بسم اللـه الرحمن الرحيم

أعلن الشيخ المجاهد " أسامة بن لادن " بتاريخ 11 أيلول/سبتمبر 2001 الحرب ضد الإمبرياليّة الغربية التي تقودها الولايات المتّحدة الأمريكية ، وكان إعلاناً عجيباً من قبل جماعة صغيرة ونائية ، مستخدماً أسلوباَ مبهراً في إعلانه من خلال أحداث الطائرات ، ثم استغلال هاجس الرعب في قلوب الكفّار مستعيناً بأحدث التقنيّات والوسائل ، مؤسّساً نظريات جديدة في الحروب ، لتحقيق أهداف نبيلة لا تعود فوائدها على جماعته إنما على أمّة كبيرة مؤمنة بالله وحده ..

هي حرب على غير ما تعارفت عليه الأمم السابقة من حيث الأسلوب والإمكانيّات والوسائل والأهداف والغايات ، هي حربٌ ، كما وصفها " كولن باول " : ( بين سلاح طيران ينتمي إلى العالم الأوّل وجيش ينتمي إلى العالم " الرابع " ، بين قاذفات قنابل من طراز بي – 1 ورجال على الخيل ) ، فأنّى لأولئك البسطاء تحمّل الحرب ، فكيف بإعادة توازنهم ، ثم توسّعهم وانتشارهم ! إلا إن كانت هذه حرباً جديدة في مقاييسها .

في الحروب المعروفة – على سبيل المثال - يهاجم العدو خصمه في نقاط حسّاسة ومؤثّرة فيه سياسياً واقتصادياً ومعنوياً ، إلا في الحرب ضد القاعدة ، فلم تجد الولايات المتحدة هدفاً استراتيجياً في حربها لتعلن عنه ، ولم يكن ينطوي القصف المكثّف وتدمير القرى والمدن على خطورة ولن يؤدّي إلى شيء سوى " إعادة تسوية الرمال " ، فوضعوا لهم هدفاً جمعوا له أكبر تحالف في التاريخ تمثّل في " اعتقال الشيخ أسامة بن لادن أو قتله " حفظه الله . وما لبث التحالف العالمي أن أعاد " تدوير " الهدف المُعلن إلى أهداف يتم تغييرها سنة بعد سنة !

لقد كانت الدول القويّة ، كما يقول Wilhelm Grewe ، دائماً ما تقرر شكل النظام الدولي بما يخدم مصالحها ، ففي القرن السادس عشر أعادت أسبانيا تعريف المفاهيم الأساسية للعدالة والشموليّة العالميّة ، لتبرّر إبادة السكّان الأصليين في القارّة الأمريكيّة ، ثمّ في القرن الثامن عشر طوّرت فرنسا المفهوم الحديث للحدود ومفهوم توازن القوى تمشيّاً مع سطوتها القاريّة ، وفي القرن التاسع عشر استحدثت بريطانيا قواعد جديدة فيما يتعلّق بالقرصنة والحياد والاستعمار ، وذلك تمشيّاً مع مصالح محدّدة لها بوصفها القوّة المهيمنة في ذلك الوقت . أما حال الولايات المتحدة الأمريكية اليوم فهو أعظم من سابقاتها ، فلم يجرؤ أحد بعد أحداث أيلول/سبتمبر على تحدّي قوّتها وقراراتها أو مناقشتها أو حتى عدم تأييدها ومساعدتها ! وأخذ القانون الدولي بالنسبة للولايات المتحدة والذي أقامته بنفسها - في فترة كانت محاجة لترسيخه - يفقد صلَته بشكل متزايد بالقانون الدولي الذي يعمل به ويفهمه الآخرون ، ووضعت قواعد استثنائية جديدة لها وحدها ، واصطف العالم كلّه معها مؤيّداً وموالياً لها في حرب تلك الثلّة المسلمة التي أعلنت " حرب المستضعفين " وتبتغي العدل والإنصاف والحريّة لأمتها ..

حرب جديدة قامت فيها مجموعة من الأفراد النبلاء الذين يقاتلون دفاعاً عن عقيدتهم المشرّفة والناصعة ، بضعضعة أركان النظام الدولي الإمبريالي برمّته في عصر العولمة والأحادية الأمريكية التي زُعم أن في ظلّها سيكون من المرجّح أن تتضاءل نزعة الصراعات الدوليّة ، لتسيطر الأحادية على الأمم والحضارات وتنهب خيراتها بهدوء ..

فكانت ردّة فعل النظام الدولي الأحادي القطبية الاستجابة الكاملة للظّلم الموحّد ضد فئة صغيرة مُسلمة ، ولم تستثنى دولة من دول العالم من الوقوف مع أمريكا وإعانتها ، ووقفت المنظمات الدوليّة وأجهزة الاستخبارات الوطنيّة وأجهزتهم الماليّة والعسكرية والأمنية والإعلامية ضد القاعدة ، حتى أنهم استخدموا " الأزهر المسيّس " و " هيئة علماء حكّام السعودية " كأبواق لهم في الحرب ضد المجاهدين ، ومع كل ذلك انقلب السحر على الساحر ، وكسب المجاهدون العقول والقلوب ، وعلم أغلب الناس - وهم متيقّنون - الصورة الحقيقية لأمريكا الإمبريالية الشرّيرة ، وثبتت صحّة نظرية القاعدة بأن أمريكا هي رأس كل الشّرور ..

واستخدمت الولايات المتحدة في هذه الحرب كلا الأسلوبين في آن واحد : " كسب العقول والقلوب " و " فتّش ودمّر " . إنها حرب تدميريّة من نوع جديد في عصر الحريّات وحقوق الإنسان والقانون الدولي !
أقاموا في هذه الحرب انتخابات صوريّة في أفغانستان وثبت تزويرها للعالم ، فأعادوها للعلّة ذاتها من دون محاسبة المزوّرين ، وانسحب المنافس قبل إجراء جولة الإعادة وبقي الفائز الأول بالتزوير – الذي أثبتته الأمم المتّحدة - ومع ذلك تعترف دول العالم " المتحضّرة " بالرئيس " كرازاي " وتتعامل معه بكل صفاقة وشعوبها راضية عن هذا المنكر !

يتم احتلال الدول وتحطيمها وتدمير شعوبها ، بمباركة الأمم المتحدة ودول العالم المتقدّمة ودول الجوار ، لشبهة امتلاك أسلحة محرّمة - على المستضعفين - وتُقصَف الدول المستقلّة بالطائرات فيُقتل أبناؤها – بمباركة دول العالم والدول المقصوفة نفسها! – ويُعد إجرامهم في حق الشعوب المظلومة عملاً عظيماً . ومن تريد أمريكا اعتقاله فلا يردّها أحد ، ومن يريد إعتقال أحد جنودها فليس له ذلك !

ومع كل هذا الطغيان – وما ذكر جزء يسير منه - لم تحقّق أمريكا وحلفاؤها ما يمكن التفاخر به . والأمر الأكثر إعجاباً في هذه الحرب ، هو أن تطأطئ الإمبراطوريّة الأمريكيّة رأسها أمام خصوم ضعفاء ما كان المرء يتوقّع لهم أن يكونوا خطراً ذا بال . إنها حرب جديدة في تاريخ الأمم ، استخدمت فيها أساليب جديدة وأهداف جديدة ، وتجمّع دولي عالمي ظالم ، يفقد قوّته وتوازنه يوماً بعد يوم ، ضد فئة صغيرة تنتصر يوماً بعد يوم ، ولله الأمر من قبل ومن بعد ..

إن الجيوش الحديثة قد أصبحت أكثر تماسكاً في هذا العصر مما سبقه من عصور ، بسبب سطوة قادتها وأصحاب الأقدام الغليظة المتحكّمين بالسياسات الوطنية ، وتداخل مصالحهم مع المصالح الدوليّة وأصحاب النفوذ عبر القُطريّين . ولذلك أصبحت محاولات تمرّد الجيوش أكثر صعوبة إضافة لسبب ثانٍ مهم وهو التقدّم العلمي الذي يمكّن الأنظمة من اكتشاف المؤامرات بطرق أسرع ، وقد فشلت محاولات المتمرّد في الكثير من الأحيان كما في جورجيا وبنجلادش وغيرها ، وفي هذه الحرب الجديدة ، فإن تمرّد الجيوش بحاجة إلى ثورة من نوع جديد ، فليس ما كان يحصل في السابق من تمرّد يصلح لهذا العصر ، وهروب حلفاء الولايات المتحدة وعدم بقائهم في ذلك الحلف ، مع تراجع قوّتهم في مقابل قوّة المجاهدين ، لم يكن لوحده تمرّداً على الولايات المتحّدة ، وطفوق الجنود والضباط الأمريكيّين في الجيش الأمريكي ، وضجر السياسيّين من انهزامات جيشهم أمام أضعف الجيوش العالمية لا يعتبر تمرّداً على الجيش وعلى الدولة ، بل حتى ولو كانت أعداد المنتحرين فيه بالمئات ، وحتى لو تمرّد أكبر قياداته كالجنرال " ماكريستال " وغيره مما أظهروهم على أنهم قد استقالوا وهم أغلب قيادات الجيش وبعض الوزراء ، فلن يُعدّ ذلك تمرّداً فعليّاً كاملاً ، فالجيوش الحديثة في هذه الحرب الحديثة بحاجة لنوع مغاير وحديث من الثورة والتمرّد .

إن التمرّد والثورة على جيوش الولايات المتّحدة وحلفائها في حربهم ضد القاعدة قد تَمثّلَ من خلال تسريب عدد كبير من المتمرّدين في الجيش الأمريكي وبعثاته الدبلوماسيّة لمئات الألوف من الوثائق السريّة ، تمرّدوا بطريقة حديثة ستؤثّر تأثيراً بالغاً على السياسات الأمريكيّة ومكانتها العالمية ، وذلك فيما بات يُعرف بـ " وثائق ويكيليكس " .

لقد مكر الله عز وجلّ سابقاً بأمريكا ، فسخّر للعالم الإعلام الأمريكي لينقل أحداث أيلول/سبتمبر بكل جزئياتها ، فتحقق أحد أهم الأهداف التي أقيمت من أجلها العملية ، وسخّر الإعلام الأمريكي لينشر صور أبوغريب ، وسخر المتمرّدين في الجيش والدوائر الرّسميّة الأمريكية لينقلوا العديد من الوثائق السريّة الخطيرة إلى موقع ويكيليكس ...

لقد توقّع الخبراء أن تحصل ثورة ضد الإعلام المسيّس الذي فقد أهم مقوّمات بقائه وهي كشف الحقائق ، الإعلام المسيّس الذي تقوده الإدارة الأمريكية وتستخدمه في تحقيق أهدافها الإمبرياليّة بعدما تدهور وضع الإعلام الحرّ و تمت السيطرة عليه سيطرة تامّة من قبل الإدارة الأمريكيّة ، فقد أصدر جون آشكروفت سابقاً تعليمات إلى وزارة العدل بالامتناع عن تسليم وثائق بموجب قانون " حريّة المعلومات " ، كما أن السلطات التنفيذية نفسها قد قلّلت بشكل صارخ من نوع الوثائق التي قد تنشرها أو تفكّر في نشرها للعلن ، وأقرّ الكونجرس " القانون الوطني " الذي يكرّس " الدولة البوليسيّة " ، وحتى وقائع أحداث أيلول/سبتمبر لم يتم نشر التحقيقات الخاصة بها ، وبتزايد الأسئلة الغامضة المتعلّقة بالأحداث المباركة على برجي التجارة العالمي والبنتاجون وإثر احتجاجات كبيرة من قبل أهالي القتلى ، أنشأ الكونجرس " اللجنة الوطنيّة حول الاعتداءات الإرهابيّة على الولايات المتّحدة " ، ولكنّه شدّد على تقييد عملها بدرجة جعلت الرئيس المعيّن الأول للّجنة " هنري كيسينجر " يضطر إلى الاستقالة بعد ثلاثة أسابيع فقط !

إنها ليست " الحرب ضدّ الإرهاب " إنما هي " الحرب ضدّ الحقيقة " بكل معانيها ..
لم تبالغ " جين كير كباتريك " سفيرة الولايات المتحدة في الأمم المتحدة في الثمانينات ، عندما قالت إن ( الإعلام هو بكل بساطة ، العنصر الأهم في سياسة أمريكا الخارجيّة ) ، وكذا قال المؤرّخ وعميد جامعة كولومبيا " ألان برنكلي " : إن ظاهرة " تدجين " الإعلام الأمريكي ليست ظرفيّة وإنما هي بنيويّة ، ويرى - في ندوته التي أقيمت في جنوه نهاية 2003 - أن الإعلام الأمريكي لن ينجح في أن يستيقظ . ويقول " إيان ماسترز " في " لوس أنجليس تايمز " : ( إذا كان الإعلام هو أوكسجين الديمقراطيّة ، معنى ذلك أن ثمّة من استعمل الغاز ضد الولايات المتّحدة ) !

تختار الإدارات الأمريكية اللّحن ، ووسائل الإعلام – المحلّيّة والعالميّة - ترقص عليه ..
ولكن ذلك الوضع المزري من المحال أن يبقى مع هزائم أمريكا وحلفها القائم على الظلم ، وقد توقّع الخبراء تغيّر الحال الذي وصل إليه الإعلام الحرّ ، فالمناضل والمؤرّخ الصحافي " إدوارد غالينو " قال في 2001 : ( يمكن للعالم أن يتغيّر . ليس محكوماً علينا قبول ذلك ، حتى ولو كان هناك نظاماً يبدو أبديّاً ، لكنّني لا أعتقد أنه أبدي ) . وقد وصف " روبرت فيسك " في أيلول/سبتمبر 2005 الصحافة العالميّة التي يقودها الغرب ويتباهى بحريّتها : إنها فقط صحافة السجون ، أو صحافة الفنادق ، وأكاذيب وزارة الخارجية والبنتاجون والبيت الأبيض والحكومة البريطانية ووزارة الدفاع في لندن وغيرها ، وهي سبب بقاء الحرب مستمرّة . ثم أتبع الصحافي المخضرم تحليله قائلاً : ( وفي إحدى المراحل سيكون هناك تفجّر من النوع الذي لا يمكن تفسيره من أصحاب السلطة . لا أعرف ما الذي سيحدث ، لكنّه سيحدث حتماً ) ، وقد حدث ذلك التفجّر ومن النّوع الذي لا يمكن تفسيره من أصحاب السلطة من خلال تسريب الجيش والدوائر الرسميّة الأمريكية لوثائق الويكيليكس ، مرغِمين بفعلهم كل وسائل الإعلام العالميّة على نقل الحقائق التي أتوا بها .

لن تعاني " آمي جودمان " صاحبة " الديمقراطيّة الآن! " بعدما كاد أن يبحّ صوتها ويجفّ حبر قلمها وهي تسعى لإثبات تسييس الإعلام الأمريكي وفساد الصحافيّين وأشهر المحطّات الإخبارية . فإن في فقد الإعلام الحرّ ، تُفتقد الحقيقة ، ويَستقوي الظلمة ، ويُتلاعب بالعقول ، وتضيع الحقوق ، وأظنّ بأن " جودمان " تزهوا اليوم فرحاً بعدما ثبت بكل لغات العالم ومختلف توّجهاتهم صحّة تحقيقاتها ..

ستحاول بعض الجهات في الدوائر الأمريكية الاستفادة مما يمكن الاستفادة منه من الحدث في " المدى القصير " ، كما استغلوا فضائح " أبو غريب " في تحقيق بعض الفوائد في حينها ، وكما فعلوا مؤخّراً بفقّاعة ما عرف بقضية حرق القرآن الكريم من أجل صرف النظر عن التحقيق في إخفاقاتهم في الحرب على " الإرهاب " ومآلاتها ، والذي تشتدّ المساءلة والمحاسبة عنها في التاريخ المصادف لأحداث أيلول/سبتمبر في كل عام . وعلى ذلك ، فربما تقوم الدوائر الأمريكيّة - بعد انتشار الفضائح والوثوق بناشريها - بتسريب بعض الوثائق المزوّرة لموقع ويكيليكس لتمرّر بعض سياساتها بشكل خفيّ ، وقد لخّص نائب رئيس مجلس النوّاب وزعيم الحزب الليبرالي الديمقراطي الروسي " فلاديمير جيرينوفسكي " بعض الأهداف بقوله : إن كشف مثل هذه الوثائق أمام الرأي العام العالمي مجرّد " بروبوجاندا " لتغطية الإدارة الأمريكية على خسائرها وسياساتها الفاشلة في أفغانستان ... إن ما يثبت ذلك أيضاً فشل حزب أوباما في تحقيق الأغلبيّة في الكونجرس وتواصل الخلافات المستمرّة ، بالإضافة للمشاكل الأمريكيّة مع كل من الصين وكوريا الشّماليّة ، ونوّه إلى أنه : على الرغم من أن 80% من المعلومات التي نشرها موقع ويكيليكس دقيقة ، إلا أنه لا يستبعد إضافة واشنطن لبعض المعلومات المغلوطة .

وفي هذا المقام ، لا يهمّتي ما ستقوم الإدارة الأمريكيّة بتزويره ثمّ تمريره من خلال الموقع ، ولا يهمّني التحقّق من أعداد المتمرّدين الذي عملوا على إخراج الوثائق أو مناصبهم - وهم بلاشك كثيرون جداً ومنظّمون ، ولن تسمح الإدارة الأمريكية بشكف حقيقتهم – والذين لن تُكشف حقيقتهم إلا من خلال وثائق ويكيليكس أخرى مخصّصه لهم ! ولا تهمّني توجّهات من قام بالتسريب – ولابد أن تكون لهم خلفياتهم وتوّجهاتهم وخصوماتهم وتصفية لبعض حساباتهم فيُخرجون ويُخفون بانتقائيّة ما يريدونه وما لا يريدون ، كما قد أخفوا الكثير مما يتعلّق بإسرائيل وما يتعلّق بفشلهم وهزائمهم في الحرب ضد الإرهاب - ، ففي أوقات الشدّة والهزائم يبحث كل حزب وكل جهة متنفّذة عمّا تستطيع أن تتقوّى به على منافسها في المدى القصير حتى لو كان على حساب المصلحة العامة أو الأمن القومي ، ولست مكترثاً بما ستحقّقه الإدارة الأمريكية من فوائد في " المدى القصير " ، ولتذهب أمريكا إلى الجحيم ، إنما الذي يهمّني هو تأثير هذا التمرّد في " المدى المتوسّط " و " المدى الطويل " على الولايات المتّحدة الأمريكية ونفوذها وتحكّمها في العالم ، لأن هذا التأثر له علاقة مباشرة بما يخطط له المجاهدون وهذا هو مربط الفرس .

إن أكثر ما سيتأثر من تسريب هذه الوثائق هو " القوّة الناعمة " – أو المعنويّة - " Soft Power " للولايات المتحدة وهي أهم من " القوّة الصّلبة " - أو الخشنة - " Hard Power " خصوصاً في هذه الفترة من الضعف والتردّي التي أصيبت به ، وقد وضع المتنفّذون والشركات عبر القطْرية المدعو " باراك أوباما " في منصب الرئيس ليعمل على تقويّة القوّة الناعمة للولايات المتحدة ، فهم في أحوج ما تكون لها اليوم في ظل استمرار ضعف القوّة الصلبة المتمثّلة بالقوّة العسكريّة والاقتصادية وغيرها ، والفرق بين القوّتين كما يصفها " جوزيف ناي " : ( القوّة الصلبة هي القدرة على جعل الآخرين يفعلون ما لا يريدون فعله باستخدام التهديد والوعيد ... والقوّة الناعمة ، من جهة أخرى ، هي القدرة على الحصول على النتائج المطلوبة لأن الآخرين يريدون ما أنت تريده . وهي القدرة على تحقيق الأهداف من خلال الجاذبيّة ... وتتمثّل في إقناع الآخرين باتباع الأعراف والمؤسّسات التي تنتج السلوك المرغوب أو جعلهم يوافقون عليه ).

كانت أمريكا تعمل على أن تكون النموذج الملهم لدول العالم وشعوبهم ، وهذا أحد أهم أركان قوّتها الناعمة ، لقد كانت الثّقة العالية بالنفس في يوم من الأيام قد جُسّدت من خلال عبارة " مادلين أولبرايت " عند حديثها عن الولايات المتحدة بقولها : “ The indispensable nation “ أي " الأمّة التي لا غنى عنها " ! وفي خلال أقل من عشر سنين تبدّل الحال إلى الأمة " الطفيليّة " التي تقتات على جهد الآخرين وتكرهها شعوب العالم قاطبة !

ستؤدي فضائح النظام الأمريكي إلى ازدياد إمكانيّات المجتمع الأمريكي – على وجه الخصوص – ومجتمعات دول العالم لرؤية النواقص والعيوب التي أصابت السلطة الأمريكية ، والعيوب التي ستصاب بها قريباً ، وهذا يؤدّي بمرور الوقت إلى تكوين وعي جماعي ، والذي يمكن أن يظهر على شكل برنامج جديد لتنظيم وإدارة المجتمع ، ولإقصاء تلك السلطة الشرّيرة ، " فبئساً للملك الذي يزدري من القانون ، وبئساً للشعب الذي قد يسكت عن ازدراء القانون " كما يقول " فولغين " .
وحينما تعجر الولايات المتحدة عن تحقيق ما تعهّدت به أمام شعبها وشعوب العالم ، أو حينما لا تستطيع تحقيق ما تعهّدت بتحقيقه إلا من خلال زيادة عظيمة في التكاليف وطرق الخداع وتقليص الحريّات المدنيّة ، لا يتراجع عندئذٍ ذلك الدعم العام الذي تمتّعت به إلى ذلك الحين فحسب ، بل يتراجع أيضاً بعد زمن ليس بالطويل تأييد مواطنيها أنفسهم للنظام المركزي الأمريكي ..
سيشعر المواطن الأمريكي بالإحباط وهو يرى الأنموذج الذي حلم به ظالم مخادع جبان فتّان ومنحط ، وستكون ردّة فعله عنيفة في المديين المتوسّط والطويل ..

التاريخ يُعلّمنا أن تشكيل وتلاشي المثل العليا والعقائد العامّة بالنسبة لكل عرق تاريخي - والتي تشكّل الهيكل العظمي للحضارات - تمثّل نقاط الذروة في تاريخه ، ومنذ أن يبدأ الناس بمناقشة فَقْد وزوال عقيدة كبرى ، فإن زمن احتضارها يكون قد بدأ ! فمن الصعب تدمير المثل العليا والعقائد العامّة ، ولا يمكن تغييرها إلا بعد ثورات عنيفة ، وفقط بعد أن تفقد تقريباً كل هيمنتها وسحرها على النفوس . ومن وسائل المجاهدين في حربهم من أجل الانتصار على الإمبريالية الأمريكية ، هو أن يبذلوا قصارى جهدهم لتقويض المزيّات التي تجعل النظام الأمريكي مغرياً ، لا في مركزه وحسب ، بل وفي الدول الحليفة له وباقي دول العالم الأخرى ، لأن ضياع هذه المزيّات ضمانة مؤكّدة في الأمدين المتوسّط والطويل لخسران النظام الأمريكي المحاسن التي يسوّغ بها وجوده وقيادته ، يقول "Samuel Huntington " : ( إن رفض قانون الحضارة الغربية يعني نهاية الولايات المتحدة التي نعرفها ، ويعني بالفعل نهاية الحضارة الغربيّة ). ولا أرى أن تكون الولايات المتّحدة بعد بضع سنين إلا سجن يُنفى فيه المجرمون بعيداً عن المجتمعات الشريفة ! وحينها ستعود شعوب العالم المضطهدة للعيش في عزّ ورخاء ..

الثورة التي أحدثتها وثائق ويكيليس سيكون أثرها على العالم أجمع ، فكلّ ما يَكشف عن سوءة أمريكا ويضعفها فهو في صالح شعوب العالم ، وسيرتاح " تشومسكي " و " وليام بلوم " - وغيرهم - وسيضعون رجلاً فوق رجل وهم يرون المحلّلين السياسيّين العالميّين قد فقهوا " أخيراً " حقيقة النظام الإمبريالي الغربي بقيادة أمريكا بطريقة موثّقة ..
في عصر التقدّم العلمي وثورة الاتصالات يصبح الكشف عن الحقائق فيما عُرف بـ " وثائق ويكيليكس " عنواناً للتمرّد الحديث على الجيوش الحديثة ، وثورة متطوّرة على الأنظمة المتطوّرة ، في حرب جديدة بأسلوب جديد . ولقد كتب " جورج أوريل " روايته عام 1984م " في زمن الخداع العالمي ، يصبح قول الحقيقة فعلاً ثوريّاً " ..

لن أسأل عمّن ينتصر كل يوم في الحرب هل هي القاعدة أم هي الولايات المتّحدة ، لأن الحقيقة مرّة كما يقال ! ولن أسأل عن أصحاب النوايا السليمة هل هم القاعدة أم هم الأمريكيّون ، لأن تأثير الإعلام المسيّس ما زال متراكماً في الأذهان . ولكن بعد أن تكشّفت لدول وشعوب العالم والمنظّمات الأهلية والحقوقيّة حقيقة خداع وفساد النظام الغربي بقيادة أمريكا من خلال " تمرّد الويكيليكس " فإن سؤالي هو : كيف ستكون خريطة دول العالم وشعوبها في حالة استمرار وتصاعد وتيرة طغيان الإمبراطوريّة الأمريكية الأحاديّة القطبيّة لو لم تحصل أحداث أيلول/سبتمبر ؟
وقبل أن أستمع للجواب .. فإنني .. أبتسم ،،

كتبه / أسد الجهاد2
رأس حربة المجاهدين
الأربعاء 9 محرّم 1432 هـ
الموافق 15/2/2010