ائما ما أصاب بإعياء ذهنى عندما احاول ان اتناقش مع احد الناصريين فى محاولة يائسة وبائسة لإيضاح أن انقلاب يوليو ليس اكثر من قنبلة امريكية صنعتها الوكالة المركزية والقتها الخارجية الامركية لتفجير مصر اكثر من مرة على طول العقود التى تلت سنة 1952 * خصوصا اذا علمنا ان هناك فعلا قنابل من خصائص انفجارها قدرتها على ان تفجر نفسها اكثر من مرة * مثل تلك القنابل التى القتها اسرائيل على المطارات والممرات المصرية فى 67 * حتى تكون عملية اعادة الاصلاح وإعادة البناء عملية فى غاية الصعوبة * بل ومحفوفة بالمخاطر .


انفجرت قنبلة يوليو ذات الصناعة الامريكية لاول مرة فى 23 يوليو 1952 * واخذت فى طريقها الاخضر واليابس * كان عبد الناصر هو البولدوزر الذى جرف التربة المصرية الصالحة لكل خصائص النمو الفكرى والثقافى والعلمى والسياسي والفنى والادبى * وقتل واعدم واعتقل وعذب ونكل – وبعد ان نجحت عملية التجريف جاءت عملية ارساء الخراسانات الامريكية للمبانى الجديدة التى انتوى الرئيس السادات ان يشيدها * ودخلت البلاد فى عهده العصر الامريكي من اوسع ابوابه فكانت المبانى الامريكية انفتاح على السوق الحر غير مدروس حضن الفساد ولم يحتضن مصر اطلاقا * تيار دينى اطلقت له حرية العمل حتى يتم تمييع الولاء الوطنى * صلح مع اسرائيل بدأ جيدا ثم اسئنا استغلاله لصالحنا فبات كله لصالحها * وكان مبارك هو الذى علا الابنية الامريكية طابق فوق طابق ووسع رقعتها بعد ان رمى السادات الخراسانات والاساسات التى يمشى عليها خلفه ... فلم يكتف مبارك بالصلح المصرى الاسرائيلى *. بل كان يدفع العرب دفعا نحو صلح مماثل * حتى يضمن استمرار بذل المساعدات الامريكية للقاهرة * فأقنع عرفات بالصلح مع رابين فى عهد الرئيس بيل كلينتون * وتكرر المشهد مع الملك حسين والاردن * وكان اول الموقعين على معاهدة حذر الاسلحة النووية * بل كانت مصر تندد دائما بمحاولات العراق وكوريا وايران * ولم تندد ابدا بإسرائيل ذات الروؤس النووية العديدة * أو كان التنديد مايعا فيه من التشجيع اكثر مما فيه من الشجب والاعتراض .

هذا شىء عن سياسة مصر الخارجية فى عهد مبارك * اما عن السياسة الداخلية فحدث ولا حرج * بيع القطاع العام * تبنى سياسة الاحتكارات - ضرب الطبقة المتوسطة - حكم رجال الأعمال والتمكين لهم - عملية افلاس منظم للبلاد بما عرف بشركات توظيف الاموال التى تشجعها الحكومة فى البداية ثم تنقلب عليها بعد ان يكون كل طرف قد اخذ نصيبه من الغنيمة - تهريب 90 % من اموال الموبايلات وخطوط المحمول واسثتثمارها فى الخارج * دون ان يدور دخل تلك الشركات العملاقة فى دورة اقتصادية داخلية يعود استثمارها على المواطن البسيط الذى دفع ثمن الشحن والمكالمات وساهم فى ثراء تلك المؤسسات الضخمة - ارتفاع الاسعار فوق كل المعدلات العالمية - تعمد إفقار الشعب حتى يتم الهاءه عن السياسة ....... كل هذه الاجراءات جعلت المواطن يفقد حبه وانتمائه لبلده حتى بات فاقدا الامل فى اصلاحها * وتركها لهم !!!!!! .... والان لم تعد مصر تدور فى الفلك الامريكى فسحب * بل اصبحت مستعمرة امريكية بمعنى الكلمة تجثم على انفاسها مصطلحات العولمة وحرية السوق والخصخصة والنظام العالمى الجديد .

لم يأت نظام السادات الذى رمى الاساسات الامريكية * او نظام مبارك الذى علا الطوابق الامريكية * من فراغ ... بل كانت قنبلة يوليو تواصل انفجارها مرة بعد المرة * وفى كل مرة تفرض وضعا جديدا * وتمهد لوضعا مهينا * انفجرت القنبلة فى هزيمة 1956 العسكرية * ثم انفجرت مرة اخرى ولمدة 5 سنوات فى اليمن * ومرة ثالثة فى 1967 فى اسوأ هزيمة شاملة عرفتها مصر على مدار تاريخها الطويل * وكان بولدوزر عبد الناصر يواصل عملية كنس النظام الملكى ودفن كل تاريخه تحت جرافات الثورة التى يحركها وقود من دماء الشهداء سواء على الجبهات او فى السجون * ويحركها أنين الجرحى والامهات الثكلى * وقبل شىء يحركها تفكير ساذج بسيط من شعب هو فى الاصل ( شعبا طيب ) * خدعته الالة الاعلامية الثورية فى اننا حققنا لك الانجازات تلو الانجازات – تلك الانجازات التى مع الاسف لا يزال يرددها الناصريون الان فى حماسة تثبت لنا ان شعبنا سيظل دائما ( شعبا طيب ! ) ....

كانوا يقولون لى دائما ان جمال عبد الناصر حقق لمصر وللعرب

1 – القومية العربية
2 – الحياد الإيجابى
3 – تأميم قناة السويس
4 – الوحدة بين مصر وسوريا
5 – التصنيع الثقيل
6 – التعليم المجانى
7 – الجيش القوى
8 – بنى جهاز للمخابرات
9 – أسس الاشتراكية والعدل الاجتماعى
10 – الإصلاح الزراعى

وكنت دائما افند هذه الانجازات او الادعاءات على النحو الذى يثبت ان عبد الناصر كان أمريكيا ثم لعب لفترة على الحبلين * ثم أصبح سوفيتيا * حتى جاء العقاب الأمريكي فى 1967 كان أمريكا من سنة 1952 إلى سنة 1958 .. ثم لعب على الحلبين الشرقى والغربى فى الفترة التى امتدت من سنة 1958 إلى 1961 * ثم أصبح سوفيتيا بلشيفيا * من 1961 إلى 1967 ... وفى 1967 انتحر سياسيا وعسكريا هو ونظامه .... وفى كل مراحل حياته كان مقامرا يلعب على الحظ * السياسة فى نظره فهلوة واستعراض .

أولا : القومية العربية

بذل جمال عبد الناصر قصارى جهده للعثور على باعث او محرض يملك توحيد الأمة وجمع شملها خلفه * كان بحاجة إلى ( أسطورة ) تكون ذات شبه بتأثير الخمير فى العجين * فتؤدى الى حالة من الفوران * فوران الشعب وتكتله خلفه * وربما تكون الاسطورة على درجة كبيرة من الإبهام والغموض او ناقصة التفاصيل * وربما تظهر على انها ليست اكثر من مجرد احلام على اوهام لا وصف لعا ولا تحديد * ولكن عبد الناصر لم يكن يريد منها الا الزعامة الشخصية على بلاده وخارج حدود بلاده الى الوطن العربى .

كانت اسطورة القومية العربية تساعد عبد الناصر ان يصبح رمزا لنهضة الشعب المصرى * لانها نجحت فى حشد العواطف ضد مجهول كبير * وذلك لان الاسطورة لا تعنى سوى لا تعنى سوى منشدة العواطف دون العقل و التفكير السليم * وقد ارتضت امريكا ان تكون هى ذلك المجهول الكبير * وهى لعبة قديمة برع فيها جمال عبد الناصر والصحفى الخاص به محمد حسنين هيكل * وهى ( أن نسب ونشتم ونصب اللعنات على أمريكا فى العلن * ومحقق لها كل مطالبها من تحت المائدة فى الخفاء * والثمن مدفوع مقدما ودائما ) سلطة تتزايد يوما عن يوم لزعامة عبد الناصر تصنعها له امريكا قبل ان يصنعها هو * وأرصدة فى البنوك بالبلايين من الدولارات فى حساب محمد حسنين هيكل بكل بنوك اوروبا وامريكا .

كانت امريكا تشجع جمال عبد الناصر على المضى فى ( اسطورته ) لكى تسكب الانتماء الوطنى المصرى فى وعاء اكبر ألا وهو ( وعاء العروبة ) * وكانت هذه هى المرحلة الاولى من مراحل تشتيت الاحلام التى اصابت مجتمعنا العزيز * كانت المرحلة الثانية هى وعاءا اكثر سعة من الوعاء العربى ألا وهى ( الوعاء الدينى ) وقد تمت فى عهد الرئيس السادات بهدف تمييع بمبدأ الولاء الوطنى * وأما المرحلة الثالثة فهى الوعاء الضخم جداا والذى ابتلع كل الولاءات سواء الوطنى او القومى او الدينى وهو ( وعاء العولمة ) .

وقد سعى الرئيس جمال عبد الناصر ان سعيا حثيثا الى تقوية اسطورة القومية العربية حتى يتسنى له ان يبسط نفوذه على المنطقة بأسرها حتى يتمكن بعد ذلك من ممارسة سياسة التهدئة والتلطيف لصالح الولايات المتحدة دون سواها * وقد تمكنت وسائل الدعاية المصرية من خلق فكرة لدى الشعوب العربية مفداها ( ان عداءك لعبد الناصر هو عداءا للقومية العربية ) و وبالطبع لم يكن أيا من حكام العرب على استعداد لأ يظهر أمام شعبه بمظهر ( عدو القومية العربية ) .

كانت كلمات عبد الناصر غاية فى الابتزال والركاكة * الا انها ذات تأثير غير قليل فى نفوس السامعين من الطبقات ذات الثقافة الضحلة والادراك السطحى * ولذا لم يكن ساسة العرب القدامى يكنون اى احترام او تقدير لعبد الناصر ذلك المجهول المصدر الذى اغتصب السلطة من الملك فاروق * كذلك لم تنتقل القومية العربية الى الواقع الملموس اطلاقا * فمازال عليك ان تمضى ساعتين من الزمن واقفا كل حدود دولة واخرى * على حدود سوريا ولبنان لانهاء الاجراءات * أو بين سوريا والاردن الى جانب تفتيش دقيق للمسافر * واجراءات تعسفية فى الشئون الثقافية والتعليمية فى كل من مصر والعراق وسوريا ولبنان والاردن .. اما الفلسطينيون * فكانوا يعاملون أسوأ المعاملة فى البلاد العربية المضيفة لهم * وحتى فى مصر * فى الوقت الذى كان فيه عبد الناصر يدعوهم ( ( (بإخواننا عرب شعب فلسطين ) .

وفى اواخر الخمسينيات واوائل الستينيات * اصبحت اسطورة القومية العربية وهما ( حقيقيا ) بالنسبة للعرب يصدقونه ويعيشون فيه * بقدر ما أصبح " بابا نويل " وهما ( حقيقيا ) عند الاطفال يصدقونه ويعيشون فيه * يصدقون انه يوزع عليهم اللعب والهدايا عشية عيد الميلاد * ويصدق السذج من المصريين او العرب ان عبد الناصر يوزع عليهم الامل فى العروبة * والانطلاق لان نكون قوة وعظمى * والعدل الاجتماعى .... الخ الخ .... لقد تمكن جمال عبد الناصر من اشباع كبرياء شعبه اعلاميا وعلى الملأ * وفى نفس الوقت كان يكسر هذا الكبرياء سرا وفى المعتقلات . كانت امريكا تقول له دائما ( ان اشباع كبرياء الشعب سوف يكون بديلا عن اشباع حاجاته الاقتصادية التى لم يتمكن من تحقيقها يوما ) * وكان الاتحاد السوفييتى يعلمه ( ان كسر كبرياء الشعب سوف يضمن بقاءك فى السلطة لاطول مدة ممكنة بدون صيحة معارضة مما فعلت ) ... وهذه هى الحقيقة المرة التى تفسر لنا التناقض الغريب فى تصرفات وعهد جمال عبد الناصر ... اشباع الكبرياء ثم كسر الكبرياء فى نفس الوقت وفى ان واحد *وبين الاثنان صار عبد الناصر ( صنما ) يعبده كل جاهل بتاريخه * كل كافر بوطنه ومصريته .

وقد قرأت ذات مرة ان احد المعتقلين ظل يحب جمال عبد الناصر على الرغم من الاهوال التى لاقاها فى سجنه * وكان يقول ( ان عبد الناصر لا يعلم !! ) ... لانى اقول ان هذه كانت سياسة مزدوجة مرسومة ومحسوبة من عبد الناصر وحلفائه سواء فى البيت الابيض او الكرملين * انه سوف يشبع الكبرياء بالحديث عن العزة والحرية والكرامة فى اذاعاته * ثم يكسر هذا الكبرياء فى غياهب قبوره أو سجونه * ولذا فإننى التمس العذر لكل البسطاء الذين اعتقدوا ( ان عبد الناصر لا يعلم !! ) .. وعلى اى حال ان كان يعلم فهى مصيبة * وان كان لا يعلم فالمصيبة مصيبتان * فالمسئول مسئول * وان كان لا يعلم فهو غافل و مستغفل ومغفل ... قتل يتقل قتلا فهو قاتل ... قاتل شعب .

واستمرت الدعاية المصرية فى التحذير من أعداء القومية العربية بدلا من تشييد صرحها * تلك البرامج الاذاعية كانت لا تبدو اكثر من مجرد هراء وسفسطة * اذا ما دققت فيها جملة جملة * الا انها سرعان ما تبدو وكأنها حملة متكاملة ومنظمة بمهارة فائقة عندما ينظر اليها ككل ... وفى اوائل عام 1956 قامت وكالة المخابرات المركزية الامريكية بتمويل دراسة حول ردود فعلا المستمعين لبرامج القاهرة الاذاعية فى كل انحاء الوطن العربى * وانتهت الدراسة الى النتيجة التالية :

( ان الاذاعة المصرية قد حظيت بأكبر نسبة من المستمعيين * ومارست تأثيرا جيدا على العرب فساقتهم سوق التنويم المغناطيسى تحريكا وتوجيها * كان الفلاحيين والعمال والحرفيين ينساقون نحو حجج ناصر الذى يحسن مخاطبة العواطف وتوزيع الوعود والامانى * دون مخاطبة العقول والادراك والمنطق * شأنه شأن اى زعيم دكتاتورى . ) ..و

ولم يكن الرئيس جمال عبد الناصر يريد وحدة عربية حقيقية فى يوم من الايام * وكان يعرف استحالة تحقيقها * ولم يكن يريد ان يرهق نفسه بتحمل أعباء ان يكون ( رئيسا للعرب ) – كما يتصور البعض – بل أراد القيادة أو الزعامة .. وهناك فارق بين الرئاسة والحكم وبين الزعامة والقيادة .. فالرئاسة هى تحمل المسئوليات والاضطلاع بالاعباء والتوجيه المباشر < وكان عبد الناصر عاجزا عن الاضطلاع بأعباء حكم مصر وحدها فمابالك بحكم العرب جميعا > أما الزعامة فهى التوجيه السياسى غير المباشر وهى اخف حملا من الرئاسة واسهل فى التطبيق واوسع نفوذا * فهى أشبه بتأثير ( الطبل الاجوف ) صوتها عالى وهائل ومرعب وفارغة من الداخل * فلا تحتاج إلى اكثر اذاعة واعلام قوى * ولا تحتاج الى جيش او سلاح او مؤسسات رئاسية .

وفى نفس الوقت كلما أثبت جمال عبد الناصر لدوائر صنع القرار فى واشنطن او موسكو انه زعيما للعرب قادر بإعلامه ان يوجههم لصالح الشرق او الغرب * كلما كانت المساعدات تنهال عليه سواء من الشرق وكتلته او الغرب وكتلته * وهى تلك المساعدات التى بنى بها جمال عبد الناصر برج القاهرة وكان يقصد ان تكون قمته اعلى من قمة الهرم * حتى يخلد بعمل انشائى فى قلب عاصمة مصر وقاهرة المعز اسم ( خوفو – عبد الناصر ) وهرمه الجديد * حتى كان اصدقاءه من اعضاء مجلس قيادة الثورة يضحكون ويسخرون من المبنى وجدوى فائدته ؟ ويسمونه ( النصب أمريكى ) كتلميحا لصديقهم الزعيم على انه قد بنى بمساعدات امريكية * وكان قدرها لبرج القاهرة وحده 3 مليون دولار * وهو مبلغ كبير بمقاييس ذلك الوقت .. وبالمساعدات التى تلاقاها ناصر من الاتحاد السوفييتى بنى سلسلة مصانع عملاقة تخسر طول الوقت * ولم يكن الهدف منها الصناعة بقدر ما كان هدفها حلق طبقة بروليتاريا * وهو ما سنتكلم عنه بالتفصيل عند حديثنا عن التصنيع والاشتراكية فى عهد جمال عبد الناصر .


لم يرد أو يشأ ابدا ان يحقق الوحدة العربية الصحيحة * فإن الوحدة الصحيحة هى ضد امانية * وضد امانى امريكا او امانى روسيا * وهم جميع يعرفون ان عبد الناصر صنعوه ليهدم لا ليبنى او يقيم صرح وحدة حقيقيا التى غالبا ما تقوم على اسس ثابتة وسياسة راسخة وقواعد عميقة ...أجل لقد كانت القومية العربية قوة ذات استراتيجية فى مخططات جمال عبد الناصر إلا ان اهميتها غدت فى كونها ( أسطورة ) وليست ( حقيقة ) .