لقد أثبتت تجارب الحياة على مر التاريخ أن الذين يريدون إحقاق الحق وإبطال الباطل على أرض الواقع ما عليهم إلا أن يجعلوا من البلاغ المبين وسيلتهم للوصول إلى عقول الناس وأفئدتهم ، وما عليهم إلا أن يتحلوا بالصبر والحكمة وعزم الأمور ، حتى يتسامى خط سيرهم على أمواج الإحباط ، ودعوات التخذيل وفحيح أفاعي التضليل ..
ومن البدهي أن البلاغ لن يكون مبينا إلا بالانتقال بالكلمة الطيبة الضاربة بجذورها في الفطرة التي فطر اللهُ الناس عليها إلى سلوك خادم للحق ، وقادر على تقديم القدوة المؤدية إلى إحياء الأمل في نفوس الراغبين في الخروج من نفق الارتهان للطغيان بصوره المتعددة وأشكاله المخيفة ، ونتائجه المذلة لأعناق البشر ..
وما دمنا قد آلينا على أنفسنا أن نلتزم كلمة الحق ونسعى إلى تحقيقها في واقع حياتنا ، فلابد لنا أن ندرك باليقين الذي ليس بعده شك أنه لا وجه للغرابة إذا ما عانينا من لأواء الطريق ، ومنعطفات الفتن ، ومكائد اللئام ..
وأن علينا أن نؤمن إيمانا جازما – ونحن نسير في درب البلاغ المبين – أن صرير الأقلام وغزارة مدادها ، عامل حاسم في نتائج الجهود التي نبذلها ضد التخلف والقهر والاستبداد ..
قد يبدو الأمر مستغربا لانعدام التكافؤ بين أطراف المعادلة ، إلا أننا على ثقة – بعد عون الله سبحانه وتعالى – أن حروف الكلمات قادرة على التأثير والتغيير ، وأن مدادها قادر على إطفاء لهب البارود ، وأن صرير الأقلام هو الأقدر على إسكات أزير الرصاص ..
لقد كانت الكلمة بداية النهاية لجحافل الباطل وأصنام الجاهلية ونيران المجوس ..
وإننا بالكلمة الصادقة ذاتها ، وبالسير على الطريق نفسه ، لقادرون – بإذن الله تعالى – على أن نسهم مع غيرنا من قوى الخير في تشكيل الذهنية اليمنية بما يحدث نقلة نوعية في جميع نواحي الحياة التي نعيشها ، والتي يحاول البعض طمس معالم الرؤية المبصرة لمستقبل أحسن حالا مما نحن عليه اليوم ..
إننا وبالكلمة الطيبة ، وبالمجادلة بالحسنى نقتدي بنبي الرأفة والرحمة – صلى الله عليه وسلم – صاحب النهج القويم في التعامل مع من اتبعه أو اختلف معه والذي بلغ بأسلوب الحوار بالتي هي أحسن أعلى مراقيه ، وكان قدوة في الحكمة وفي الصبر ، وقدوة في الرغبة المستشرفة في إبلاغ الحق الذي حمله إلى كل فرد على وجه البسيطة ، وكان الأقدر – دائما وأبدا – في ضرب المثل الأعلى في المثابرة على هداية الإنسان حتى لو صعر خده عنه ، أو تجافى بعناده عن الاستجابة له ..
وعلينا إذا أردنا فلاحا في تحقيق أهدافنا ، أن نحثَّ الخطى على نفس الطريق ..نتأسى به – صلى الله عليه وسلم – في كل مراحل السير، ونعض على سنته بالنواجذ ، حتى لا تزلَّ الأقدام ، ولا تلهث النفوس وراء سراب الأوهام ..
إن الكلمة هي الأساس الذي يرتكز عليها النضال السلمي لنيل الحقوق والحريات ، وهي بوابة الدخول إلى أي حوار جاد بين مكونات ألوان الطيف السياسي ، يفضي إلى وقف عجلة التدهور الحاصل في معظم – إن لم يكن في كل – كيانات الأمة الإسلامية التي أمسكت بزمام أمورها أنظمة شمولية قمعية ، وصلت إلى سدة الحكم بالقوة الفاضحة ، أو القوة المتلحفة بتزوير إرادة شعوبها ، أو بشراء ذمم المتسولين على موائد المتنفذين في أوساطها ، ومغتصبي حقوقها ، وسالبي حريتها ..
إن أمتنا الإسلامية – ونحن جزء منها – تعيش حالة انفصام في غالب أحوالها ، بين دين يُلزم أتباعه بمقامة الطغيان والظالمين وقهر الجبارين ، واقتلاع جذور المستبدين واستئصال شأفتهم من حياتها ، وبين واقع تُمتهن فيه كرامتها ، ويستهزأ فيه برأيها ، ويعبث فيه بمقدراتها وثرواتها ، ويُسلب فيها حقها في اختيار من يقوم بخدمتها ويدير شؤون حياتها ..
هذه هي الحقيقة ..نسطرها ونحن نعلم أن الإفصاح عنها قد يجرح المشاعر ، ويؤذي النفوس ، ولكننا – وبكل صراحة مع النفس – لم نعد قادرين على تجاهلها ، ولا السكوت عليها ..
فالإسلام لا يكتفي من معتنقيه أن يصدروا بيانات الشجب والتنديد ضد الطغيان والظلم والجبروت ، بل يلزم أتباعه بالرفض والمقاومة ، وإحقاق الحق ، وإبطال الباطل ، ويكره أن تسيطر الروح الانهزامية على عقولهم ونفوسهم ويستصرخهم أن ينبذوا الفكرة الماكرة التي أسهمت في تخديرهم واستسلامهم وإذلالهم ، وإسكات صوت الحق بين ظهرانيهم ، وإقناعهم بأن من اشتدت وطأته وجبت طاعته ..
إن الإسلام جاء ليحرر البشر من طغيان بعضهم على بعض ، ويحجزهم عن السقوط في براثن العبودية لبشر مثلهم ، وحرم الظلم بكل صوره ومذاهبه ، ولفت أنظار الناس إلى أنه لا حرية لهم إلا بعبوديتهم لخالقهم ومالكهم ومن بيده مقاليد أمورهم في دنياهم وأخراهم ، وأعلن لهم في حواضرهم وبواديهم أنهم مكرمون بآدميتهم مهما اختلفت ألسنتهم وألوانهم ، ونبه إلى خطورة مآلهم إن هم مسخوا إنسانيتهم بعبوديتهم لبعضهم ، وانقادوا كالقطيع الهائم الذي لا يدرك سوء المصير ..
لقد آن الأوان لهذه الأمة التي أطبق عليها الجهل بحقيقة دينها ردحاً من الزمن ، وكبّلتها أغلال الدجل والخرافة ، أن تلقي عنها ثقافة الاستعباد والاستبداد التي طرأت عليها باحتكاكها بالأمم الوثنية ، والتي سرت في شرايين مجتمعاتها على حين غفلة من تاريخها ، وزيّنت لبعض الواهمين حقهم الأبدي في استعباد بشر حق عليهم القول أن يظلوا مستعبدين لهم مدى الحياة ..
إننا إذا أردنا أن نغير من واقع أمتنا الكئيب ، وننتشلها من مستنقع الوهن ، وننطلق بها نحو آفاق المستقبل المشرق الذي يكون فيه غدنا أفضل من يومنا ، فلابد أن نكون على وعي كامل بأن الطغاة والمستبدين لم يتحكموا في مصائر أمتنا ، ولم يتمكنوا من تحويلها إلى مجرد متاع ، إلا بعد أن استطاعوا ببهلوانيتهم الاستمرار في هذه الحياة إلا أن تتزين بنا كراسي حكمهم ، وأعقاب بنادقهم ، ومقابض سياطهم ..
إن إرث الاستبداد والاستعباد الثقافي المتناثر على مساحات واسعة من الأرض الإسلامية ، هو الذي ساعد الطغيان بكل صوره وأشكاله على إعاقة الأمة نحو السير لاستكمال أنظمة الحكم القائمة على الالتزام بالدستور، والانصياع للقوانين ، والخضوع التام لمقررات المؤسسات المنتخبة ، والاستفادة القصوى من نظم الإدارة الحديثة التي تسهم – إلى حد كبير – في الدفع بنا للحاق بركب الأمم الناهضة علميا وصناعيا وخدميا ..
لقد شكلت ثقافة الاستبداد في أوساطنا ذهنية طاردة للآخر ، وزيّنت الحكم الشمولي في أعين المدعين لحقهم الإلهي في حكم غيرهم لأن ذلك قدرهم ، وحق على الآخرين وقدرهم أن يحكموا ، ولا خروج لنا من إسار هذه العقلية الشمولية ، وحكم الحزب الواحد ، والحاكم الفرد ، إلا بنشر ثقافة النضال السلمي لنيل الحقوق والحريات ، والارتقاء بوعي المواطن والقوى السياسية جميعها ، إلى الالتزام الجاد بقيم الخير والفضيلة ، وعلى رأسها الرغبة الصادقة في إنصاف الغير في جميع الحقوق الممنوحة له في المجال السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي أو الثقافي ، وترسيخ ثقافة القبول بالرأي والرأي الآخر ، وأن نسعى – جميعا – إلى الارتقاء بأنفسنا إلى حالة الاستعداد الصادق بالقبول بنتائج الانتخابات ، سواء كانت لصالح هذا الطرف أو ذاك ، دون الشعور بالعار لمن لم يوفق بالفوز ، مهما كانت الانعكاسات النفسية سلبية في ظاهرها ..
إن علينا أن نسعى جهدنا لتجفيف المنابع الفكرية للاستبداد والاستعباد ، وأن ننتصر لثقافة الحفاظ على حقوق المستضعفين ، وأن نعمل بشكل دائم ومستمر على تجذير معاني الحرية في أوساط أمتنا ، وترسيخ دعائم السلم الاجتماعي بإقامة العدل ورفض الظلم على من كان وممن كان ..
وإن علينا أن ندرك – وبكل صراحة ووضوح – أن المسلمين اليوم هم الوحيدون على وجه الأرض الذين سلبهم الطغاة حقوق إنسانيتهم ، وامتهنوا كرامتهم ، وضيقوا الخناق على حريتهم ، ووجدوا في الاستبداد بهم متعة لا يعادلها إلا سماع أنين ضحاياهم ، برغم الوقر في آذانهم ، والاستكبار في قلوبهم ..
إننا نعلم أن هناك من المستبدين من يحلو له أن يجر الأمة الإسلامية إلى براثن العنف وبرك الدماء ، وعلى طلائع هذه الأمة أن تعي ما يحاك ضدها – في السر والعلن – من مكائد ومصائد ، وأن تعقل أنه لا سلاح لها – بعد عون الله عز وجل وحفظه – سوى الصبر والمصابرة ، وتوسيع دائرة الوعي في صفوف الجماهير من خلال الكلمة التي عليها أن تحسن اختيارها ، وتحسن استخدامها ، لكي تصل إلى أحسن نتائجها ..
وإن على قادة الفكر أن يعيدوا للجماهير ثقتها بجدوى الكلمة وقدرتها – بإذن الله تعالى – على تحطيم أوكار الجور بأوراق الاقتراع ، وأن تدرك أن خفع نعالها وهي تسير نحو مراكز الانتخابات أشد على المتجبرين من هدير الدبابات ، وأن شفافية العمل السياسي وطهارته ، هو المعول الذي تهدم به قلاع الظلم ، وحصون الطغيان ..
وأن على القوى السياسية وهي تسير في مقدمة جماهير أمتها ، أن تكون على ثقة مطلقة أن الرصاصة لا تقتل الكلمة ، وأن العنف لن يغتال الحوار ، وأن الجهل لن يلغي العقول ، وأن الاستبداد لن يصمد أمام الصبر ، وأن الليل – مهما طال – لن يقف حجر عثرة أمام بزوغ الفجر ...