ومعظمها لاسع كالجمر المتّقد. وفيها كل غريب وطريف، فهي لاتبرح خياله أبداً.

    وإن نسي، فلن ينسى منها ثلاثاً:

    - الأولى: قصته مع الخضر: وسبب ذلك، أن نفس موسى حدّثته يوماً بأنه أعلم من على وجه الأرض، إنساناً! فصدّقها، وجاراها في دعواها. أليس هو نبيّ الله، وكليمه، ورسوله. فمن أقرب إلى الله من موسى؟. فاوحى الله تعالى إليه: إنّ من عبادي من هو أوسعُ منك إحاطةً، وعلماً!..

    ويسأل موسى ربّه مستغرباً، من هو ياسيّداه؟

    فيجاب: أنه عبدي الصالح، عند (مجمع البحرين).

    فيشدُّ إليه موسى عصا الترحال، يبتغي مقابلته، والتعلُّم منه. وقد اصطحب معه فتاه، ويجتمع موسى بالعبد الصالح هذا،.. ويرى على يديه خوارق ومعجزات لا يستطيع الانسان العاديّ إلاّ إنكارها. وكذلك فعل موسى!..

    وفي نهاية المطاف -(كما ورد في سورة الكهف، الآيات: 60-82)- يشرح الخضر لنبي الله موسى حكمة الله من كل ماقام به من تصرفات. إنّه التأويل لبواطن الأمور، لاتفسير ظاهرها!... ويشعر موسى بضآلة علمهن وهو النبي المجتبى، أمام ما أوتيه العبد الصالح حكمةً وعلماً!..

    - الثانية: قصة بقرة بني إسرائيل: وكان ذلك عند ماقُتل أحد رجالهم، ولم يعرفوا قاتله. فأمرهم الله أن يذبحوا بقرة -(كما ورد في سورة البقرة. الآيات: 77-83)- وأخذ بنو إسرائيل يستقصون من نبيّهم موسى عن ماهيتها، وصفاتها، ولونها.. لجاجاً منهم وعناداً! واهتدوا بعد لأيٍ (أي: جهد ومشقة) إليها، ولم يستطيعوا ابتياعها، إلاّ بعد أن دفعوا مبلغاً من الذهب، كبيراً... يُضاف إلى ذلك جدهم في طلبها، حيرتهم، حتى اهتدوا إليها، بعد شهور طوال، من التفتيش والتنقيب، ولو أنهم آمنوا بالله ورسوله، وسلّموا إليه إمورهم، وتخلّوا عن لجاجهم وعنادهم، لوجدوا في أي بقرة تقع عليها أيديهم، مايفي بالغرض المطلوب!.. ولكنه العناد الحرون، والفطرة على الشقاق والنفاق، وسيّئِ الأخلاق!.

    - الثالثة: قصته مع قارون:

    وهي الأدهى، والأمرُّ! فقارون، تربطه بنبيّ الله موسى وشائجُ دمٍ، وقربى رحم. وكان قارون أغنى أغنياء بني إسرائيل. فله من كنوز الذهب ماتنوءُ بحمل مفاتيح خزائنه عصبة من الجمال شديدة القوى، فكفر برسالة موسى، وجاهره العداء، وألَّبَ عليه الأعداء، باذلاً في سبيل ذلك الأصفر الرنان!: (كما تقص علينا سورة القصص. الآيات: 76-83) وتمنَّى بنو إسرائيل أن يؤتوا مثل ماأوتي قارون، فكأن الله قد أفاض عليه من الذهب نهراً لاينضب. ونسُوا، وهم دائماً ينسون، أنّ رحمة الله خير من كل ذلك وأبقى!

    وانتظر بنو إسرائيل قارون، حتى خرج عليهم، يوماً، في زينته، فانبهرت أبصارهم بها، وانشدهت بصائرهم، {إنّ هذا لشئٌ عُجاب!..}. ونسوا كل شئ، فهم مأخوذون بهذه الفخامة من الزينة، والبهرج، يملآن عليهم الأفئدة، والأبصار، والأسماع!..

    وبينما هم كذلك، وإذ بزلزالٍ يضرب دار قارون، وإذ بالأرض وكأنها تثور تحت قدميه، فتسيخ، وتخسف بقارون وبداره الأرض، فهو لاينفك متغلغلاً في باطنها كل يوم قامةً، إلى يوم القيامة، فاعتبروا ياأولي الألباب!.. وما أكثر العبر في بني إسرائيل، وأقلّ الاعتبار!..

    وقد حال الله بين قلوبهم، وثابت الايمان واليقين، فهم في ريبهم، أبداً، يترددون!

    * * *

    وتكلُّ قدما موسى، وقد ضرب (أي: مشى) في عمق الصحراء، بعيداً... ولطالما قطعتا به مفاوز، وأراضي ذات آماد، وأبعاد!، وغرائب الذكريات ماانفك يتلو بعضها بعضاً!.

    ويتوسد حفنه من رمل!..

    فقد آن لهذا الجسد المنهك أن يستريح، ولهذه الروح الشريفة أن تنطلق في عالمها العلويِّ الرحب، الشريف، اللطيف!..

    ويظهر بعد ذلك في بني إسرائيل نبيٌ جديد. إنه يوشع بنُ نون. وكان من مقرَّبي موسى. فيخرجُ بهذا الجيل الجديد منهم، الفتيِّ، المجاهد، من أرض التيهِ، إلى أرض الميعاد في فلسطين، حيث المدنُ، والمزارعُ، والخيراتُ الحسانُ!..
    _________________

  7. #7

    ملااااك الروح's Avatar
    Join Date
    Apr 2006
    Posts
    115
    Rep Power
    223

    قصص الانبياء )يوسف عليه السلام(

    النبي يوسف عليه السلام

    رؤيا يوسف:

    استفاق يوسف ذات صباحٍ متهلّل الوجه، منبسطَ الأسارير، تطفو على قسمات وجهه المشعِّ غبطةٌ وسعادةٌ..

    وشاهد أبوه يعقوبُ في فتاهُ الوسيم، ذلكَ، فسُرَّ بدوره، وطابت نفسُهُ، وانشرح صدرُه فيوسُفُ أحبُّ أبنائهِ إليه، وأقربهم إلى نفسه وقلبه، وآثرهم لديه منزلةً ومكاناً!..

    وتناول يوسف يد أبيه وهو يَهمُّ بالجلوس إلى جانب هذا الشيخ الصّالح، كي يُفضي إليه بالسِّرِّ الَّذي أشاعَ في نفسه كلّ هذا الرِّضا والسُّرور، قائلاً لَهُ: {يا أبت إني رأيتُ أحدَ عشَرَ كوكباً والشَّمسَ والقمرَ رأيتُهم لي ساجدين}.

    ويلتفتُ يعقوبُ، منتفِضاً، إلى هذا الفتى الأغرِّ، كالأملود الريّان طراوةً، والّذي يسطعُ جبينُهُ بنورٍ سماويٍّ ساحرٍ، أخّاذٍ، وتلتمعُ على وجنتيه إشراقَةُ لألاءٍ، ويشيع منهما ألقُ ضياءٍ.. فيضمُّه إلى صدرِهِ، ويُقبِّلُهُ بعطفٍ وحنانٍ، ويُلقى في روعه بأن الله تعالى أخذَ يُعدُّ هذا الفتى الوسيم، البهيَّ الطَّلعةِ، لجلائل الأمور!..

    وبنبرةٍ تنضحُ إشفاقاً يطلبُ الشيخُ الوقورُ من ابنه الفتى ألاّ يقص هذه الرؤيا الصالحة على إخوته الأحد عشر، فقد يؤدي ذلك إلى حسد منهم، وكيد.. خاصة، وأنّ يعقوب يعلم حقّ العلم تبرُّم إخوة يوسف من أبيهم الذي يؤثر عليهم أخاهم يوسف إيثاراً شديداً. فلهُ في نفسه، من دونهم، ماليس لهم جميعاً!..

    وينصرف الفتى يوسف، وبنفسه تطوف آمال عذاب، وأحلام رطاب!...

    * المؤامرة:

    وذات مساء يحيط بيعقوب أبناؤه. وقد أجمعوا على أمرٍ، وانطوت جوانحهم التي تأكّلها الحسد، على خطبٍ جللٍ!.. فلم إيثارُ الأب يوسف عليهم أجمعين؟..

    وتودّدوا إليه: {قالوا: يا أبانا مالكَ لاتأْمَنّا على يوسُفَ وإنّا لهُ لناصحون. أرسِلهُ معَناَ غداً يرتّع ويلعبْ وإنّا لهُ لحافِظونَ}.

    ويشعُرُ يعقوبُ بما يشبِهُ الإنتفاضةَ تسري في أوصالِهِ، فترتعدُ فرقاً (أي: خوفاً) فهو، فعلاً، لايأمنهُم على يوسف، فجميعهم له حاسدون!..

    ويحاول الشّيخُ ألاّ يستجيبَ لطلبِ أبنائه هؤلاء، متذرّعاً بخوفه على يوسف من ذئب عاد، أو أفعى ناهشة، في هذه البرّيّة الموحشة، حيث يسرح أبناؤه بقطعانهم، من صبحٍ لمساءٍ!.. ويتظاهر إخوة يوسف بالحرص على أخيهم، فهو، بينهم، سويداءُ القلب، وسوادُ العين!.. ومن أين للأذى أن يعتريهُ؟..

    وأنّى للذّئب أن يصل إليه، وهم عصبةٌ أشّداءُ؟..

    ومازالوا بأبيهم يستميلونه، ويستعطفونه، حتّى أذن لهم.. فأخذوه معهم في صباح اليوم التّالي.

    وما أن ابتعدوا عن الحيِّ حتَّى وثبُوا على يوسُفَ: فهذا يَشُدُّه وثاقاً، وذلك يُمسِكُ بيديه، وذاكَ يُجَرِّدُه من قميصِهِ..

    وائتمروا به.. ماذا يفعلون؟..

    قال أحَدُهم: نَقتُله ونستريحُ..

    وقال آخرُ: بل نبيعُه لبعض التُّجَّارِ العابرينَ على أنّه عبدٌ رقيقٌ..

    وقال كبيرُهم يهوذا: من الحرام أن نقتُله، إذ لم يجترم جُرماً، ولم يقترف إثماً،.. بل نلقيه في غيابات جبٍّ قريبٍ، وليكُن بعد ذلك مايكون!..

    واستحسنوا رأيه!..

    فقادوا يوسف إلى جبٍّ قريبٍ، ألقوه فيه، ثمَّ قفلوا، بعد ذلك، راجعين..

    لقد انتهَوا من يوسُفَ، دونَ أن تتَلطَّخَ بدمِهِ يدٌ!..

    وعادُوا إلى أبيهم، مساءً، وهم يصفُقون كفاً بكفٍّ مُتباكينَ!.. ويَبتدِرُهُم أبوهُم يَعقُوبُ، وقد انخلعَ جِنانُه:

    - ويحَكُم!.. ما الأمرُ؟

    - {قالوا ياأبانا إنّا ذهبنا نستبقُ، وتركْنا يوسُفَ عند مَتاعِنا، فأكَلَهُ الذِّئبُ، وما أنتَ بِمُؤمِنٍ لَنا، ولَو كُنَّا صادقين}.

    ويَصفُقُ يعقوبُ كَفّاً بِكَفٍّ، أيضاً...

    - أحقّاً، ماتَدَّعونَ؟..

    - إي، وربِّ آبائِكَ الصَّالحينَ!..

    ويشعُرُ يعقوبُ، شُعوراً، يكاد يكونُ يقيناً، بتآمر أبنائه، على أخيهم يوسُفَ الوضئ القسمات، الأبلج، كيداً منهم وحسداً..

    ويطرح إخوة يوسف قميص أخيهم الممزَّقَ أمام أبيهم، وقد تلطَّخ بدمٍ كذبٍ.

    ويُشيحُ يعقوبُ بوجهه عن أولاده الماكرين، وإنّ قسماتهم لتنضح بالكذب المبين، ويتولّى عنهم، وقد اسوَدَّ وجهُه حُزناً على يوسُف، وأسَفاً!..

    { قال: بل سوَّلَت لكُم أنفُسُكم أمراً، فصبرٌ جميلٌ، والله المستعانُ على ماتصفون}.

    * يوسف في الجُبِّ:

    ويتطلّع الفتى الوسيمُ تحتَه، فإذا بماءٍ ساكنٍ، رقرَاقٍ... ويتأمّلُ فوقَه، فلايرى إلاّ غتمةً حالكةً..

    فتلُفُّهُ وحشةٌ خانقةٌ، وتطوفُ بخياله أفكارٌ سودٌ، فيرتعدُ..

    إنّه مظلوم، وقد ألقي به في جوف هذا الجُبِّ الحالك، الموحش دون ذنب، أو جريرةٍ..

    أمّا الظّالمون، فهم إخوتُه..

    فيا لسُخرية الأقدار!.. ويشعُر بالألم يعتصر قلبه الصغير، اعتصاراً!.. ثم يشعُر وكأنّ نوراً رقيقاً، لطيفاً، ينسابُ إلى دخيلةِ نفسه شيئاً فشيئاً.. فيُبدّدُ ما علق بها من وحشة مكفهِرّةٍ، ومايلُفّه من ظلمات.. وخيّل إليه، كنقرٍ في أذنيه، صوتٌ يهتفُ بهدوءٍ:

    - {لتُنَبِّئنَّهُمْ بأمرِهِم هذا، وهُم لايَشعرون}

    فيطمئن، كالمستبشر خيراً، وترتاح إلى ذلك نفسه ارتياحاً غريباً.. ويُسلم أمرهُ لله!...

    * خلاصُ يوسف:

    وبعد حين، يسمع يوسف، وهو في غيابة الجبِّ، أصواتاً اختلط بعضُها ببعض، فيُصعي إلى الأصوات التي تترامى إلى مسمعه، من بعيد..

    وإذا بها أصوات رجال، ووقع حوافر، وجلبة مسافرين.. إنّها قافلة، وقد حطّت عصا تُرحالها، قريباً من الجُبِّ..

    ويسمع فوقه صوتاً، فينظر.. وإذا بدلوٍ يتدلّى فوق رأسه، يمتاح (أي: يطلب) به صاحبُه ماءً!.. فيتعلّقُ يوسُفُ بالدَّلوِ المتدلّي.. وماهي إلاّ لحظاتٌ، حتّى كان يوسُفُ خارج الجُبِّ..

    وينظُر إليه صاحبُ الدَّلو، دَهشاً، فيصيح: {يابُشرى، هذا غلام!..}

    وأخذهُ معه في القافلة المتوجّهة في تجارة إلى مصر، خادماً، مملوكاً!.. وفي مصر، بيع الفتى بالثّمن البخس، والسّعر الزّهيد!..

    وكان الّذي اشتراه عزيزُ مصر، ورئيسُ شُرطتها "قوطيفار".

    وتوَسّم عزيزُ مصر في الفتى محتداً شريفاً، وأصلاً كريماً.. إنّ وجهه ليُنبئ عن أرومةٍ طيّبة العناصر، عريقة الأصول!.. وأوصى به زوجه خيراً، فيوسفُ ليس عبداً كبقيّة العبيد!..

    وأحسن يوسُفُ الخدمة في بيت سيّدِه، وأخلَصَ في ذلك... فهو بينَ أهليه حقّاً، فشتّان بينهم وبين الّذين خلّفهم وراءه في أرض كنعان!..

    * يوسف وامرأةُ العزيز:


    وشبَّ يوسفُ، الغُلامُ اليافع، في بيت سيّده، على نعمةٍ، وخضيل عيش... واشتدّت فتُوّتُه، وظهرت نجابتَهُ، وتفجّرت وسامتُه، فكأنّه - لحسنِه وجمالِه- لامن طينَةِ البشرِ، بل ملاكٌ كريمٌ ‍‍‍!..

    ولاحظت سيّدته فيه الشّباب الغضَّ المتألّق، فلا حقته بنظراتها،.. ثمّ أخذت تتراءى له، وتبتسمُ، وتمُدُّه بالغُنجِ والدَّلالِ!.

    ويُطرقُ يوسفُ أمام ذلك كلّه، بخفر العذراءِ الحييَّة.. فليسَ لهُ إلاّ الإخلاصَ العفَّ الأمينَ، في بيت سيّده الجديد، ومولاه!..

    ولكنّ سيّدة القصر مازالت تتقرَّبُ إلى يوسُفَ، فيُعرضُ عنها حيياًّ!.. فتزداد به تعلُّقاً، وله تعرُّضاً.. لقد شُغِفت به حُبّاً!..

    وتتعرَّضُ له متصابيةً، وقد برّحت بها لواعج الشوق، وعصف بها الغرامُ!..

    وتدنو منه، مراودةً أيّاه، فينفر، كالطّائر الفزع!. ويفرُّ أمامها،.. فتُلاحِقُهُ من غُرفةٍ، في القصر، إلى غرفةٍ، حتى الباب،.. وتشُدُّه من قميصِهِ فتشُقُّه!..

    وإذ بعزيز مصر، في الباب، وجهاً لوجهٍ، وقد فغرَ فاهُ مدهوشاً!..

    وقبلَ أن يستجمع العزيزُ شتات أفكاره، {قالت: ماجزاءُ من أرادَ بأهلِكَ سوءاً إلاّ أن يُسجَنَ أو عذابٌ أليمٌ}

    ولايُطيق يوسفُ، مكراً من سيّدته، وكذباً، {قال: هي راودَتني عن نفسي}

    ويظهر على عزيزي مصر الارتباك، فهو محتارٌ في أمره، لايدري مايفعل.. ويصل بعض أهل امرأة العزيز، فيُفاجأ، إذ الموقف فاضحٌ.. ينذرُ بعاصفةٍ وإعصارٍ!.. ويسكتُ الجميعُ، ويُطرقون، فمن يُحصحصُ صدقاً من كذبٍ، وحقاَّ من باطل؟..

    ويهديه رُشدُهُ إلى اقتراحٍ، يقودُ إلى الحقيقة النّاصعة:

    { إن كان قميصُه قُدَّ (أي: شُقَّ) من قُبُلٍ، فصدَقَتْ وهُوَ من الكاذبينَ. وإن كان قميصُهُ قُدَّ من دُبُرٍ، فكذَبَت وهُوَ من الصّادقينَ. فلمّا رأى قميصَهُ قُدّ من دُبُرٍ، قال: إنّهُ من كيدِكُنَّ، إنَّ كيدَكُنَّ عظيمٌ}.

    وكان عزيزُ مصر حكيماً في موقفه، فلملم الموقف، محاذراً تفجيره،.. فليس للقُصور أن تنبعث منها رائحة فضيحة!.. وليس لهذا الأمر أن يتكرّر أو أن يشيع.. فيلتفت إلى يوسفَ المطرق برأسه، فيواسيه:

    -{يوسف، أعرض عن هذا} لاعليك!... وانسَ ما حدث، وكأنّه لم يكُن!.. وينظرُ إلى زوجه، الّتي تكادُ تتهاوى من فرط حياءٍ وندمٍ وخجلٍ،.. فعليها أن تتُوبَ من فعلتها، وتندم على مابدر منها، ولاتعود لمثلها أبداً،..

    - أما أنت، فتوبي {واستغفري لذنبِكِ إنّكِ كنتِ منَ الخاطئين}

    * يوسفُ ونسوةُ المدينة:

    ولم يكن لحادثٍ كهذا أن يمر ببساطة وسهولةٍ ويُسر،.. فألسُنُ الناس لاترحم!..

    ووصل الخبر إلى إحدى سيّدات المدينة، فباحت به إلى إحدى صويحباتها،.. ومن ثم عمّ النبأ وشاع، فتناقلته السن سيدات المجتمع في كلّ محفلٍ ونادٍ!.. وسمعت زليخا بحديثهنَّ، فسُمعتُها أصبحت مضغةً في كلّ فمٍ!..

    فأرسلت إليهنّ، وقد هيّأت لهُنَّ مجلساً وثيراً،.. فلما حضرن استقبلتهُن بحفاوةٍ وجميل لقاء، وأكرَمتهُنّ، وقد استقر بهن المجلس وقدمت لهن من الفاكهة صحاف البرُتقال، {وآتت كلّ واحدةٍ منهنَّ سكّيناً}

    وكانت قبل ذلك، قد ألبست يوسُف فاخر اللّباس، وزيّنتهُ، فتألّق مشعشعاً!.. فلمّا انتظم عقد مجلسهنّ قالت: {اخرج عليهنّ. فلمّا رأينهُ أكبرنَهُ وقطّعنَ أيديهنَّ، وقُلن: حاشَ لله، ماهذا بشراً، إن هذا إلاّ ملكٌ كريمٌ}.

    وتعلّقت أنظار السيدات المجتمعات بهذا الفتى الأغرّ الوسيم، الوضئ المُحيّا، المشعِّ الطّلعة، فشهقن منبهرات.. وتمتمن:

    - ليس على الأرض كهذا الجمال اليوسفيِّ السّاحر الأخّاذ!..

    بينما كانت تسيلُ أيديهنَّ دماً، إذ قد حززن أسابعهُنَّ، دون أن يشعرن لمّا رأينه، وهنَّ، لدهشتهن، يحسبن أنّهن يحززن ماقدّم لهنَّ من برتقال!..

    وتلتفت سيدة القصر إلىالنسوة، وقد طاشت عقولهنّ، فهنّ بما رأين، منبهرات، مأخوذات وتقول لهنّ بلهجة عتاب" {فذلكنَّ الّذي لُمتُنَّني فيه}، فما قولُكُنَّ بعدما رأيتُنَّ؟..

    ويُجبنَ: لقد رأينا من الجمال مالا يوصفُ، ومن الحسن مالايُدركُ، ممّا تحارُ به الأفهام وتطيش به الألبابُ، وتنخلعُ له القلوبُ،..

    وبالتالي، فلآلوم على سيدة مصر أن يتعلّق قلبُها بهذا الجمال الملائكيِّ المدهش.. وليس السّماع كالمعاينة!..

    وتتابع زليخا، بجُرأة السّيِّدة الخطيرة الشأن، تبوح بدخيلة فؤادها، إلى من هُنّ دونها من سيّدات مجتمع مصر، دون حرج. فليس بين امرأتين سرٌ مكتومٌ..:

    {وبقد راودتهُ عن نفسه فاستعصمَ، ولئن لم يفعل ما آمُرُهُ ليُسجننَّ وليكوناً من الصّاغرين}.

    فأقبلت السَّيِّداتُ على يوسُف لائماتٍ، عاذلاتٍ،..

    - يوسفُ، وأنت في ريعان الشّباب، وميعة الفتوّة، هلاّ رقَّ قلبُكَ لسيدتك الهائمة بك، فعطفت عليها بلفتة غرام تطفئُ ماتُعاني من الهوى المُمِضِّ، والوجد الملتهب؟.

    وتناولته كلّ واحدةٍ منهنّ بالقول الخلوب، والاستعطاف الرقيق. والدَّلّ المغناج.. فأشاح بوجهه عنهُنَّ، يأبى الخيانة، وسُبُل الغواية والضّلال!..

    ودعا ربّه أن يصرف عنه كيدهُن، فالسّجن أحبُّ إليه من دعوات الفُجور، وإلاّ فليس لهُ إلاّ أن يصبو إليهنَّ، وإن على كُرهٍ منه، بعد طويل تمنُّعٍ وإباءٍ!..

    {فاستجاب له ربُّهُ فصرفَ عنهُ كيدَهُنَّ إنّهُ هو السّميعُ العليمُ}.

    وأدخل يوسُفُ، بعد ذلك، السجن، بوشايةٍ ملفّقةٍ، واتّهامٍ كاذبٍ، حيثُ استقرَّ به المقامُ هناك، بضع سنين، وقد انقطعت أخبارُه عن العالمين!..

    * يوسف في السجن:

    ووجد يوسفُ في سجنه بعض متّسع من الوقت ليُبثَّ أفكاره بين هؤلاء السيئي الطّالع الذين تصمُّهم عتمةُ السجن فما من إلهٍ إلاّ الله الواحد القهارُ!..

    فلا"رَعْ" -اي الشمسُ- بإلهٍ، ولا"إبيس"- أي العجلُ- بإلهٍ أيضاً،..

    ولاهذه الأصنامُ جميعاً بألهةٍ. إنّها حجر منحوتٌ!.. فالله وحدهُ، خالقُ السموات وما فيهن، والأرضين، وما عليهن. وهو ربَّ العالمين!.. بذلك بشّر إبراهيمُ من قبلُ، وإليه دعا من بعده، جدُّ يوسفَ، إسحقُ، وأبوه يعقوبُ!..

    {ودخل معه السجن فتيان} فأصغيا إلى دعوته، فوجداها حقاًّ.. إنّهما ساقي الملك، وخازن طعامه، سيقا الى السجن ليُحاكما بعد ذلك..

    ووجد الفتيان في يوسف رجاحة عقل وشرف نفسٍ وعلوَّ همّةٍ، لم يجداها في غيره.. فأتياه يوماً ليُنبّئهُما بتأويل حلم رأياه:

    قال الأول: لقد رايت فيما يرى النائم إني أقدّم للعزيز خمراً..

    وقال الثاني: بينما رأيتُ أنا، أنِّي أحملُ على رأسي خبزاً، فتأتي الطيرُ، وتأكُلُ منه.

    ويجد يوسفُ في المناسبة فرصة سانحة ليُبشّر بدينه، ودين آبائه: يعقوب وإسحق وإبراهيم.. فهو الدّين الحقُّ القيم {ولكنّ أكثر الناسِ لايعلمون}

    ثم يلتفت إلى الأول منهما، قائلاً: لاأخالك إلاّ ناجياً، عمّا قريب، وستعود إلى بلاط الملك، ساقياًله، ونديماً، تقدّم له كؤوس الخمر. فإن كان ذلك، ولابدَّ من أنّه سيكون، فاذكرني عند سيّدك الملك".

    ثم التفت الى الثاني، أما أنت، فستُصلبُ بعد خروجك من السّجن..

    ويبتسم الثاني، وكأنه كان غير صادق في ما زعم من رؤيا، ويحاول الاعتراض فيرفع يوسف كلتا يديه بوجههما، قائلاً لهما: هذا أمرُ الله وقضاؤه فيكما، فقد {قُضي الأمرُ الذي فيه تستفتيان!..}.

    ويكون مانبّأهُما به يوسف:

    إذ سرعان مايستدعى الرجلان، فيخرجان من السجن، ويمثلان أمام القضاء، فتبرّأُ ساحة الأول، فيعود ساقياً للملك، ونديماً.. وتثبت على الثاني التُّهمة، فيُقتل صلباً..

    وتمرُّ، بعد ذلك على يوسف في سجنه بضعُ سنين، وقد عانى فيها ما لايعلمُهُ إلا الله!..

    * رؤيا عزيز مصر:

    وخرج العزيزُ، صباح يومٍ، على العلماء المحتشدين في بلاطه، وقد تغيّر وجههُ، وكأنّ غمامةً من كآبةٍ تطوف على جبينه، لاتفارقُهُ.. فماذا تخبِّئُ لهُ الأقدار؟

    ويسأله أحدهم، وقد بدا عليه اهتمامٌ:

    - ماالأمرُ يامولايَ؟

    - رؤيا، رأيتها البارحة، لاتزال ماثلة في وجداني.. ونصب عينيَّ، أبداً!..

    - هاتها!.. وفينا كلُّ مفسِّرٍ، عليمٍ!..

    _ {إني أرى سبع بقراتٍ سمانٍ، يأكُلهنَّ سبعٌ عجافٌ (ج.عجفاء: أي هزيلة) وسبعَ سُنبلاتٍ خضرٍ، وأُخرَ يابساتٍ، ياأيُّها الملأُ أفتُوني في رؤيايَ إن كنتُم للرُّؤيا تعبُرون}

    ويطرق الكهنةُ في المجلس، والعلماءُ.. ولايجدون لرُؤيا الملك تأويلاً.. ويستغرقون في التفكير، ولايهتدون، إنّهم أمام طلّسم مستغلقٍ!.. وظهر عليهمُ العجزُ وبان الارتباكُ..

    - {قالوا: أضغاثُ أحلامٍ وما نحنُ بتأويل الأحلامِ بعالمين}

    وكان ساقي الملك يستمع إلى ذلك كلّه، فذكر رؤياه عندما كان سجيناً، وصاحبه، وذكر تأويل يوسُف للرُّؤيا. وطلب يوسف إليه أن يذكُرَهُ أمام عزيز مصر.. وها هي ذي المناسبةُ، فيصيحُ:

    - سيّدي، سيّدي، في السّجن فتىً اسمُهُ يوسُفُ، عليمُ بتفسي الأحلام، وتأويل الرُّؤى، فلو شئت استدعيته، فتقعُ فيه على الخبير!..

    ويأمره الملكُ: هيّا!.. اعرض عليه رؤياي، وهلُمّ إليَّ بما يقول!..

    ويسرعُ ساقي الملك إلى السجن، ومعه بضعةُ رجال من الشُّرطة،.. فيدخلون على يوسف ويسلّم عليه ساقي الملك، ويعتذر إليه، فقد أنساه الشيطان أن يذكره أمام الملك وها هو ذا بابُ الفرج ينفتح على يوسف، فبعد اللّيل، فجرٌ وشمسٌ وضياءٌ!..

    ثم يستمع يوسف، بعد ذلك، إلى رؤيا الملك، مليّاً ويقولُ للرسول، بلهجة الواثق، المطمئنِّ،: هاك تأويلها!..:

    - تستقبلون سبع سنين فيها لين عيشٍ ورخاءٌ، وازدهار وعطاءٌ.. تتلوهنَّ سبعُ سنين - على نقيض سالفاتها- كوالحُ، شدادٌ، فيها ينقُصُ ماءُ النِّيل، وينحسرُ خيرُه، فلا يعودُ إلى سابق عطائه،.. وينقطعُ الغيثُ، فلا تغُلُّ الأرضُ، وتصابون بالدّواهي وعظائم الأمور، فيعُمُّ قحطٌ وجدبٌ، وتبتلون بشظف عيش وقسوة حياة.

    وبعد ذلك، تقبل الأيام عليكم بوجهها من جديدٍ، بعد إدبارٍ، فيخصبُ وادي النّيل، ويُمرعُ، ويعُمَّ الخير أرض مصر كلّها..

    وتغاثون حنطةً وشعيراً فتأكلون، وسمسماً وزيتوناً، وعنباً، فتعصرون!.. فإن كان ذلك- وهو كائنٌ لامحالة- فذروا ما حصدتم في سنبله، ودعوه في أهرائكم باستثناء ماأنتم بحاجة إلى أكله، حتى يقضي الله أمراً كان مقضياً!..

    ويعودُ الرّسول إلى قصر الملك، يهرولُ، مُسرعاً..

    إن تفسير الرؤيا أعجبُ من الرؤيا ذاتها، وأغربُ!..

    ويُنبِّئُ الملك، أمام العلماء المحتشدين في بلاط القصر، تفسير الرؤيا التي رآها.. فينبهرون جميعاً..

    ويقول قائلهم: إن هذا لذو علمٍ عليمٌ.

    ويقول آخرُ: بل، إنّ هذا من وحي السّماء!..

    ويلتفت الملك إلى ساقيه، مُنتهراً إياه: ماذا تنتظرُ؟.. هيَّا!.. عليّ بيوسف سريعاً!..

    ويُسرعُ ساقي الملك إلى يوسف، يزُفُّ إليه بُشرى اطلاق سراحه، داعياً إياه لمقابلة الملك.

    ويقابل يوسف ذلك ببرودة أعصاب، فيُبهتُ الرَّسولُ!..

    إنّ يوسُفَ يأبى أن يغادر السّجن دون إثبات براءته، ولو بعد حينٍ. فيقول للرّسول: -{ارجع إلى ربّك(بمعنى الملِك) فاسألْه ما بالُ النِّسوة اللاّتي قطّعن أيديهن، إنّ ربي ركيدهنّ عليمٌ}.

    ويدعو عزيزُ مصر النّسوة، وفي طليعتهنّ زوجه زليخا، فلا يشهدن ليوسف إلا بكل مكرمة وخلقٍ رفيع..

    وتجد السيدة زليخا الفرصة مؤاتية لتزيح عن نفسها همّاً طالما أقلق مضجعها، وأقضّه.. فتصرّح على رؤوس الأشهاد بأنّها هي التي راودته عن نفسه، فاستعصم وأبى!.. والكلُّ يعلم ذلك.. فلم مجانبة الحقيقة والقول الصّواب؟..

    فما كان من عزيز مصر بعد ظهور الحقيقة ببراءة يوسف، إلاّ أن دعا يوسف إليه يستخلصهُ لنفسه رجلاً قوياً، بعد ما كان استخلصهُ لنفسه غلاماً فتياًّ!..

    ويسلِّمه خزائن مصر، وهو الخبير العليم، يُشرف عليها، متصرّفاً في أمورها كما يرى.. إن يوسف وزير مال واقتصاد من طراز نادر، رفيع!.. وهو الجدير بأن تسلّم إليه مقاليد الأمور، وتُناط به المهمّاتُ، في حوالك الأيام!.. وينهض يوسف بالهمهمة الموكلة إليه، خيرُ نهوض.. فقد قرعت المجاعة أبواب الناس قاطبةً، وهجم عليهم الجوع فعضَّهم بأنيابٍ حِدادٍ!.. وتلاقي خُطَّتُه في خزن القمح والمؤن، وتوزيعها على الناس كلّهم، بالعدل والقسطاس، نجاحاً عظيماً!.. فهي التي خلَّصت شعب مصر من براثن مجاعة، وخطوبٍ عِظامٍ!..

    * يوسف وإخوته:

    وكما في مصر جدبٌ وقحطٌ، عامّان، كذلك في أعالي الجليل، حيث اجتاح الجفاف أرض كنعان، وضربها قحط أسود، كالحٌ!..

    وتهيّأ إخوة يوسف ليمتاروا (أي: يجلبوا) حنطةً من مصر، حيث يقوم على ذلك ملكٌ حدت باسمه الرُّكبانُ!..

    وساروا بقافلتهم متوجهين إلى أرض النيل، حتى وصلوا إلى مصر،.. ودخلوا على العزيز، فعرفهم واحداً واحداً، وهم له منكرون.

    وتقرب إليهم عزيزُ مصر، مستفسراً عن أحوالهم، وعن الجهة التي أتوا منها. فعرَّفوه بأنفسهم: فهم أبناءُ نبيِّ الله يعقوب إبن إسحق بن إبراهيم.. كان لهم أخٌ من أبيهم، أكلهُ الذِّئب في الفلاة، وبقي شقيقُهُ الصغير، واسمُهُ بنيامين، في عهدة أبيه..

    ورحَّب بهم العزيز، ووعدهم بجزيل الإحسان.. وتظاهر أنه يريد التثبُّت من صحَّة دهواهُم، فطلب إليهم أن يأتوه بأخيهم الصَّغير، هذا..

    ووجد إخوةُ يوسف في ذلك صعوبةً..

    فليس من السَّهل أن يتنازل عنه أبوه، وذكرى يوسف، لاتزال تفعل في نفسه رغم ماانقضى عليها من دهرٍ طويلٍ..

    ولكنّ عزيز مصر أصرَّ على طلبه. فتلبيةُ طلبهم من الحنطة مشروطةٌ بإحضار أخيهم بنيامين، فانصاعوا لأمره، مكرَهين!...

    وأمدَّهم يوسف بكيل بعيرٍ من الحنطة، وردَّ إليهم ما دفعوه من مالٍ، جعلَهُ في رحالهم، تشجيعاً لهم على العودة، وإحساناً!..

    وقفلوا راجعين!..

    وعرضوا على أبيهم ما طلبه عزيزُ مصر، هذا الأريحيُّ الكريمُ، وما اشترطهُ عليهم من إحضار أخيهم بنيامين.

    فاستعبر يعقوب باكياً، وتأوَّه كالملدوغ: {وا أسفى على يوسُفَ!..}

    وبكى أبناؤه وهم يرون أباهم الشيخ قد ابيضَّت عيناه حُزناً على يوسف، وكمداً، وأسفاظص، وفارقت ثغره الإبتسامةُ، فهو في حزنٍ مقيمٍ!..

    وأحاط الإخوة بأبيهم، فلم لايأمنهم على أخيهم بنيامين؟.. انهم عشرة حوله يُفدُّونه بالمهج والأرواح. فقال لهم يعقوب: {هل آمنكُمُ عليه إلاّ كما أمنتكُم على أخيه من قبلُ. فاللهُ خيرٌ حافظاً وهو أرحمُ الرّاحمين}.

    فأطرقوا خجلاً، ولم ينبسوا ببنت شفةٍ، إنّ أباهم ليقول حقاً!..

    وبعد لأي (أي: جهد) سمح يعقوب لأولاده باصطحاب أخيهم بنيامين إلى عزيز مصر فهبُّوا إلى رحالهم، فرحين..

    واستوقفهم أبوهم: - "مهلاً!.. ولكن شرط أن تحافظوا عليه محافظتمك على أنفسكم، أو أشدّ، ولاتفرِّطا به أبداً" وأخذ عليهم بذلك ميثاقاً غليظاً!.

    ثم نصحهُم بألاّ يدخلوا المدينة من باب واحد، فهم عشرةُ رهطٍ، يضافُ إليهم أخوهم بنيامين. يؤلّفون قافلة كاملة، فمن الممكن أن يجتاحهم أذىً، أو أن تُصيبهم عينٌ بسوء!..وسارت القافلةُ على اسم الله، يُحيط بها دعاءُ يعقوبَ، وتكلأُها عين الله!..

    *يوسف وبنيامين:

    ها هي ذي القافلة تحطُّ في أرض مصر الرّحال .ويتوجَّهُ أبناء يعقوب العشرة بأخيهم بنيامني إلى عزيز مصر، فما كانوا في حديثهم السّابق، معهُ، الاّ صادقين!..

    ويستقبلهم العزيز ببشاشة وجه طلقٍ، وترحابٍ نديٍّ!..

    ويحين موعدُ الطّعام، فيجلسُ كلٌّ إلى أخٍ له، يشاطرُهُ الغداء.. ويومئ العزيز إلى بنيامينَ، فيأخذُه من يده، ويتغدّيان معاً.. ويرمُقُ أبناء يعقوب أخاهم بنيامين، وهو يؤاكلُ الملك، بطرفٍ حسودٍ!.

    وفي غفلة عن أعيُنهم يهمسُ يوسفُ في أذن بنيامين:

    {إني أنا أخوك فلا تبتئس بما كانوا يعملون}

    ويوصيه بألاّ يبوح هذا السرِّ أمام إخوتِه، أبداً!..

    ولمّا جهّزهم الملكُ بجهازهم، موفياً لهم الكيل، أمر بوضع صواع الملك (الصواع، أو الصاع: مكيال نصف مد) في رحل أخيه بنيامين.

    وما أن ابتعدت القافلة قليلاً، حتى استوقفها صارخٌ:

    - على رسلكم!.. تريَّثوا قليلاً!..

    - ماالأمرُ، أيّها الحرسيُّ؟.

    - لقد فقدنا صواعَ الملك، وهو كما تعلمون، من الذّهب الخالص. إنني كفيلٌ لمن يجئُ به، بكيل بعيرٍ من الحنطة، وما هذا الكيلُ بيسير!..

    - والله ما كنا لنخون، وماكنّا لنسرقُ، ولالنعيثُ في الأرض فساداً، نحن، ياهذا، أبناءُ نبيٍّ ابن نبيٍّ، فاتّق الله في أمرنا!..

    - مادمتم لتقولون ذلك، فهيّا إلى العزيز، ليرى رأيه في ماتقولون!..

    ويعود أبناء يعقوب إلى عزيز مصر...

    - مالخطبُ أيّها العزيز؟

    - إننا نفقد الصُّواع الذهبيَّ الذي نكيلُ به الحنطة للنّاس، فلعلَّ أحدكُم سرقه!.

    - سرقه؟.. أترى في وجوهنا سيماء لُصوصٍ، وسُرّاقٍ؟..

    - لعلّه يكون في أحد أحمال هذه الحنطة التي على الإبل، فهيّا، وأنزلوا ماعليها من أحمالٍ!..

    ويُسرع أبناء يعقوب ينيخون الجمال، وينزلون ما عليها من أحمال حنطةٍ، وهم يقولون: والله ماكنّا سارقين!..

    ويقول لهم العزيزُ، وهم يفُكُّون أربطة رحالهم:

    - ماجزاءُ من سرقه إن تبيَّن أنه في رحال أحدكُم؟..

    فيجيبون: كما يقضي بذلك، عندكُم القانون.

    -يتحمَّلُ وحده العقاب دون الآخرين.

    - وهو كذلك!..

    ويتقدم العزيز فيتحسَّسُ أحمال إخوته العشرة، وهم يبتسمون،.. فلا يجد شيئاً..

    ثم يمدُّ يمينه إلى حمل بنيامين فيستخرج الصُّواع منه،.. ويرفعُه في وجوههِم!..

    وتعقُلُ الدَّهشة ألسنةَ أبناء يعقوبَ، ويسطع الغضبُ من عيونهم، فتظهرُ وجوههم حمراء دكناء!.. فمتى كان هذا الحمل الوديع لصّاً خطيراً؟..

    {قالوا: إن يسرق فقد سرق أخٌ له من قبلُ}

    فيرمقهم عزيز مصر بنظرة كالصّاعقة؛ فما زال هؤلاء الرّجالُ على ضلالهم القديم!.. ويجيلُ نظراته في هؤلاء العشرة من الرجال، وقد اعتراهم خزيٌ كاسحٌ،

    { قال: أنتم شرٌّ مكاناً والله أعلمُ بما تصفون}

    وأمر عزيزُ مصرَ ببنيامينَ فأوقِفَ جانباً..

    ولمّا رأى أخوتُه ذلك، ذكروا أباهم، والمواثيق الّتي أخذها عليهم، والعهود.. إنّه لآمرٌ، جدُّ فظيعٌ!..

    ووقفوا أمام عزيز مصر مستعطفين...

    {قالوا: ياأيّها العزيزُ إنّ له أباً شيخاً كبيراً، فخُذ أحدنا مكانه إنّا نراك من المحسنين. قال: معاذ الله أن نأخُذ إلاّ من وجدنا متاعنا عنده إنّا إذاً لظالمون}

    فأطرقوا!.. إنّ العزيز ليقول حقّاً ويحكمُ عدلاً!..

    يهمُّون بالإنصراف، وقد اكتسحهُم همٌّ ثقيلٌ، فبأيِّ وجهٍ سيُلاقون أباهم، وقد أخذ عليهم موثقاً من الله، غليظاً، وعاهدوه، فما قُدِّرَ لهم الوفاء؟

    ويضرب كبيرُهُم الأرض بقدمه، قائلاً لإخوته:

    - ويحكُم!.. أنسيتُم عهدكُم لأبيكم. بئس ماتعودون به إليه،.. أمّا أنا، {فلن أبرح الأرض حتّى يأذن لي أبي، أو يحكُم الله لي وهو خيرُ الحاكمين}.

    وعاد أبناء يعقوب إلى أبيهم، مطرقي الرؤوس، منكّسي الهامات، كأنّهم وراء جنازةٍ يسيرون.. ويخبرنه بالحدث، فيضربُ يعقوبُ رأسه بكلتا يديه!..

    بالأمس فرّطوا بيوسف، واليوم ببنيامين،..

    وأجهش الشيخ منتحباً.. ورماهم بغليظ القول، أشدّ من السّياط لسعاً، واتَّهمهم بالتَّفريط والتّقصير، سوؤ النيّة، والتّقدير!..

    ولكنّ الشّيخ الكبير لايزالُ على عظيم ثقة ببقاء يوسف جيّاً يُرزق، وبأن بنيامين سيعود إليه يوماً!..

    ولكن: أين يكونُ الأول؟... ومتى يعودُ الثاني؟..

    وغالبهُ حزنٌ وقهرٌ قغلباه. فاستسلم لمشيئة الله، وكأنّ قبله تقطّعهُ المدى!.. وقال لأبنائه: {يابنيَّ اذهبوا فتحسسّوا من يوسفَ وأخيه ولاتيأسوا من روح الله إنّه لاييأسُ من روح الله إلاّ القوم الكافرون}.

    خاصةً، وأنّ القحط والجفاف عادا يضربان أرض شماليِّ الجليل، فالسّنواتُ عجافٌ، شدادٌ، مهازيلُ.
    * المفاجأة:

    ويذكرُ أبناء يعقوب عزيز مصر، وعدله، وكرم يده، وشمائله الحسان، وأخاهُم لديه.. فيجمعون مابحوزتهم من مالٍ يسيرٍن ويتوجَهون به إلى بلاد العزيز..

    ويدخلون عليه قائلين:

    ياأيُّها العزيزُ، لقد ابتُلينا بأمورٍ عظامٍ، وخُطوبٍ جسامٍ إذ شحّت السّماءُ، وأجدبت الغبراءُ، فأصابت أهلينا البأساءُ والضّرّاء، وجئناك بما أبقت عليه الأيام النّكداءُ، والخطوب النّكراءُ، وهو مالٌ جدُّ يسيرٌ، وقليلٌ حقيرٌ، {فأوف لنا الكيل وتصدّق علينا إنّ الله يجري المتصدّقين}

    { قال: هل علمتُم مافعلتُم بيوسُفَ وأخيه إذ أنمت جاهلون}.

    ويستعيدون في أذهانهم صورة أخيهم يوسف، كفلقة القمر اشراقاً ولألاءً، إنّه، وربِّ ابراهيمَ- لهو!.. وقد القت النعماء عليه مسحةً من مزيد بهاءٍ وإشراقٍ..

    فيا للمُفاجأة الصّاعقة!..

    ويصرخُ بعضُ إخوته، وقد داهمتهُم المُفاجأةُ فأخرجتهُم عن طورهم، وتأدُّبهم أمام عزيز مصر، {قالوا: أإنّك لأنت يوسُفُ!}

    ويجيبهم بكل هدوءٍ: {قال: أنا يوسفُ وهذا أخي قدْ منَّ الله علينا، إنّه من يتّق ويصبِر فإنَّ الله لايُضيعَ أجرَ المحسنين}.

    فاعترفوا بخطيئتهم، وقد تطأطأت منهم الرُّؤوسُ، فلا يستطيعون النّظر إلى وجه إخيهم خجلاً من فعلتهم الشَّنعاء...

    واستأذنُوه أن يعودوا إلى أبيهم بالبُشرى، فإذن لهم.. وجهّزهم بما ناءت به العيرُ، وبقميصٍ له، طلب إليهم أن يلقُوه على وجه أبيهم حينَ يصلون!..

    وقفلت العيرُ، وئيدةً، بطيئةً، بما عليها من أحمالٍ ثقالٍ، وقد توجّه بها أبناء يعقوب إلى بلادهم في شماليِّ الجليل، وقد علا صوتُ الحادي، فأخذت العيرُ تجدُّ في المسير!..

    وأخيراً،.. وصلت العير إلى مواطنها، وأشرف أبناءُ يعقوب على أبيهم، وقد حمل البشيرُ قميص يوسف، وأخذ يعدو نحو أبيه..

    فصاح يعقوبُ: {إني لأجِدُ ريحَ يوسُفَ}

    وطُرِحً قميصُ يوسفَ على وجه يعقوب المتغضِّن، الّذي لايبين منه إلاّ لحيةٌ كثّةٌ، مرسلةٌ على سجيّتها، تعلوها عينان غائرتان، غاض فيهما النّورُ، .. فارتدَّ بصيراً!... وسجد لله شكراً؟، وقد ردَّ إليه يوسفَ بعد طولِ غيابٍ..

    فيا للبُشرى التي لايُحيطُ بها وصفٌ، وكأنّها لغرابتها، من عالم الخيال!..

    وبعد عدَّة أيام تهيَّأ يعقوبُ، وأهلُ بيته جميعاً، للتوجُّهِ إلى مصر حيث العزيزُ، العزيزُ!..

    وشهدت أرضُ كنعان قافلةً تحملُ خليطاً من رجالٍ ونسوةٍ، وصبيةٍ صغارٍ، وبعض مالٍ، ومتاعٍ،.. وفي مقدّمتها شيخٌ مهيبٌ وقورٌ، يحث راحلته إلى أرض الكنانة!.
    * رواية:

    ورد في إحدى الرّوايات، أنّ بعض أملاك السّماء استأذنوا الله أن يشهدوا لحظة لقاء يوسُفَ بأبيه يعقوبَ، فأُذن لهم، إنّها من اللّحظات النّادرة في التاريخ!..

    وشاهدت الملائكةُ في هذا اللِّقاءِ عجباً:

    الشيخ يفتحُ ذراعيه، صائحاً، ساعة شاهد إبنه، ويعدو نحوه، وكأنّه يطير.. وكذلك فعل يوسُفُ!..

    ويصل كلٌّ منهما إلى صاحِبه..

    ويرتمي كلٌّ منهما في حِضن الآخر..

    ويتعانقان.. حتى يكادَ جسداهما يلتصف الواحدُ منهما بالآخر!.. وقد تحدّرت منهما دموع الفرح بسخاء، فتقطّرت على الأرض، غزاراً..

    كما شهد هذا اللّقاء خلقٌ من المصريين، اصطفُّوا مرحّبين، وقد اغرورقت عيونهم بالدّموع..

    وآوى يوسف أبويه وإخوته إليه في القصر، وقد أحاطوا به..

    وانتظم عقدُ لقاء يوسُف بأبويه وإخوته أجمعين، وقد خرّوا له سُجّداً..

    فالتفت يوسفُ إلى أبيه قائلاً: {ياأبت هذا تأويل رؤيايَ من قبلُ قد جعلها ربّي حقاًّ}

    ويهزُّ الشيخ برأسه، وقد طفرت من عينه دمعةٌ حرَّى..

    ويُردِفُ يوسف، قائلاً، بصوتٍ متهدِّج، وقد رفع كلتا يديه إلى السَّماء:

    -{ربّ قد آتيتني من المُلك، وعلّمتني من تأويل الأحاديث، فاطر السّموات والأرض، أنتَ وليِّي في الدُّنيا والآخروة، توفّني مسلماً وألحقني بالصّالحين}.
    * نهاية المطاف:

    كان موكبُ يوسُفَ يشقُّ المدينة، وحوله جندٌ وحرسٌ، وحشمٌ وخدمٌ.. وقد تجمهر الناسُ على جانبي الطريق ليحظوا بمشاهدة عزيز مصر، ومليكهم العادل المحبوب...

    وكانت عجوزٌ شمطاءُ قد اقتعدت إحدى زوايا الطّريق، والنّاسُ حولها في هرجٍ ومرجٍ ووصخبٍ وضوضاء... فعزيزُ مصر، يشقُّ موكبُه الجماهير المحتشدة بعناءٍ، وقد تدافعت نحوهُ هاتفةً باسمِه، فهو بين مسلِّم عليه، ومسفِّق لهُ، وملوّحٍ من بعيدٍ..

    وينعطف الموكبُ الملكيُّ بالقرب من العجوز، فتدعو بصوتٍ عالٍ كالهُتاف:

    - سبحان من صيَّرَ العبيدَ ملوكاً بطاعته، والملوك عبيداً بمعصيتِهِ!..

    ويصلُ الصَّوتُ إلى مسامع العزيز، فيأمر الموكبَ بالتوقُّفِ، ويسألُ عن صاحبة الهُتاف، .. فيؤتى بالعجوز إليه..

    ويسألها عزيزُ مصر عن سبَبِ هُتافها، وعن اسمِها، وعن حاجتها...

    ويقشعرُّ بدنُ العزيز، وقد عرف العجوز الّتي ذهبت بنضارتها السُّنون...

    إنّها زليخا!.. وقد قلب لها الدَّهر ظهرَ المجنِّ!..

    وكم لها في قلبه من ذكريات لاتزولُ، وكأنّها محفورةٌ على صخر أصمَّ... وكم لها في ماضية من تاريخٍ حافلٍ، ومزدحمٍ بالأحداث!...

    ويطحبُها معه في الموكب الملكيِّ... ويُدخلُها القصر متوكِّئةً على عصاها، وقد احدودب ظهرها، واضمحلّت قواها..

    ويراها يوسف كذلك، فتطفحُ عيناهُ بالدّمع.. فيدعو الله أن يُعيدَ إليها نضارةَ الصِّبا، وريعان الشَّباب، كما كانت أيّام تركُضُ خلفهُ في القصر وتُغلِّقُ الأبوابَ...

    تقولُ الرواية: إن الله يستجيبُ لنبيِّه دعوتَه.. فإذا بزليخا تعودُ كما كانت أيّام زمان، تتألّقُ نضارةً، وتتفجَّر عنفُوانَ شبابٍ.

    وينظرُ إليها يوسُفُ وقد عادت تميسً تيهاً، ودلالاً... ويطلبُ يدها للزواج فتقبلُ...

    ويُسدَلُ السِّتار على زواج يوسف من زليخا، كما شاء الله لهما ذلك.. فهما سعيدان!.. وعلى عودة أهله إليه جميعاً فهم في النّعيم يتقلّبون!...

    ويرى الناسُ ذلك، ويسمع به آخرون، فيعجبون عجباً شديداً.. فهم لايكادون يصدِّقون، فالقصَّة تكاد تدخُلُ في باب الأساطير!..

    ولكنّها من أنباء الغيب، ووحي السماء..

    {وما أكثرُ النّاس -ولو حرصت- بمؤمنين!...}

    (صدق الله العلي العظيم)
    _________________
    اختكم ملااااك
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

  8. #8

    ملااااك الروح's Avatar
    Join Date
    Apr 2006
    Posts
    115
    Rep Power
    223

    قصص الانبياء )يوسف عليه السلام(

    النبي يوسف عليه السلام

    رؤيا يوسف:

    استفاق يوسف ذات صباحٍ متهلّل الوجه، منبسطَ الأسارير، تطفو على قسمات وجهه المشعِّ غبطةٌ وسعادةٌ..

    وشاهد أبوه يعقوبُ في فتاهُ الوسيم، ذلكَ، فسُرَّ بدوره، وطابت نفسُهُ، وانشرح صدرُه فيوسُفُ أحبُّ أبنائهِ إليه، وأقربهم إلى نفسه وقلبه، وآثرهم لديه منزلةً ومكاناً!..

    وتناول يوسف يد أبيه وهو يَهمُّ بالجلوس إلى جانب هذا الشيخ الصّالح، كي يُفضي إليه بالسِّرِّ الَّذي أشاعَ في نفسه كلّ هذا الرِّضا والسُّرور، قائلاً لَهُ: {يا أبت إني رأيتُ أحدَ عشَرَ كوكباً والشَّمسَ والقمرَ رأيتُهم لي ساجدين}.

    ويلتفتُ يعقوبُ، منتفِضاً، إلى هذا الفتى الأغرِّ، كالأملود الريّان طراوةً، والّذي يسطعُ جبينُهُ بنورٍ سماويٍّ ساحرٍ، أخّاذٍ، وتلتمعُ على وجنتيه إشراقَةُ لألاءٍ، ويشيع منهما ألقُ ضياءٍ.. فيضمُّه إلى صدرِهِ، ويُقبِّلُهُ بعطفٍ وحنانٍ، ويُلقى في روعه بأن الله تعالى أخذَ يُعدُّ هذا الفتى الوسيم، البهيَّ الطَّلعةِ، لجلائل الأمور!..

    وبنبرةٍ تنضحُ إشفاقاً يطلبُ الشيخُ الوقورُ من ابنه الفتى ألاّ يقص هذه الرؤيا الصالحة على إخوته الأحد عشر، فقد يؤدي ذلك إلى حسد منهم، وكيد.. خاصة، وأنّ يعقوب يعلم حقّ العلم تبرُّم إخوة يوسف من أبيهم الذي يؤثر عليهم أخاهم يوسف إيثاراً شديداً. فلهُ في نفسه، من دونهم، ماليس لهم جميعاً!..

    وينصرف الفتى يوسف، وبنفسه تطوف آمال عذاب، وأحلام رطاب!...

    * المؤامرة:

    وذات مساء يحيط بيعقوب أبناؤه. وقد أجمعوا على أمرٍ، وانطوت جوانحهم التي تأكّلها الحسد، على خطبٍ جللٍ!.. فلم إيثارُ الأب يوسف عليهم أجمعين؟..

    وتودّدوا إليه: {قالوا: يا أبانا مالكَ لاتأْمَنّا على يوسُفَ وإنّا لهُ لناصحون. أرسِلهُ معَناَ غداً يرتّع ويلعبْ وإنّا لهُ لحافِظونَ}.

    ويشعُرُ يعقوبُ بما يشبِهُ الإنتفاضةَ تسري في أوصالِهِ، فترتعدُ فرقاً (أي: خوفاً) فهو، فعلاً، لايأمنهُم على يوسف، فجميعهم له حاسدون!..

    ويحاول الشّيخُ ألاّ يستجيبَ لطلبِ أبنائه هؤلاء، متذرّعاً بخوفه على يوسف من ذئب عاد، أو أفعى ناهشة، في هذه البرّيّة الموحشة، حيث يسرح أبناؤه بقطعانهم، من صبحٍ لمساءٍ!.. ويتظاهر إخوة يوسف بالحرص على أخيهم، فهو، بينهم، سويداءُ القلب، وسوادُ العين!.. ومن أين للأذى أن يعتريهُ؟..

    وأنّى للذّئب أن يصل إليه، وهم عصبةٌ أشّداءُ؟..

    ومازالوا بأبيهم يستميلونه، ويستعطفونه، حتّى أذن لهم.. فأخذوه معهم في صباح اليوم التّالي.

    وما أن ابتعدوا عن الحيِّ حتَّى وثبُوا على يوسُفَ: فهذا يَشُدُّه وثاقاً، وذلك يُمسِكُ بيديه، وذاكَ يُجَرِّدُه من قميصِهِ..

    وائتمروا به.. ماذا يفعلون؟..

    قال أحَدُهم: نَقتُله ونستريحُ..

    وقال آخرُ: بل نبيعُه لبعض التُّجَّارِ العابرينَ على أنّه عبدٌ رقيقٌ..

    وقال كبيرُهم يهوذا: من الحرام أن نقتُله، إذ لم يجترم جُرماً، ولم يقترف إثماً،.. بل نلقيه في غيابات جبٍّ قريبٍ، وليكُن بعد ذلك مايكون!..

    واستحسنوا رأيه!..

    فقادوا يوسف إلى جبٍّ قريبٍ، ألقوه فيه، ثمَّ قفلوا، بعد ذلك، راجعين..

    لقد انتهَوا من يوسُفَ، دونَ أن تتَلطَّخَ بدمِهِ يدٌ!..

    وعادُوا إلى أبيهم، مساءً، وهم يصفُقون كفاً بكفٍّ مُتباكينَ!.. ويَبتدِرُهُم أبوهُم يَعقُوبُ، وقد انخلعَ جِنانُه:

    - ويحَكُم!.. ما الأمرُ؟

    - {قالوا ياأبانا إنّا ذهبنا نستبقُ، وتركْنا يوسُفَ عند مَتاعِنا، فأكَلَهُ الذِّئبُ، وما أنتَ بِمُؤمِنٍ لَنا، ولَو كُنَّا صادقين}.

    ويَصفُقُ يعقوبُ كَفّاً بِكَفٍّ، أيضاً...

    - أحقّاً، ماتَدَّعونَ؟..

    - إي، وربِّ آبائِكَ الصَّالحينَ!..

    ويشعُرُ يعقوبُ، شُعوراً، يكاد يكونُ يقيناً، بتآمر أبنائه، على أخيهم يوسُفَ الوضئ القسمات، الأبلج، كيداً منهم وحسداً..

    ويطرح إخوة يوسف قميص أخيهم الممزَّقَ أمام أبيهم، وقد تلطَّخ بدمٍ كذبٍ.

    ويُشيحُ يعقوبُ بوجهه عن أولاده الماكرين، وإنّ قسماتهم لتنضح بالكذب المبين، ويتولّى عنهم، وقد اسوَدَّ وجهُه حُزناً على يوسُف، وأسَفاً!..

    { قال: بل سوَّلَت لكُم أنفُسُكم أمراً، فصبرٌ جميلٌ، والله المستعانُ على ماتصفون}.

    * يوسف في الجُبِّ:

    ويتطلّع الفتى الوسيمُ تحتَه، فإذا بماءٍ ساكنٍ، رقرَاقٍ... ويتأمّلُ فوقَه، فلايرى إلاّ غتمةً حالكةً..

    فتلُفُّهُ وحشةٌ خانقةٌ، وتطوفُ بخياله أفكارٌ سودٌ، فيرتعدُ..

    إنّه مظلوم، وقد ألقي به في جوف هذا الجُبِّ الحالك، الموحش دون ذنب، أو جريرةٍ..

    أمّا الظّالمون، فهم إخوتُه..

    فيا لسُخرية الأقدار!.. ويشعُر بالألم يعتصر قلبه الصغير، اعتصاراً!.. ثم يشعُر وكأنّ نوراً رقيقاً، لطيفاً، ينسابُ إلى دخيلةِ نفسه شيئاً فشيئاً.. فيُبدّدُ ما علق بها من وحشة مكفهِرّةٍ، ومايلُفّه من ظلمات.. وخيّل إليه، كنقرٍ في أذنيه، صوتٌ يهتفُ بهدوءٍ:

    - {لتُنَبِّئنَّهُمْ بأمرِهِم هذا، وهُم لايَشعرون}

    فيطمئن، كالمستبشر خيراً، وترتاح إلى ذلك نفسه ارتياحاً غريباً.. ويُسلم أمرهُ لله!...

    * خلاصُ يوسف:

    وبعد حين، يسمع يوسف، وهو في غيابة الجبِّ، أصواتاً اختلط بعضُها ببعض، فيُصعي إلى الأصوات التي تترامى إلى مسمعه، من بعيد..

    وإذا بها أصوات رجال، ووقع حوافر، وجلبة مسافرين.. إنّها قافلة، وقد حطّت عصا تُرحالها، قريباً من الجُبِّ..

    ويسمع فوقه صوتاً، فينظر.. وإذا بدلوٍ يتدلّى فوق رأسه، يمتاح (أي: يطلب) به صاحبُه ماءً!.. فيتعلّقُ يوسُفُ بالدَّلوِ المتدلّي.. وماهي إلاّ لحظاتٌ، حتّى كان يوسُفُ خارج الجُبِّ..

    وينظُر إليه صاحبُ الدَّلو، دَهشاً، فيصيح: {يابُشرى، هذا غلام!..}

    وأخذهُ معه في القافلة المتوجّهة في تجارة إلى مصر، خادماً، مملوكاً!.. وفي مصر، بيع الفتى بالثّمن البخس، والسّعر الزّهيد!..

    وكان الّذي اشتراه عزيزُ مصر، ورئيسُ شُرطتها "قوطيفار".

    وتوَسّم عزيزُ مصر في الفتى محتداً شريفاً، وأصلاً كريماً.. إنّ وجهه ليُنبئ عن أرومةٍ طيّبة العناصر، عريقة الأصول!.. وأوصى به زوجه خيراً، فيوسفُ ليس عبداً كبقيّة العبيد!..

    وأحسن يوسُفُ الخدمة في بيت سيّدِه، وأخلَصَ في ذلك... فهو بينَ أهليه حقّاً، فشتّان بينهم وبين الّذين خلّفهم وراءه في أرض كنعان!..

    * يوسف وامرأةُ العزيز:


    وشبَّ يوسفُ، الغُلامُ اليافع، في بيت سيّده، على نعمةٍ، وخضيل عيش... واشتدّت فتُوّتُه، وظهرت نجابتَهُ، وتفجّرت وسامتُه، فكأنّه - لحسنِه وجمالِه- لامن طينَةِ البشرِ، بل ملاكٌ كريمٌ ‍‍‍!..

    ولاحظت سيّدته فيه الشّباب الغضَّ المتألّق، فلا حقته بنظراتها،.. ثمّ أخذت تتراءى له، وتبتسمُ، وتمُدُّه بالغُنجِ والدَّلالِ!.

    ويُطرقُ يوسفُ أمام ذلك كلّه، بخفر العذراءِ الحييَّة.. فليسَ لهُ إلاّ الإخلاصَ العفَّ الأمينَ، في بيت سيّده الجديد، ومولاه!..

    ولكنّ سيّدة القصر مازالت تتقرَّبُ إلى يوسُفَ، فيُعرضُ عنها حيياًّ!.. فتزداد به تعلُّقاً، وله تعرُّضاً.. لقد شُغِفت به حُبّاً!..

    وتتعرَّضُ له متصابيةً، وقد برّحت بها لواعج الشوق، وعصف بها الغرامُ!..

    وتدنو منه، مراودةً أيّاه، فينفر، كالطّائر الفزع!. ويفرُّ أمامها،.. فتُلاحِقُهُ من غُرفةٍ، في القصر، إلى غرفةٍ، حتى الباب،.. وتشُدُّه من قميصِهِ فتشُقُّه!..

    وإذ بعزيز مصر، في الباب، وجهاً لوجهٍ، وقد فغرَ فاهُ مدهوشاً!..

    وقبلَ أن يستجمع العزيزُ شتات أفكاره، {قالت: ماجزاءُ من أرادَ بأهلِكَ سوءاً إلاّ أن يُسجَنَ أو عذابٌ أليمٌ}

    ولايُطيق يوسفُ، مكراً من سيّدته، وكذباً، {قال: هي راودَتني عن نفسي}

    ويظهر على عزيزي مصر الارتباك، فهو محتارٌ في أمره، لايدري مايفعل.. ويصل بعض أهل امرأة العزيز، فيُفاجأ، إذ الموقف فاضحٌ.. ينذرُ بعاصفةٍ وإعصارٍ!.. ويسكتُ الجميعُ، ويُطرقون، فمن يُحصحصُ صدقاً من كذبٍ، وحقاَّ من باطل؟..

    ويهديه رُشدُهُ إلى اقتراحٍ، يقودُ إلى الحقيقة النّاصعة:

    { إن كان قميصُه قُدَّ (أي: شُقَّ) من قُبُلٍ، فصدَقَتْ وهُوَ من الكاذبينَ. وإن كان قميصُهُ قُدَّ من دُبُرٍ، فكذَبَت وهُوَ من الصّادقينَ. فلمّا رأى قميصَهُ قُدّ من دُبُرٍ، قال: إنّهُ من كيدِكُنَّ، إنَّ كيدَكُنَّ عظيمٌ}.

    وكان عزيزُ مصر حكيماً في موقفه، فلملم الموقف، محاذراً تفجيره،.. فليس للقُصور أن تنبعث منها رائحة فضيحة!.. وليس لهذا الأمر أن يتكرّر أو أن يشيع.. فيلتفت إلى يوسفَ المطرق برأسه، فيواسيه:

    -{يوسف، أعرض عن هذا} لاعليك!... وانسَ ما حدث، وكأنّه لم يكُن!.. وينظرُ إلى زوجه، الّتي تكادُ تتهاوى من فرط حياءٍ وندمٍ وخجلٍ،.. فعليها أن تتُوبَ من فعلتها، وتندم على مابدر منها، ولاتعود لمثلها أبداً،..

    - أما أنت، فتوبي {واستغفري لذنبِكِ إنّكِ كنتِ منَ الخاطئين}

    * يوسفُ ونسوةُ المدينة:

    ولم يكن لحادثٍ كهذا أن يمر ببساطة وسهولةٍ ويُسر،.. فألسُنُ الناس لاترحم!..

    ووصل الخبر إلى إحدى سيّدات المدينة، فباحت به إلى إحدى صويحباتها،.. ومن ثم عمّ النبأ وشاع، فتناقلته السن سيدات المجتمع في كلّ محفلٍ ونادٍ!.. وسمعت زليخا بحديثهنَّ، فسُمعتُها أصبحت مضغةً في كلّ فمٍ!..

    فأرسلت إليهنّ، وقد هيّأت لهُنَّ مجلساً وثيراً،.. فلما حضرن استقبلتهُن بحفاوةٍ وجميل لقاء، وأكرَمتهُنّ، وقد استقر بهن المجلس وقدمت لهن من الفاكهة صحاف البرُتقال، {وآتت كلّ واحدةٍ منهنَّ سكّيناً}

    وكانت قبل ذلك، قد ألبست يوسُف فاخر اللّباس، وزيّنتهُ، فتألّق مشعشعاً!.. فلمّا انتظم عقد مجلسهنّ قالت: {اخرج عليهنّ. فلمّا رأينهُ أكبرنَهُ وقطّعنَ أيديهنَّ، وقُلن: حاشَ لله، ماهذا بشراً، إن هذا إلاّ ملكٌ كريمٌ}.

    وتعلّقت أنظار السيدات المجتمعات بهذا الفتى الأغرّ الوسيم، الوضئ المُحيّا، المشعِّ الطّلعة، فشهقن منبهرات.. وتمتمن:

    - ليس على الأرض كهذا الجمال اليوسفيِّ السّاحر الأخّاذ!..

    بينما كانت تسيلُ أيديهنَّ دماً، إذ قد حززن أسابعهُنَّ، دون أن يشعرن لمّا رأينه، وهنَّ، لدهشتهن، يحسبن أنّهن يحززن ماقدّم لهنَّ من برتقال!..

    وتلتفت سيدة القصر إلىالنسوة، وقد طاشت عقولهنّ، فهنّ بما رأين، منبهرات، مأخوذات وتقول لهنّ بلهجة عتاب" {فذلكنَّ الّذي لُمتُنَّني فيه}، فما قولُكُنَّ بعدما رأيتُنَّ؟..

    ويُجبنَ: لقد رأينا من الجمال مالا يوصفُ، ومن الحسن مالايُدركُ، ممّا تحارُ به الأفهام وتطيش به الألبابُ، وتنخلعُ له القلوبُ،..

    وبالتالي، فلآلوم على سيدة مصر أن يتعلّق قلبُها بهذا الجمال الملائكيِّ المدهش.. وليس السّماع كالمعاينة!..

    وتتابع زليخا، بجُرأة السّيِّدة الخطيرة الشأن، تبوح بدخيلة فؤادها، إلى من هُنّ دونها من سيّدات مجتمع مصر، دون حرج. فليس بين امرأتين سرٌ مكتومٌ..:

    {وبقد راودتهُ عن نفسه فاستعصمَ، ولئن لم يفعل ما آمُرُهُ ليُسجننَّ وليكوناً من الصّاغرين}.

    فأقبلت السَّيِّداتُ على يوسُف لائماتٍ، عاذلاتٍ،..

    - يوسفُ، وأنت في ريعان الشّباب، وميعة الفتوّة، هلاّ رقَّ قلبُكَ لسيدتك الهائمة بك، فعطفت عليها بلفتة غرام تطفئُ ماتُعاني من الهوى المُمِضِّ، والوجد الملتهب؟.

    وتناولته كلّ واحدةٍ منهنّ بالقول الخلوب، والاستعطاف الرقيق. والدَّلّ المغناج.. فأشاح بوجهه عنهُنَّ، يأبى الخيانة، وسُبُل الغواية والضّلال!..

    ودعا ربّه أن يصرف عنه كيدهُن، فالسّجن أحبُّ إليه من دعوات الفُجور، وإلاّ فليس لهُ إلاّ أن يصبو إليهنَّ، وإن على كُرهٍ منه، بعد طويل تمنُّعٍ وإباءٍ!..

    {فاستجاب له ربُّهُ فصرفَ عنهُ كيدَهُنَّ إنّهُ هو السّميعُ العليمُ}.

    وأدخل يوسُفُ، بعد ذلك، السجن، بوشايةٍ ملفّقةٍ، واتّهامٍ كاذبٍ، حيثُ استقرَّ به المقامُ هناك، بضع سنين، وقد انقطعت أخبارُه عن العالمين!..

    * يوسف في السجن:

    ووجد يوسفُ في سجنه بعض متّسع من الوقت ليُبثَّ أفكاره بين هؤلاء السيئي الطّالع الذين تصمُّهم عتمةُ السجن فما من إلهٍ إلاّ الله الواحد القهارُ!..

    فلا"رَعْ" -اي الشمسُ- بإلهٍ، ولا"إبيس"- أي العجلُ- بإلهٍ أيضاً،..

    ولاهذه الأصنامُ جميعاً بألهةٍ. إنّها حجر منحوتٌ!.. فالله وحدهُ، خالقُ السموات وما فيهن، والأرضين، وما عليهن. وهو ربَّ العالمين!.. بذلك بشّر إبراهيمُ من قبلُ، وإليه دعا من بعده، جدُّ يوسفَ، إسحقُ، وأبوه يعقوبُ!..

    {ودخل معه السجن فتيان} فأصغيا إلى دعوته، فوجداها حقاًّ.. إنّهما ساقي الملك، وخازن طعامه، سيقا الى السجن ليُحاكما بعد ذلك..

    ووجد الفتيان في يوسف رجاحة عقل وشرف نفسٍ وعلوَّ همّةٍ، لم يجداها في غيره.. فأتياه يوماً ليُنبّئهُما بتأويل حلم رأياه:

    قال الأول: لقد رايت فيما يرى النائم إني أقدّم للعزيز خمراً..

    وقال الثاني: بينما رأيتُ أنا، أنِّي أحملُ على رأسي خبزاً، فتأتي الطيرُ، وتأكُلُ منه.

    ويجد يوسفُ في المناسبة فرصة سانحة ليُبشّر بدينه، ودين آبائه: يعقوب وإسحق وإبراهيم.. فهو الدّين الحقُّ القيم {ولكنّ أكثر الناسِ لايعلمون}

    ثم يلتفت إلى الأول منهما، قائلاً: لاأخالك إلاّ ناجياً، عمّا قريب، وستعود إلى بلاط الملك، ساقياًله، ونديماً، تقدّم له كؤوس الخمر. فإن كان ذلك، ولابدَّ من أنّه سيكون، فاذكرني عند سيّدك الملك".

    ثم التفت الى الثاني، أما أنت، فستُصلبُ بعد خروجك من السّجن..

    ويبتسم الثاني، وكأنه كان غير صادق في ما زعم من رؤيا، ويحاول الاعتراض فيرفع يوسف كلتا يديه بوجههما، قائلاً لهما: هذا أمرُ الله وقضاؤه فيكما، فقد {قُضي الأمرُ الذي فيه تستفتيان!..}.

    ويكون مانبّأهُما به يوسف:

    إذ سرعان مايستدعى الرجلان، فيخرجان من السجن، ويمثلان أمام القضاء، فتبرّأُ ساحة الأول، فيعود ساقياً للملك، ونديماً.. وتثبت على الثاني التُّهمة، فيُقتل صلباً..

    وتمرُّ، بعد ذلك على يوسف في سجنه بضعُ سنين، وقد عانى فيها ما لايعلمُهُ إلا الله!..

    * رؤيا عزيز مصر:

    وخرج العزيزُ، صباح يومٍ، على العلماء المحتشدين في بلاطه، وقد تغيّر وجههُ، وكأنّ غمامةً من كآبةٍ تطوف على جبينه، لاتفارقُهُ.. فماذا تخبِّئُ لهُ الأقدار؟

    ويسأله أحدهم، وقد بدا عليه اهتمامٌ:

    - ماالأمرُ يامولايَ؟

    - رؤيا، رأيتها البارحة، لاتزال ماثلة في وجداني.. ونصب عينيَّ، أبداً!..

    - هاتها!.. وفينا كلُّ مفسِّرٍ، عليمٍ!..

    _ {إني أرى سبع بقراتٍ سمانٍ، يأكُلهنَّ سبعٌ عجافٌ (ج.عجفاء: أي هزيلة) وسبعَ سُنبلاتٍ خضرٍ، وأُخرَ يابساتٍ، ياأيُّها الملأُ أفتُوني في رؤيايَ إن كنتُم للرُّؤيا تعبُرون}

    ويطرق الكهنةُ في المجلس، والعلماءُ.. ولايجدون لرُؤيا الملك تأويلاً.. ويستغرقون في التفكير، ولايهتدون، إنّهم أمام طلّسم مستغلقٍ!.. وظهر عليهمُ العجزُ وبان الارتباكُ..

    - {قالوا: أضغاثُ أحلامٍ وما نحنُ بتأويل الأحلامِ بعالمين}

    وكان ساقي الملك يستمع إلى ذلك كلّه، فذكر رؤياه عندما كان سجيناً، وصاحبه، وذكر تأويل يوسُف للرُّؤيا. وطلب يوسف إليه أن يذكُرَهُ أمام عزيز مصر.. وها هي ذي المناسبةُ، فيصيحُ:

    - سيّدي، سيّدي، في السّجن فتىً اسمُهُ يوسُفُ، عليمُ بتفسي الأحلام، وتأويل الرُّؤى، فلو شئت استدعيته، فتقعُ فيه على الخبير!..

    ويأمره الملكُ: هيّا!.. اعرض عليه رؤياي، وهلُمّ إليَّ بما يقول!..

    ويسرعُ ساقي الملك إلى السجن، ومعه بضعةُ رجال من الشُّرطة،.. فيدخلون على يوسف ويسلّم عليه ساقي الملك، ويعتذر إليه، فقد أنساه الشيطان أن يذكره أمام الملك وها هو ذا بابُ الفرج ينفتح على يوسف، فبعد اللّيل، فجرٌ وشمسٌ وضياءٌ!..

    ثم يستمع يوسف، بعد ذلك، إلى رؤيا الملك، مليّاً ويقولُ للرسول، بلهجة الواثق، المطمئنِّ،: هاك تأويلها!..:

    - تستقبلون سبع سنين فيها لين عيشٍ ورخاءٌ، وازدهار وعطاءٌ.. تتلوهنَّ سبعُ سنين - على نقيض سالفاتها- كوالحُ، شدادٌ، فيها ينقُصُ ماءُ النِّيل، وينحسرُ خيرُه، فلا يعودُ إلى سابق عطائه،.. وينقطعُ الغيثُ، فلا تغُلُّ الأرضُ، وتصابون بالدّواهي وعظائم الأمور، فيعُمُّ قحطٌ وجدبٌ، وتبتلون بشظف عيش وقسوة حياة.

    وبعد ذلك، تقبل الأيام عليكم بوجهها من جديدٍ، بعد إدبارٍ، فيخصبُ وادي النّيل، ويُمرعُ، ويعُمَّ الخير أرض مصر كلّها..

    وتغاثون حنطةً وشعيراً فتأكلون، وسمسماً وزيتوناً، وعنباً، فتعصرون!.. فإن كان ذلك- وهو كائنٌ لامحالة- فذروا ما حصدتم في سنبله، ودعوه في أهرائكم باستثناء ماأنتم بحاجة إلى أكله، حتى يقضي الله أمراً كان مقضياً!..

    ويعودُ الرّسول إلى قصر الملك، يهرولُ، مُسرعاً..

    إن تفسير الرؤيا أعجبُ من الرؤيا ذاتها، وأغربُ!..

    ويُنبِّئُ الملك، أمام العلماء المحتشدين في بلاط القصر، تفسير الرؤيا التي رآها.. فينبهرون جميعاً..

    ويقول قائلهم: إن هذا لذو علمٍ عليمٌ.

    ويقول آخرُ: بل، إنّ هذا من وحي السّماء!..

    ويلتفت الملك إلى ساقيه، مُنتهراً إياه: ماذا تنتظرُ؟.. هيَّا!.. عليّ بيوسف سريعاً!..

    ويُسرعُ ساقي الملك إلى يوسف، يزُفُّ إليه بُشرى اطلاق سراحه، داعياً إياه لمقابلة الملك.

    ويقابل يوسف ذلك ببرودة أعصاب، فيُبهتُ الرَّسولُ!..

    إنّ يوسُفَ يأبى أن يغادر السّجن دون إثبات براءته، ولو بعد حينٍ. فيقول للرّسول: -{ارجع إلى ربّك(بمعنى الملِك) فاسألْه ما بالُ النِّسوة اللاّتي قطّعن أيديهن، إنّ ربي ركيدهنّ عليمٌ}.

    ويدعو عزيزُ مصر النّسوة، وفي طليعتهنّ زوجه زليخا، فلا يشهدن ليوسف إلا بكل مكرمة وخلقٍ رفيع..

    وتجد السيدة زليخا الفرصة مؤاتية لتزيح عن نفسها همّاً طالما أقلق مضجعها، وأقضّه.. فتصرّح على رؤوس الأشهاد بأنّها هي التي راودته عن نفسه، فاستعصم وأبى!.. والكلُّ يعلم ذلك.. فلم مجانبة الحقيقة والقول الصّواب؟..

    فما كان من عزيز مصر بعد ظهور الحقيقة ببراءة يوسف، إلاّ أن دعا يوسف إليه يستخلصهُ لنفسه رجلاً قوياً، بعد ما كان استخلصهُ لنفسه غلاماً فتياًّ!..

    ويسلِّمه خزائن مصر، وهو الخبير العليم، يُشرف عليها، متصرّفاً في أمورها كما يرى.. إن يوسف وزير مال واقتصاد من طراز نادر، رفيع!.. وهو الجدير بأن تسلّم إليه مقاليد الأمور، وتُناط به المهمّاتُ، في حوالك الأيام!.. وينهض يوسف بالهمهمة الموكلة إليه، خيرُ نهوض.. فقد قرعت المجاعة أبواب الناس قاطبةً، وهجم عليهم الجوع فعضَّهم بأنيابٍ حِدادٍ!.. وتلاقي خُطَّتُه في خزن القمح والمؤن، وتوزيعها على الناس كلّهم، بالعدل والقسطاس، نجاحاً عظيماً!.. فهي التي خلَّصت شعب مصر من براثن مجاعة، وخطوبٍ عِظامٍ!..

    * يوسف وإخوته:

    وكما في مصر جدبٌ وقحطٌ، عامّان، كذلك في أعالي الجليل، حيث اجتاح الجفاف أرض كنعان، وضربها قحط أسود، كالحٌ!..

    وتهيّأ إخوة يوسف ليمتاروا (أي: يجلبوا) حنطةً من مصر، حيث يقوم على ذلك ملكٌ حدت باسمه الرُّكبانُ!..

    وساروا بقافلتهم متوجهين إلى أرض النيل، حتى وصلوا إلى مصر،.. ودخلوا على العزيز، فعرفهم واحداً واحداً، وهم له منكرون.

    وتقرب إليهم عزيزُ مصر، مستفسراً عن أحوالهم، وعن الجهة التي أتوا منها. فعرَّفوه بأنفسهم: فهم أبناءُ نبيِّ الله يعقوب إبن إسحق بن إبراهيم.. كان لهم أخٌ من أبيهم، أكلهُ الذِّئب في الفلاة، وبقي شقيقُهُ الصغير، واسمُهُ بنيامين، في عهدة أبيه..

    ورحَّب بهم العزيز، ووعدهم بجزيل الإحسان.. وتظاهر أنه يريد التثبُّت من صحَّة دهواهُم، فطلب إليهم أن يأتوه بأخيهم الصَّغير، هذا..

    ووجد إخوةُ يوسف في ذلك صعوبةً..

    فليس من السَّهل أن يتنازل عنه أبوه، وذكرى يوسف، لاتزال تفعل في نفسه رغم ماانقضى عليها من دهرٍ طويلٍ..

    ولكنّ عزيز مصر أصرَّ على طلبه. فتلبيةُ طلبهم من الحنطة مشروطةٌ بإحضار أخيهم بنيامين، فانصاعوا لأمره، مكرَهين!...

    وأمدَّهم يوسف بكيل بعيرٍ من الحنطة، وردَّ إليهم ما دفعوه من مالٍ، جعلَهُ في رحالهم، تشجيعاً لهم على العودة، وإحساناً!..

    وقفلوا راجعين!..

    وعرضوا على أبيهم ما طلبه عزيزُ مصر، هذا الأريحيُّ الكريمُ، وما اشترطهُ عليهم من إحضار أخيهم بنيامين.

    فاستعبر يعقوب باكياً، وتأوَّه كالملدوغ: {وا أسفى على يوسُفَ!..}

    وبكى أبناؤه وهم يرون أباهم الشيخ قد ابيضَّت عيناه حُزناً على يوسف، وكمداً، وأسفاظص، وفارقت ثغره الإبتسامةُ، فهو في حزنٍ مقيمٍ!..

    وأحاط الإخوة بأبيهم، فلم لايأمنهم على أخيهم بنيامين؟.. انهم عشرة حوله يُفدُّونه بالمهج والأرواح. فقال لهم يعقوب: {هل آمنكُمُ عليه إلاّ كما أمنتكُم على أخيه من قبلُ. فاللهُ خيرٌ حافظاً وهو أرحمُ الرّاحمين}.

    فأطرقوا خجلاً، ولم ينبسوا ببنت شفةٍ، إنّ أباهم ليقول حقاً!..

    وبعد لأي (أي: جهد) سمح يعقوب لأولاده باصطحاب أخيهم بنيامين إلى عزيز مصر فهبُّوا إلى رحالهم، فرحين..

    واستوقفهم أبوهم: - "مهلاً!.. ولكن شرط أن تحافظوا عليه محافظتمك على أنفسكم، أو أشدّ، ولاتفرِّطا به أبداً" وأخذ عليهم بذلك ميثاقاً غليظاً!.

    ثم نصحهُم بألاّ يدخلوا المدينة من باب واحد، فهم عشرةُ رهطٍ، يضافُ إليهم أخوهم بنيامين. يؤلّفون قافلة كاملة، فمن الممكن أن يجتاحهم أذىً، أو أن تُصيبهم عينٌ بسوء!..وسارت القافلةُ على اسم الله، يُحيط بها دعاءُ يعقوبَ، وتكلأُها عين الله!..

    *يوسف وبنيامين:

    ها هي ذي القافلة تحطُّ في أرض مصر الرّحال .ويتوجَّهُ أبناء يعقوب العشرة بأخيهم بنيامني إلى عزيز مصر، فما كانوا في حديثهم السّابق، معهُ، الاّ صادقين!..

    ويستقبلهم العزيز ببشاشة وجه طلقٍ، وترحابٍ نديٍّ!..

    ويحين موعدُ الطّعام، فيجلسُ كلٌّ إلى أخٍ له، يشاطرُهُ الغداء.. ويومئ العزيز إلى بنيامينَ، فيأخذُه من يده، ويتغدّيان معاً.. ويرمُقُ أبناء يعقوب أخاهم بنيامين، وهو يؤاكلُ الملك، بطرفٍ حسودٍ!.

    وفي غفلة عن أعيُنهم يهمسُ يوسفُ في أذن بنيامين:

    {إني أنا أخوك فلا تبتئس بما كانوا يعملون}

    ويوصيه بألاّ يبوح هذا السرِّ أمام إخوتِه، أبداً!..

    ولمّا جهّزهم الملكُ بجهازهم، موفياً لهم الكيل، أمر بوضع صواع الملك (الصواع، أو الصاع: مكيال نصف مد) في رحل أخيه بنيامين.

    وما أن ابتعدت القافلة قليلاً، حتى استوقفها صارخٌ:

    - على رسلكم!.. تريَّثوا قليلاً!..

    - ماالأمرُ، أيّها الحرسيُّ؟.

    - لقد فقدنا صواعَ الملك، وهو كما تعلمون، من الذّهب الخالص. إنني كفيلٌ لمن يجئُ به، بكيل بعيرٍ من الحنطة، وما هذا الكيلُ بيسير!..

    - والله ما كنا لنخون، وماكنّا لنسرقُ، ولالنعيثُ في الأرض فساداً، نحن، ياهذا، أبناءُ نبيٍّ ابن نبيٍّ، فاتّق الله في أمرنا!..

    - مادمتم لتقولون ذلك، فهيّا إلى العزيز، ليرى رأيه في ماتقولون!..

    ويعود أبناء يعقوب إلى عزيز مصر...

    - مالخطبُ أيّها العزيز؟

    - إننا نفقد الصُّواع الذهبيَّ الذي نكيلُ به الحنطة للنّاس، فلعلَّ أحدكُم سرقه!.

    - سرقه؟.. أترى في وجوهنا سيماء لُصوصٍ، وسُرّاقٍ؟..

    - لعلّه يكون في أحد أحمال هذه الحنطة التي على الإبل، فهيّا، وأنزلوا ماعليها من أحمالٍ!..

    ويُسرع أبناء يعقوب ينيخون الجمال، وينزلون ما عليها من أحمال حنطةٍ، وهم يقولون: والله ماكنّا سارقين!..

    ويقول لهم العزيزُ، وهم يفُكُّون أربطة رحالهم:

    - ماجزاءُ من سرقه إن تبيَّن أنه في رحال أحدكُم؟..

    فيجيبون: كما يقضي بذلك، عندكُم القانون.

    -يتحمَّلُ وحده العقاب دون الآخرين.

    - وهو كذلك!..

    ويتقدم العزيز فيتحسَّسُ أحمال إخوته العشرة، وهم يبتسمون،.. فلا يجد شيئاً..

    ثم يمدُّ يمينه إلى حمل بنيامين فيستخرج الصُّواع منه،.. ويرفعُه في وجوههِم!..

    وتعقُلُ الدَّهشة ألسنةَ أبناء يعقوبَ، ويسطع الغضبُ من عيونهم، فتظهرُ وجوههم حمراء دكناء!.. فمتى كان هذا الحمل الوديع لصّاً خطيراً؟..

    {قالوا: إن يسرق فقد سرق أخٌ له من قبلُ}

    فيرمقهم عزيز مصر بنظرة كالصّاعقة؛ فما زال هؤلاء الرّجالُ على ضلالهم القديم!.. ويجيلُ نظراته في هؤلاء العشرة من الرجال، وقد اعتراهم خزيٌ كاسحٌ،

    { قال: أنتم شرٌّ مكاناً والله أعلمُ بما تصفون}

    وأمر عزيزُ مصرَ ببنيامينَ فأوقِفَ جانباً..

    ولمّا رأى أخوتُه ذلك، ذكروا أباهم، والمواثيق الّتي أخذها عليهم، والعهود.. إنّه لآمرٌ، جدُّ فظيعٌ!..

    ووقفوا أمام عزيز مصر مستعطفين...

    {قالوا: ياأيّها العزيزُ إنّ له أباً شيخاً كبيراً، فخُذ أحدنا مكانه إنّا نراك من المحسنين. قال: معاذ الله أن نأخُذ إلاّ من وجدنا متاعنا عنده إنّا إذاً لظالمون}

    فأطرقوا!.. إنّ العزيز ليقول حقّاً ويحكمُ عدلاً!..

    يهمُّون بالإنصراف، وقد اكتسحهُم همٌّ ثقيلٌ، فبأيِّ وجهٍ سيُلاقون أباهم، وقد أخذ عليهم موثقاً من الله، غليظاً، وعاهدوه، فما قُدِّرَ لهم الوفاء؟

    ويضرب كبيرُهُم الأرض بقدمه، قائلاً لإخوته:

    - ويحكُم!.. أنسيتُم عهدكُم لأبيكم. بئس ماتعودون به إليه،.. أمّا أنا، {فلن أبرح الأرض حتّى يأذن لي أبي، أو يحكُم الله لي وهو خيرُ الحاكمين}.

    وعاد أبناء يعقوب إلى أبيهم، مطرقي الرؤوس، منكّسي الهامات، كأنّهم وراء جنازةٍ يسيرون.. ويخبرنه بالحدث، فيضربُ يعقوبُ رأسه بكلتا يديه!..

    بالأمس فرّطوا بيوسف، واليوم ببنيامين،..

    وأجهش الشيخ منتحباً.. ورماهم بغليظ القول، أشدّ من السّياط لسعاً، واتَّهمهم بالتَّفريط والتّقصير، سوؤ النيّة، والتّقدير!..

    ولكنّ الشّيخ الكبير لايزالُ على عظيم ثقة ببقاء يوسف جيّاً يُرزق، وبأن بنيامين سيعود إليه يوماً!..

    ولكن: أين يكونُ الأول؟... ومتى يعودُ الثاني؟..

    وغالبهُ حزنٌ وقهرٌ قغلباه. فاستسلم لمشيئة الله، وكأنّ قبله تقطّعهُ المدى!.. وقال لأبنائه: {يابنيَّ اذهبوا فتحسسّوا من يوسفَ وأخيه ولاتيأسوا من روح الله إنّه لاييأسُ من روح الله إلاّ القوم الكافرون}.

    خاصةً، وأنّ القحط والجفاف عادا يضربان أرض شماليِّ الجليل، فالسّنواتُ عجافٌ، شدادٌ، مهازيلُ.
    * المفاجأة:

    ويذكرُ أبناء يعقوب عزيز مصر، وعدله، وكرم يده، وشمائله الحسان، وأخاهُم لديه.. فيجمعون مابحوزتهم من مالٍ يسيرٍن ويتوجَهون به إلى بلاد العزيز..

    ويدخلون عليه قائلين:

    ياأيُّها العزيزُ، لقد ابتُلينا بأمورٍ عظامٍ، وخُطوبٍ جسامٍ إذ شحّت السّماءُ، وأجدبت الغبراءُ، فأصابت أهلينا البأساءُ والضّرّاء، وجئناك بما أبقت عليه الأيام النّكداءُ، والخطوب النّكراءُ، وهو مالٌ جدُّ يسيرٌ، وقليلٌ حقيرٌ، {فأوف لنا الكيل وتصدّق علينا إنّ الله يجري المتصدّقين}

    { قال: هل علمتُم مافعلتُم بيوسُفَ وأخيه إذ أنمت جاهلون}.

    ويستعيدون في أذهانهم صورة أخيهم يوسف، كفلقة القمر اشراقاً ولألاءً، إنّه، وربِّ ابراهيمَ- لهو!.. وقد القت النعماء عليه مسحةً من مزيد بهاءٍ وإشراقٍ..

    فيا للمُفاجأة الصّاعقة!..

    ويصرخُ بعضُ إخوته، وقد داهمتهُم المُفاجأةُ فأخرجتهُم عن طورهم، وتأدُّبهم أمام عزيز مصر، {قالوا: أإنّك لأنت يوسُفُ!}

    ويجيبهم بكل هدوءٍ: {قال: أنا يوسفُ وهذا أخي قدْ منَّ الله علينا، إنّه من يتّق ويصبِر فإنَّ الله لايُضيعَ أجرَ المحسنين}.

    فاعترفوا بخطيئتهم، وقد تطأطأت منهم الرُّؤوسُ، فلا يستطيعون النّظر إلى وجه إخيهم خجلاً من فعلتهم الشَّنعاء...

    واستأذنُوه أن يعودوا إلى أبيهم بالبُشرى، فإذن لهم.. وجهّزهم بما ناءت به العيرُ، وبقميصٍ له، طلب إليهم أن يلقُوه على وجه أبيهم حينَ يصلون!..

    وقفلت العيرُ، وئيدةً، بطيئةً، بما عليها من أحمالٍ ثقالٍ، وقد توجّه بها أبناء يعقوب إلى بلادهم في شماليِّ الجليل، وقد علا صوتُ الحادي، فأخذت العيرُ تجدُّ في المسير!..

    وأخيراً،.. وصلت العير إلى مواطنها، وأشرف أبناءُ يعقوب على أبيهم، وقد حمل البشيرُ قميص يوسف، وأخذ يعدو نحو أبيه..

    فصاح يعقوبُ: {إني لأجِدُ ريحَ يوسُفَ}

    وطُرِحً قميصُ يوسفَ على وجه يعقوب المتغضِّن، الّذي لايبين منه إلاّ لحيةٌ كثّةٌ، مرسلةٌ على سجيّتها، تعلوها عينان غائرتان، غاض فيهما النّورُ، .. فارتدَّ بصيراً!... وسجد لله شكراً؟، وقد ردَّ إليه يوسفَ بعد طولِ غيابٍ..

    فيا للبُشرى التي لايُحيطُ بها وصفٌ، وكأنّها لغرابتها، من عالم الخيال!..

    وبعد عدَّة أيام تهيَّأ يعقوبُ، وأهلُ بيته جميعاً، للتوجُّهِ إلى مصر حيث العزيزُ، العزيزُ!..

    وشهدت أرضُ كنعان قافلةً تحملُ خليطاً من رجالٍ ونسوةٍ، وصبيةٍ صغارٍ، وبعض مالٍ، ومتاعٍ،.. وفي مقدّمتها شيخٌ مهيبٌ وقورٌ، يحث راحلته إلى أرض الكنانة!.
    * رواية:

    ورد في إحدى الرّوايات، أنّ بعض أملاك السّماء استأذنوا الله أن يشهدوا لحظة لقاء يوسُفَ بأبيه يعقوبَ، فأُذن لهم، إنّها من اللّحظات النّادرة في التاريخ!..

    وشاهدت الملائكةُ في هذا اللِّقاءِ عجباً:

    الشيخ يفتحُ ذراعيه، صائحاً، ساعة شاهد إبنه، ويعدو نحوه، وكأنّه يطير.. وكذلك فعل يوسُفُ!..

    ويصل كلٌّ منهما إلى صاحِبه..

    ويرتمي كلٌّ منهما في حِضن الآخر..

    ويتعانقان.. حتى يكادَ جسداهما يلتصف الواحدُ منهما بالآخر!.. وقد تحدّرت منهما دموع الفرح بسخاء، فتقطّرت على الأرض، غزاراً..

    كما شهد هذا اللّقاء خلقٌ من المصريين، اصطفُّوا مرحّبين، وقد اغرورقت عيونهم بالدّموع..

    وآوى يوسف أبويه وإخوته إليه في القصر، وقد أحاطوا به..

    وانتظم عقدُ لقاء يوسُف بأبويه وإخوته أجمعين، وقد خرّوا له سُجّداً..

    فالتفت يوسفُ إلى أبيه قائلاً: {ياأبت هذا تأويل رؤيايَ من قبلُ قد جعلها ربّي حقاًّ}

    ويهزُّ الشيخ برأسه، وقد طفرت من عينه دمعةٌ حرَّى..

    ويُردِفُ يوسف، قائلاً، بصوتٍ متهدِّج، وقد رفع كلتا يديه إلى السَّماء:

    -{ربّ قد آتيتني من المُلك، وعلّمتني من تأويل الأحاديث، فاطر السّموات والأرض، أنتَ وليِّي في الدُّنيا والآخروة، توفّني مسلماً وألحقني بالصّالحين}.
    * نهاية المطاف:

    كان موكبُ يوسُفَ يشقُّ المدينة، وحوله جندٌ وحرسٌ، وحشمٌ وخدمٌ.. وقد تجمهر الناسُ على جانبي الطريق ليحظوا بمشاهدة عزيز مصر، ومليكهم العادل المحبوب...

    وكانت عجوزٌ شمطاءُ قد اقتعدت إحدى زوايا الطّريق، والنّاسُ حولها في هرجٍ ومرجٍ ووصخبٍ وضوضاء... فعزيزُ مصر، يشقُّ موكبُه الجماهير المحتشدة بعناءٍ، وقد تدافعت نحوهُ هاتفةً باسمِه، فهو بين مسلِّم عليه، ومسفِّق لهُ، وملوّحٍ من بعيدٍ..

    وينعطف الموكبُ الملكيُّ بالقرب من العجوز، فتدعو بصوتٍ عالٍ كالهُتاف:

    - سبحان من صيَّرَ العبيدَ ملوكاً بطاعته، والملوك عبيداً بمعصيتِهِ!..

    ويصلُ الصَّوتُ إلى مسامع العزيز، فيأمر الموكبَ بالتوقُّفِ، ويسألُ عن صاحبة الهُتاف، .. فيؤتى بالعجوز إليه..

    ويسألها عزيزُ مصر عن سبَبِ هُتافها، وعن اسمِها، وعن حاجتها...

    ويقشعرُّ بدنُ العزيز، وقد عرف العجوز الّتي ذهبت بنضارتها السُّنون...

    إنّها زليخا!.. وقد قلب لها الدَّهر ظهرَ المجنِّ!..

    وكم لها في قلبه من ذكريات لاتزولُ، وكأنّها محفورةٌ على صخر أصمَّ... وكم لها في ماضية من تاريخٍ حافلٍ، ومزدحمٍ بالأحداث!...

    ويطحبُها معه في الموكب الملكيِّ... ويُدخلُها القصر متوكِّئةً على عصاها، وقد احدودب ظهرها، واضمحلّت قواها..

    ويراها يوسف كذلك، فتطفحُ عيناهُ بالدّمع.. فيدعو الله أن يُعيدَ إليها نضارةَ الصِّبا، وريعان الشَّباب، كما كانت أيّام تركُضُ خلفهُ في القصر وتُغلِّقُ الأبوابَ...

    تقولُ الرواية: إن الله يستجيبُ لنبيِّه دعوتَه.. فإذا بزليخا تعودُ كما كانت أيّام زمان، تتألّقُ نضارةً، وتتفجَّر عنفُوانَ شبابٍ.

    وينظرُ إليها يوسُفُ وقد عادت تميسً تيهاً، ودلالاً... ويطلبُ يدها للزواج فتقبلُ...

    ويُسدَلُ السِّتار على زواج يوسف من زليخا، كما شاء الله لهما ذلك.. فهما سعيدان!.. وعلى عودة أهله إليه جميعاً فهم في النّعيم يتقلّبون!...

    ويرى الناسُ ذلك، ويسمع به آخرون، فيعجبون عجباً شديداً.. فهم لايكادون يصدِّقون، فالقصَّة تكاد تدخُلُ في باب الأساطير!..

    ولكنّها من أنباء الغيب، ووحي السماء..

    {وما أكثرُ النّاس -ولو حرصت- بمؤمنين!...}

    (صدق الله العلي العظيم)
    _________________
    اختكم ملااااك
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

  9. #9


    Join Date
    Oct 2005
    Location
    اليمن
    Posts
    19
    Rep Power
    0

  10. #10

    كاااسبر's Avatar
    Join Date
    May 2006
    Posts
    174
    Rep Power
    223
    ماشاءالله انتي مثمره وفعاله ياملاك مزيدا من النجح والتوفيق

  11. #11

    ملااااك الروح's Avatar
    Join Date
    Apr 2006
    Posts
    115
    Rep Power
    223
    اخي الفلاحي واخي كاسبر اشكركم على المرور

    وانتظروا المزيد

    وان شاء الله يحوز على رضاكم


    اختكم مـــــــ الروح ـــلااااك
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

  12. #12

    ملااااك الروح's Avatar
    Join Date
    Apr 2006
    Posts
    115
    Rep Power
    223
    نوح عليه السلام

    نبذة
    كان نوح تقيا صادقا أرسله الله ليهدي قومه وينذرهم عذاب الآخرة ولكنهم عصوه وكذبوه، ومع ذلك استمر يدعوهم إلى الدين الحنيف فاتبعه قليل من الناس، واستمر الكفرة في طغيانهم فمنع الله عنهم المطر ودعاهم نوح أن يؤمنوا حتى يرفع الله عنهم العذاب فآمنوا فرفع الله عنهم العذاب ولكنهم رجعوا إلى كفرهم، وأخذ يدعوهم 950 سنة ثم أمره الله ببناء السفينة وأن يأخذ معه زوجا من كل نوع ثم جاء الطوفان فأغرقهم أجمعين
    * * * * * * * * *
    سيرتة
    حال الناس قبل بعثة نوح:
    قبل أن يولد قوم نوح عاش خمسة رجال صالحين من أجداد قوم نوح، عاشوا زمنا ثم ماتوا، كانت أسماء الرجال الخمسة هي: (ودَّ، سُواع، يغوث، يعوق، نسرا). بعد موتهم صنع الناس لهم تماثيل في مجال الذكرى والتكريم، ومضى الوقت.. ومات الذين نحتوا التماثيل.. وجاء أبنائهم.. ومات الأبناء وجاء أبناء الأبناء.. ثم نسجت قصصا وحكايات حول التماثيل تعزو لها قوة خاصة.. واستغل إبليس الفرصة، وأوهم الناس أن هذه تماثيل آلهة تملك النفع وتقدر على الضرر.. وبدأ الناس يعبدون هذه التماثيل.

    إرسال نوح عليه السلام:
    كان نوح كان على الفطرة مؤمنا بالله تعالى قبل بعثته إلى الناس. وكل الأنبياء مؤمنون بالله تعالى قبل بعثتهم. وكان كثير الشكر لله عزّ وجلّ. فاختاره الله لحمل الرسالة. فخرج نوح على قومه وبدأ دعوته:

    يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ

    بهذه الجملة الموجزة وضع نوح قومه أمام حقيقة الألوهية.. وحقيقة البعث. هناك إله خالق وهو وحده الذي يستحق العبادة.. وهناك موت ثم بعث ثم يوم للقيامة. يوم عظيم، فيه عذاب يوم عظيم.شرح "نوح" لقومه أنه يستحيل أن يكون هناك غير إله واحد هو الخالق. أفهمهم أن الشيطان قد خدعهم زمنا طويلا، وأن الوقت قد جاء ليتوقف هذا الخداع، حدثهم نوح عن تكريم الله للإنسان. كيف خلقه، ومنحه الرزق وأعطاه نعمة العقل، وليست عبادة الأصنام غير ظلم خانق للعقل.

    تحرك قوم نوح في اتجاهين بعد دعوته. لمست الدعوة قلوب الضعفاء والفقراء والبؤساء، وانحنت على جراحهم وآلامهم بالرحمة.. أما الأغنياء والأقوياء والكبراء، تأملوا الدعوة بعين الشك… ولما كانوا يستفيدون من بقاء الأوضاع على ما هي عليه.. فقد بدءوا حربهم ضد نوح.

    في البداية اتهموا نوحا بأنه بشر مثلهم:
    فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مِّثْلَنَا

    قال تفسير القرطبي: الملأ الذين كفروا من قومه هم الرؤساء الذين كانوا في قومه. يسمون الملأ لأنهم مليئون بما يقولون.

    قال هؤلاء الملأ لنوح: أنت بشر يا نوح.

    رغم أن نوحا لم يقل غير ذلك، وأكد أنه مجرد بشر.. والله يرسل إلى الأرض رسولا من البشر، لأن الأرض يسكنها البشر، ولو كانت الأرض تسكنها الملائكة لأرسل الله رسولا من الملائكة.. استمرت الحرب بين الكافرين ونوح.

    في البداية، تصور الكفرة يومها أن دعوة نوح لا تلبث أن تنطفئ وحدها، فلما وجدوا الدعوة تجتذب الفقراء والضعفاء وأهل الصناعات البسيطة بدءوا الهجوم على نوح من هذه الناحية. هاجموه في أتباعه، وقالوا له: لم يتبعك غير الفقراء والضعفاء والأراذل.

    هكذا اندلع الصراع بين نوح ورؤساء قومه. ولجأ الذين كفروا إلى المساومة. قالوا لنوح: اسمع يا نوح. إذا أردت أن نؤمن لك فاطرد الذين آمنوا بك. إنهم ضعفاء وفقراء، ونحن سادة القوم وأغنياؤهم.. ويستحيل أن تضمنا دعوة واحدة مع هؤلاء.

    واستمع نوح إلى كفار قومه وأدرك أنهم يعاندون، ورغم ذلك كان طيبا في رده. أفهم قومه أنه لا يستطيع أن يطرد المؤمنين، لأنهم أولا ليسوا ضيوفه، إنما هم ضيوف الله.. وليست الرحمة بيته الذي يدخل فيه من يشاء أو يطرد منه من يشاء، إنما الرحمة بيت الله الذي يستقبل فيه من يشاء.

    كان نوح يناقش كل حجج الكافرين بمنطق الأنبياء الكريم الوجيه. وهو منطق الفكر الذي يجرد نفسه من الكبرياء الشخصي وهوى المصالح الخاصة.

    قال لهم إن الله قد آتاه الرسالة والنبوة والرحمة. ولم يروا هم ما آتاه الله، وهو بالتالي لا يجبرهم على الإيمان برسالته وهم كارهون. إن كلمة لا إله إلا الله لا تفرض على أحد من البشر. أفهمهم أنه لا يطلب منهم مقابلا لدعوته، لا يطلب منهم مالا فيثقل عليهم، إن أجره على الله، هو الذي يعطيه ثوابه. أفهمهم أنه لا يستطيع أن يطرد الذين آمنوا بالله، وأن له حدوده كنبي. وحدوده لا تعطيه حق طرد المؤمنين لسببين: أنهم سيلقون الله مؤمنين به فكيف يطرد مؤمنا بالله؟ ثم أنه لو طردهم لخاصموه عند الله، ويجازي من طردهم، فمن الذي ينصر نوحا من الله لو طردهم؟ وهكذا انتهى نوح إلى أن مطالبة قومه له بطرد المؤمنين جهل منهم.

    وعاد نوح يقول لهم أنه لا يدعى لنفسه أكثر مما له من حق، وأخبرهم بتذللـه وتواضعه لله عز وجل، فهو لا يدعي لنفسه ما ليس له من خزائن الله، وهي إنعامه على من يشاء من عباده، وهو لا يعلم الغيب، لأن الغيب علم اختص الله تعالى وحده به. أخبرهم أيضا أنه ليس ملكا. بمعنى أن منزلته ليست كمنزلة الملائكة.. قال لهم نوح: إن الذين تزدري أعينكم وتحتقر وتستثقل.. إن هؤلاء المؤمنين الذي تحتقرونهم لن تبطل أجورهم وتضيع لاحتقاركم لهم، الله أعلم بما في أنفسهم. هو الذي يجازيهم عليه ويؤاخذهم به.. أظلم نفسي لو قلت إن الله لن يؤتيهم خيرا.

    وسئم الملأ يومها من هذا الجدل الذي يجادله نوح.. حكى الله موقفهم منه في سورة (هود):

    قَالُواْ يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتَنِا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32) قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُم بِهِ اللّهُ إِن شَاء وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ (33) وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ اللّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34) (هود)

    أضاف نوح إغواءهم إلى الله تعالى. تسليما بأن الله هو الفاعل في كل حال. غير أنهم استحقوا الضلال بموقفهم الاختياري وملئ حريتهم وكامل إرادتهم.. فالإنسان صانع لأفعاله ولكنه محتاج في صدورها عنه إلى ربه. بهذه النظرة يستقيم معنى مساءلة الإنسان عن أفعاله. كل ما في الأمر أن الله ييسر كل مخلوق لما خلق له، سواء أكان التيسير إلى الخير أم إلى الشر.. وهذا من تمام الحرية وكمالها. يختار الإنسان بحريته فييسر له الله تعالى طريق ما اختاره. اختار كفار قوم نوح طريق الغواية فيسره الله لهم.

    وتستمر المعركة، وتطول المناقشة بين الكافرين من قوم نوح وبينه إذا انهارت كل حجج الكافرين ولم يعد لديهم ما يقال، بدءوا يخرجون عن حدود الأدب ويشتمون نبي الله:

    قَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ (60) (الأعراف)

    ورد عليهم نوح بأدب الأنبياء العظيم:

    قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلاَلَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ (61) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (62) (الأعراف)

    ويستمر نوح في دعوة قومه إلى الله. ساعة بعد ساعة. ويوما بعد يوم. وعاما بعد عام. ومرت الأعوام ونوح يدعو قومه. كان يدعوهم ليلا ونهارا، وسرا وجهرا، يضرب لهم الأمثال. ويشرح لهم الآيات ويبين لهم قدرة الله في الكائنات، وكلما دعاهم إلى الله فروا منه، وكلما دعاهم ليغفر الله لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستكبروا عن سماع الحق. واستمر نوح يدعو قومه إلى الله ألف سنة إلا خمسين عاما.

    وكان يلاحظ أن عدد المؤمنين لا يزيد، بينما يزيد عدد الكافرين. وحزن نوح غير أنه لم يفقد الأمل، وظل يدعو قومه ويجادلهم، وظل قومه على الكبرياء والكفر والتبجح. وحزن نوح على قومه. لكنه لم يبلغ درجة اليأس. ظل محتفظا بالأمل طوال 950 سنة. ويبدو أن أعمار الناس قبل الطوفان كانت طويلة، وربما يكون هذا العمر الطويل لنوح معجزة خاصة له.

    وجاء يوم أوحى الله إليه، أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن. أوحى الله إليه ألا يحزن عليهم. ساعتها دعا نوح على الكافرين بالهلاك:

    وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) (نوح)

    برر نوح دعوته بقوله:

    إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا (26) (نوح)

    الطوفان:
    ثم أصدر الله تعالى حكمه على الكافرين بالطوفان. أخبر الله تعالى عبده نوحا أنه سيصنع سفينة (بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا) أي بعلم الله وتعليمه، وعلى مرأى منه وطبقا لتوجيهاته ومساعدة الملائكة. أصدر الله تعالى أمره إلى نوح: (وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ) يغرق الله الذين ظلموا مهما كانت أهميتهم أو قرابتهم للنبي، وينهى الله نبيه أن يخاطبه أو يتوسط لهم.

    وبدأ نوح يغرس الشجر ويزرعه ليصنع منه السفينة. انتظر سنوات، ثم قطع ما زرعه، وبدأ نجارته. كانت سفينة عظيمة الطول والارتفاع والمتانة، وقد اختلف المفسرون في حجمها، وهيئتها، وعدد طبقاتها، ومدة عملها، والمكان الذي عملت فيه، ومقدار طولها، وعرضها، على أقوال متعارضة لم يصح منها شيء. وقال الفخر الرازي في هذا كله: أعلم أن هذه المباحث لا تعجبني، لأنها أمور لا حاجة إلى معرفتها البتة، ولا يتعلق بمعرفتها فائدة أصلا. نحن نتفق مع الرازي في مقولته هذه. فنحن لا نعرف عن حقيقة هذه السفينة إلا ما حدثنا الله به. تجاوز الله تعالى هذه التفصيلات التي لا أهمية لها، إلى مضمون القصة ومغزاها المهم.

    بدأ نوح يبني السفينة، ويمر عليه الكفار فيرونه منهمكا في صنع السفينة، والجفاف سائد، وليست هناك أنهار قريبة أو بحار. كيف ستجري هذه السفينة إذن يا نوح؟ هل ستجري على الأرض؟ أين الماء الذي يمكن أن تسبح فيه سفينتك؟ لقد جن نوح، وترتفع ضحكات الكافرين وتزداد سخريتهم من نوح. وكانوا يسخرون منه قائلين: صرت نجارا بعد أن كنت نبيا!

    إن قمة الصراع في قصة نوح تتجلى في هذه المساحة الزمنية، إن الباطل يسخر من الحق. يضحك عليه طويلا، متصورا أن الدنيا ملكه، وأن الأمن نصيبه، وأن العذاب غير واقع.. غير أن هذا كله مؤقت بموعد حلول الطوفان. عندئذ يسخر المؤمنون من الكافرين، وتكون سخريتهم هي الحق.

    انتهى صنع السفينة، وجلس نوح ينتظر أمر الله. أوحى الله إلى نوح أنه إذا فار التنور هذا علامة على بدء الطوفان. قيل في تفسير التنور أنه بركان في المنطقة، وقيل أن الفرن الكائن في بيت نوح، إذا خرج منه الماء وفار كان هذا أمرا لنوح بالحركة.

    وجاء اليوم الرهيب، فار التنور. وأسرع نوح يفتح سفينته ويدعو المؤمنين به، وهبط جبريل عليه السلام إلى الأرض. حمل نوح إلى السفينة من كل حيوان وطير ووحش زوجين اثنين، بقرا وثورا، فيلا وفيلة، عصفورا وعصفور، نمرا ونمرة، إلى آخر المخلوقات. كان نوح قد صنع أقفاصا للوحوش وهو يصنع السفينة. وساق جبريل عليه السلام أمامه من كل زوجين اثنين، لضمان بقاء نوع الحيوان والطير على الأرض، وهذا معناه أن الطوفان أغرق الأرض كلها، فلولا ذلك ما كان هناك معنى لحمل هذه الأنواع من الحيوان والطير. وبدأ صعود السفينة. صعدت الحيوانات والوحوش والطيور، وصعد من آمن بنوح، وكان عدد المؤمنين قليلا.

    لم تكن زوجة نوح مؤمنة به فلم تصعد، وكان أحد أبنائه يخفي كفره ويبدي الإيمان أمام نوح، فلم يصعد هو الآخر. وكانت أغلبية الناس غير مؤمنة هي الأخرى، فلم تصعد. وصعد المؤمنون. قال ابن عباس، رضي الله عنهما: آمن من قوم نوح ثمانون إنسانا.

    ارتفعت المياه من فتحات الأرض. انهمرت من السماء أمطارا غزيرة بكميات لم تر مثلها الأرض. فالتقت أمطار السماء بمياه الأرض، وصارت ترتفع ساعة بعد ساعة. فقدت البحار هدوئها، وانفجرت أمواجها تجور على اليابسة، وتكتسح الأرض. وغرقت الكرة الأرضية للمرة الأولى في المياه.

    ارتفعت المياه أعلى من الناس. تجاوزت قمم الأشجار، وقمم الجبال، وغطت سطح الأرض كله. وفي بداية الطوفان نادى نوح ابنه. كان ابنه يقف بمعزل منه. ويحكي لنا المولى عز وجل الحوار القصير الذي دار بين نوح عليه السلام وابنه قبل أن يحول بينهما الموج فجأة.

    نادى نوح ابنه قائلا: يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ
    ورد الابن عليه: قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاء
    عاد نوح يخاطبه: قَالَ لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ

    وانتهى الحوار بين نوح وابنه:

    وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ


    انظر إلى تعبير القرآن الكريم (وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ) أنهى الموج حوارهما فجأة. نظر نوح فلم يجد ابنه. لم يجد غير جبال الموج التي ترتفع وترفع معها السفينة، وتفقدها رؤية كل شيء غير المياه. وشاءت رحمة الله أن يغرق الابن بعيدا عن عين الأب، رحمة منه بالأب، واعتقد نوح أن ابنه المؤمن تصور أن الجبل سيعصمه من الماء، فغرق.

    واستمر الطوفان. استمر يحمل سفينة نوح. بعد ساعات من بدايته، كانت كل عين تطرف على الأرض قد هلكت غرقا. لم يعد باقيا من الحياة والأحياء غير هذا الجزء الخشبي من سفينة نوح، وهو ينطوي على الخلاصة المؤمنة من أهل الأرض. وأنواع الحيوانات والطيور التي اختيرت بعناية. ومن الصعب اليوم تصور هول الطوفان أو عظمته. كان شيئا مروعا يدل على قدرة الخالق. كانت السفينة تجري بهم في موج كالجبال. ويعتقد بعض العلماء الجيولوجيا اليوم إن انفصال القارات وتشكل الأرض في صورتها الحالية، قد وقعا نتيجة طوفان قديم جبار، ثارت فيه المياه ثورة غير مفهومة. حتى غطت سطح الجزء اليابس من الأرض، وارتفعت فيه قيعان المحيطات ووقع فيه ما نستطيع تسميته بالثورة الجغرافية.

    استمر طوفان نوح زمنا لا نعرف مقداره. ثم صدر الأمر الإلهي إلى السماء أن تكف عن الإمطار، وإلى الأرض أن تستقر وتبتلع الماء، وإلى أخشاب السفينة أن ترسو على الجودي، وهو اسم مكان قديم يقال أنه جبل في العراق. طهر الطوفان الأرض وغسلها. قال تعالى في سورة (هود):

    وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءكِ وَيَا سَمَاء أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاء وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44) (هود)

    (وَغِيضَ الْمَاء) بمعنى نقص الماء وانصرف عائدا إلى فتحات الأرض. (وَقُضِيَ الأَمْرُ) بمعنى أنه أحكم وفرغ منه، يعني هلك الكافرون من قوم نوح تماما. ويقال أن الله أعقم أرحامهم أربعين سنة قبل الطوفان، فلم يكن فيمن هلك طفل أو صغير. (وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ) بمعنى رست عليه، وقيل كان ذلك يوم عاشوراء. فصامه نوح، وأمر من معه بصيامه. (وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) أي هلاكا لهم. طهر الطوفان الأرض منهم وغسلها. ذهب الهول بذهاب الطوفان. وانتقل الصراع من الموج إلى نفس نوح.. تذكر ابنه الذي غرق.

    لم يكن نوح يعرف حتى هذه اللحظة أن ابنه كافر. كان يتصور أنه مؤمن عنيد، آثر النجاة باللجوء إلى جبل. وكان الموج قد أنهى حوارهما قبل أن يتم.. فلم يعرف نوح حظ ابنه من الإيمان. تحركت في قلب الأب عواطف الأبوة. قال تعالى في سورة (هود):

    وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابُنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (45) (هود)

    أراد نوح أن يقول لله أن ابنه من أهله المؤمنين. وقد وعده الله بنجاة أهله المؤمنين. قال الله سبحانه وتعالى، مطلعا نوحا على حقيقة ابنه للمرة الأولى:

    يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46) (هود)

    قال القرطبي -نقلا عن شيوخه من العلماء- وهو الرأي الذي نؤثره: كان ابنه عنده -أي نوح- مؤمنا في ظنه، ولم يك نوح يقول لربه: (إِنَّ ابُنِي مِنْ أَهْلِي) إلا وذلك عنده كذلك، إذ محال أن يسأل هلاك الكفار، ثم يسأل في إنجاء بعضهم. وكان ابنه يسرّ الكفر ويظهر الإيمان. فأخبر الله تعالى نوحا بما هو منفرد به من علم الغيوب. أي علمت من حال ابنك ما لم تعلمه أنت. وكان الله حين يعظه أن يكون من الجاهلين، يريد أن يبرئه من تصور أن يكون ابنه مؤمنا، ثم يهلك مع الكافرين.

    وثمة درس مهم تنطوي عليه الآيات الكريمة التي تحكي قصة نوح وابنه. أراد الله سبحانه وتعالى أن يقول لنبيه الكريم أن ابنه ليس من أهله، لأنه لم يؤمن بالله، وليس الدم هو الصلة الحقيقية بين الناس. ابن النبي هو ابنه في العقيدة. هو من يتبع الله والنبي، وليس ابنه من يكفر به ولو كان من صلبه. هنا ينبغي أن يتبرأ المؤمن من غير المؤمن. وهنا أيضا ينبغي أن تتصل بين المؤمنين صلات العقيدة فحسب. لا اعتبارات الدم أو الجنس أو اللون أو الأرض.

    واستغفر نوح ربه وتاب إليه ورحمه الله وأمره أن يهبط من السفينة محاطا ببركة الله ورعايته. وهبط نوح من سفينته. أطلق سراح الطيور والوحش فتفرقت في الأرض، نزل المؤمنون بعد ذلك. ولا يحكي لنا القرآن الكريم قصة من آمن مع نوح بعد نجاتهم من الطوفان
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

Page 1 of 2 12 LastLast

Thread Information

Users Browsing this Thread

There are currently 1 users browsing this thread. (0 members and 1 guests)

Similar Threads

  1. قتلناك يا أخر الانبياء...لنزار قباني
    By نبض قلبي يمنيا in forum ملتقى الشـعــر
    Replies: 3
    Last Post: 27-04-2010, 03:31 AM
  2. ((قصة الانبياء)) عليهم السلام
    By سعيد الفياضي in forum ملتقى الشـعــر
    Replies: 1
    Last Post: 30-06-2009, 11:55 PM
  3. ماهي خصائص الانبياء؟؟؟
    By ذيب حضرموت in forum ملتقى حياتنا الدينية
    Replies: 0
    Last Post: 04-08-2006, 09:59 PM
  4. اعمار الانبياء واماكن دفنهم
    By المأمون in forum ملتقى حياتنا الدينية
    Replies: 0
    Last Post: 06-12-2003, 02:39 AM
  5. شجرة الانبياء والرسل
    By الحلياني in forum ملتقى حياتنا الدينية
    Replies: 2
    Last Post: 20-03-2003, 09:06 PM

Bookmarks

Posting Permissions

  • You may not post new threads
  • You may not post replies
  • You may not post attachments
  • You may not edit your posts
  •