2- صباح يوم جديد
صنعاء
24/ 7/ 1995م
تررررررررررررررن
تررررررررررررررن
تررررررررررررررن
تباً لذلك الوحش الرابض على منضدتي و الذين يطلقون عليه اسم (الساعة المنبه), فهو لا يمل من اختطاف حبيبي (النوم) صباح كل يوم, فكلما أسمع زئيره يبدأ يوم جديد بكل حلاوته و مرارته, و غموضه...
استيقظت في الصباح على صوت ذلك الزئير كالعادة فرحت أقوم بالطقوس الصباحية اليومية من غسل الوجه و تنظيف الأسنان و غيرها من تلك الطقوس التي ما زال أصوات أمهاتنا يرن في آذاننا ملحّاً أن نقوم بها..
و أخيراً انتهيت من كل تلك الطقوس المعقدة التي طالما مللت منها لكنني لم أنكر يوماً أهميتها, و رحت أرتدي ملابسي على عجل خوفاً من مصيدة (زحمة المواصلات) التي تعيق حركتي دائماً و تؤخرني عن الصحيفة, فلم يعد مبرر الزحمة ملائم لمدير التحرير الذي قد سمعه عشرات المرات حتى بت أخاف من انفجاره كقنبلة موقوتة في وجهي بأي لحظة, و هكذا تجدونني أقود سيارتي إلى مقر الصحيفة فما أن وصلت حتى أيقنت أن أبشع كوابيسي سيتحقق بعد قليل, فلقد كان عقارب ساعتي تشير إلى التاسعة و الربع...
استقبلني البواب ببرودة و سماجة كالعادة و هو يلوك ذلك الشيء الأبدي الذي يوجد في فمه دائماً..
- صباح الخير يا عم (عبده)..
قلتها متصنع المرح فهز رأسه بلا مبالاة بمعنى ( اذهب إلى الجحيم).. يبدو أن مزاجه اليوم ليس على ما يرام.. تجاهلت الإهانة و خطوت إلى الداخل فكان أول وجه أراه هو وجه (هاني), فما أن رآني حتى أستبشر وجهه و قال:
- الحمد لله, لقد وصلت في الوقت المناسب.. لقد كنت ذاهب لأنده لك حسب طلب المدير الذي وصل لتوه, يبدو أن حظك رائع اليوم فلن يشعر المدير بتأخرك هذه المرة.
- لا أعتقد أن الأمور بهذا الروعة, و السبب ببساطة هو أن مكتبه يطل على موقف سيارات الصحيفة, و هذا يعني أنه يعرف يقينياً أنني قد تأخرت من جديد.. لكن لا تقلق يا عزيزي, فلقد تعودت تأنيبه و صراخه حتى صارت فكرة عدم سماعهما في اليوم لا تُطاق..
و ودعته و توجهت مباشرة إلى مكتب المدير, بينما هو يشيعني بنظرات من طراز ( لكم – أرثي – لحالك – يا صديقي).. و أخيراً وصلت لمكتب المدير, فطرقت الباب بحذر و توجس فسمعت صوته الأجش ينده من الداخل يسمح لي بالدخول.. و في الغرفة أدركت أن توقيت القنبلة قد أقترب كثيراً من لحظة الصفر...
*** *** ***
" أين كنت حتى الآن أيها الحشرة التي تتظاهر أنها سحلية؟ "
افتتحت يومي في الصحيفة بهذه العبارة الرائعة التي تُظهر مدى رقي و بلاغة مديري.. لا داعي أن أصف مديري لكم فهو كأي مدير آخر على هذا الكوكب ممن يمتازون بقصر القامة و خفة العقل و الذين يتباهون بشدة بكروشهم لسبب لا أدري كنهه حتى الآن.. طبعاً أنا لا أعني كل المدراء بهذا الوصف, فأنا لا أحب أن أضيف لقائمة مشاكلي دعوى من (جمعية المدراء العرب), إن كان هناك واحدة بهذا الاسم,.. على العموم كنت أتوقع سماع هذه العبارة و قد تستغربون لو أقول لكم أن مزاجه (رائق) اليوم بالفعل فلم تكن تلك العبارة أسوأ ما سمعته منه خلال مسيرة عملي في الصحيفة..
- أنها زحمة المواصلات كالعادة يا سيدي.. أنت تعرف هذه الأمور..
- حسناً, كنت أتوقع هذا الرد منك, فعلى ما يبدو أنك لا تهوى تغيير المبررات و لو على سبيل المجاملة..
أي مجاملة في هذه الأمور, ألم أقل لكم أنه مختل عقلياً, لكنني رديت عليه..
- سأحاول يا سيدي.. سأحاول..
أستبشر وجهه و كأنما حُلَّت مشكلة المبررات المتكررة, و دعاني للجلوس, و لكم أن تروا علامات التعجب على وجهي فمن النادر أن يدعوني المدير للجلوس معه, فجلست و الفضول يقتلني لمعرفة السبب..
- أسمعني يا (أكرم), لقد تناقشت في الأمس مع إدارة مجلس الصحيفة حول أهم الوسائل و السبل لتطوير الصحيفة, فخرج الاجتماع بعدة توصيات أهمها تخصيص صفحتين لأخبار الحوادث, فأخبار القتل, السرقة, الاغتصاب و غيرها من تلك الجرائم التي يقشعر لها البدن تستهوي القراء كثيراً و يتوقع المحللين الاقتصاديين بارتفاع عوائد الصحيفة و زيادة حصتها السوقية..
- كلام جميل و توقعات أجمل, لكن ما علاقتي بالموضوع؟!
جاهد المدير كثيراً و هو يحاول أن ينهض من مقعده, و أخيراً توازن و كأنه ديناصور من العصر الحجري يحاول أن يقف بعد صراع دامي مع ديناصور آخر, ثم مشى بتؤدة نحوي و جلس بالمقعد الذي يقابلني, ثم أبتسم محاولاً أن يكون ودوداً و قال:
- في الحقيقة لقد وقع اختيار مجلس الإدارة عليك لتحرير صفحة الحوادث هذه, و أصبحت مطالباً منذ هذه اللحظة بالبحث عن الجرائم و الكتابة عنها في عدد الأسبوع القادم..
- لكنني يا سيدي محرر الصفحة الأدبية منذ أكثر من سنة, فأنا أحب الكتابات الأدبية كثيراً ثم.. ثم إنني أحاول جاهداً أن أتفادي سؤ الحظ الذي يحالفني دائماً, و أنت تطالبني أن أبحث عن جرائم لأكتب عنها ما هذا الطلب بالله عليك؟!..
فجأة تحولت ملامح المدير ليصير أكثر شراسة, رغم أنه يبدو مهرج في هذا الجانب الذي لا يليق به, إلا أنه بدا مخيف بحق و هو يقول:
- و من قال إن هذا طلب.. أن هذا أمر, ثم من العار بحق أن يكون شخص مثقف مثلك أو أديب كما تحب أن تُطلق على نفسك و تؤمن بترهات كالتطير و النحس و ما إلا ذلك من هراء.. يجب عليك مباشرة عملك من هذه اللحظة و إلا…
طبعاً جميعكم يعلم ماذا بعد إلا هذه, أقل شيء يستطيع عمله هذا المأفون هو فصلي من عملي.. لهذا وافقت على مضض و ذهبت إلى مكتبي تراودني هواجس المهام الجديدة التي وكلت بها, تاركاً المدير مزهو بانتصاره عليّ…
و هكذا بدأت حياتي الجديدة في أكثر العوالم شراً..
عالم الجريمة..
*** *** ***
يتـــــــبع
Bookmarks