مقــدمــة لابد منها
هناك الكثير من الشر في هذا العالم..
و أنا لهذا سعيد بحق..
فلولاه لما تذوقنا لذة الخير على الإطلاق..
منطق غريب لكنه صحيح..!
قد يتساءل البعض من أنا حتى أتكلم عن الشر و الخير؟
لا.. لست راهب علم و لا حتى أستاذ فلسفة, بل أنا صحفي بسيط.. نعم بسيط إلى حد لا يُطاق.. بسيط من النوع الذي قد يجد يد مبتورة تحت ملاءة فراشة لسبب من الأسباب, أو ممن قد يفتحون صنبور الحمام ليجدوا دم بدلاً من الماء, و غيرها من تلك الأحداث البسيطة و الرائعة و التي قد تحدث للجميع..!
أسمي (أكرم عبد الوهاب) .. طبعاً لن أتوقع أن يثير أسمي ذهولك أو إعجابك, أو تلهب كفيك بالتصفيق لمجرد سماعك إياه.. إنني مضطر أن أذكر أسمي هاهنا لا على سبيل التحذلق بل من منطلق إيماني بأنه ليس أسوأ من أن لا تعرف أحداث رواية ما بقدر عدم معرفتك ببطل تلك الرواية.
لقد عشت – بحكم طبيعة عملي- العديد من المواقف و الأحداث التي يشيب لهولها الولدان, في الحقيقة أعتقد أن أغلب ما مريت به يتعلق بنحسي الأبدي الذي يلازمني على الدوام, و ليس للصحافة يداً فيه, فلو كل صحفي يمر بما مريت به فعالم الصحافة لفي مأزق حقيقي..
لا أدري لماذا أرى البعض منكم قد بدأ يتململ رغم أنني ما زلنا في المقدمة, لذا سأضطر آسفاً أن أدوس على نرجسيتي الكامنة في رغبتي بالتحدث عن نفسي لأدعوكم معي لنغوص مع بعض في عالمي الذي أتمنى أن يكون ممتعاً, سأحكي لكم اليوم قصة ابن المقبرة, صحيح أن الاسم مثير للهلع, إلا أنها ممتعة بحق.. على الأقل من وجهة نظري.. ماذا عنكم؟.. إجابة هذا السؤال مختبئ خلف السطور القادمة..
1- أول الغيث قطرة...
12/ 7/ 1975م
لم تمنع حرارة شمس ذلك اليوم التي راحت تلسع الجلود أولئك الحشد من القرويين من المضي قدماً بوجوههم المكتئبة و نظراتهم الحزينة.. أربعة منهم يحملون صندوق صغير و يمشون بشكل جنائزي و تكومت مجموعة من النسوة مرتديات السواد أمام باب الدار الذي أخرج منه الرجال الصندوق الصغير و بدأن بالصراخ و العويل...
طبعاً الأمر لا يحتاج إلى كثير من الذكاء للقول أن هذه جنازة..
جنازة طفل بالغالب..
واصل الرجال مسيرتهم و الحزن يكسو وجوههم...
و هتافات بتوحيد الله تتردد من كل مكان..
"الله يرحم إبراهيم.. لقد كان صبي رائع"
يتعثر أحد الصبية في حفرة وهو يحاول اللحاق برفقائه الذين يركضون إلى لا مكان..
" لقد كان الأذكى بين أقرانه"
ينهض ذلك الصبي على ضحكات رفاقه و هو يتمتم بشيء ما..
"يُقال أنه توفى فجأة دون سابق إنذار"
أخذ الصبي شيئاً ما من الأرض ليرميهم به بحنق لا يخلو من الاستمتاع, بينما بقية رفاقه يعدون بلا توقف..
و هكذا انتهت مراسم الدفن ما بين حزن الكبار و لا مبالاة الصغار, ليعود كل شخص لداره و على وجهه علامة الرضاء كونه أكمل واجبة على أكمل وجه.. و لم يدر ببال أحد منهم قط أن ما فعلوه قبل لحظات كان أشنع خطأ يرتكبونه في حياتهم..
خطأ شنيع للغاية..
*** *** ***
16/ 7/ 1995م
ليلة مقمرة.. ثمة كلاب تنبح من طرف القرية.. هدوء.. نباح كلاب أخرى من الطرف الآخر للقرية و كأنها ترد على النباح السابق.. و بهذا الجو الرومانسي و الشاعري و من خلال ضوء القمر الفضي نستطيع أن نلمح ذلك الشخص الذي راح يمشي بتؤدة عائداً لداره.. فلنقترب أكثر لنرى من هو... هاااه أنه (محمد) إذاً.. و من لا يعرف (محمد) الشاب المرح حاضر الفكاهة دوماً.. كان يداعب فمه بعود خشبي صغير محاولاً انتزاع بقايا (القات) من بين ثناياه.. أرتفع صوت الكلاب من جديد.. ماذا دهى هذه المخلوقات؟.. لماذا تنبح بهذه العصبية الليلة بالذات.. واصل (محمد) طريقه.. فجأة سمع ذلك الصوت.. لا لم يكن نباحاً هذه المرة.. بل بكاء.. نعم بكاء يُصدر من مقبرة القرية التي أصبح على مقربة منها.. هنا توقف (محمد) عن المشي و تصلب جسمه في مكانه و كاد قلبه يثب من صدره هلعاً.. فهو يعرف ما معنى بكاء الطفل من مقبرة القرية.. و يعرف كذلك مصير (صفوان) الذي رغب بمعرفة كنه ذلك البكاء.. بل أن أغلب حديث (مجلس القات) اليوم كان يركز على مصير (صفوان) الذي غلبت شجاعته حذرة و الغموض المحيط بمصيره.. و الآن ماذا عليه أن يصنع؟!.. فطريق المقبرة هو الطريق الوحيد لعودته لداره, و هو غير مستعد لدخول المقبرة و البكاء مستمر.. أنتظر لمدة ربع ساعة انقضت كدهر إلا أن صوت البكاء لم يتوقف, و هكذا أيقن أن الانتظار بهذا الجو المسموم دون جدوى, لهذا توكل على الله و واصل سيره و صوت البكاء يرتفع أكثر و أكثر كلما أقترب من المقبرة.. هاهو الآن داخل المقبرة و صوت البكاء يصم أذنيه.. فجأة بدأ بالقهقهة و الضحك بصوت عالي و بدون سبب.. ضحك.. قهقهة.. لقد انفلتت أعصابه بحق.. و أثناء انفلات أعصابه فقد حذره و التفت لتلك المقبرة التي يُصدر منها البكاء.. و هنا توقف عن الضحك الهستيري.. و لم يعد قادراً على الضحك.. و السبب ببساطة هو أن الضحك ليس من الصفات التي تتسم بها الجثث الهامدة.. أتتفقون معي على ذلك؟...
*** *** ***
تثاءب (علي) طويلاً كأنه فرس نهر و راح يُمنّي نفسه بليلة طيبة, فلقد كان في غاية الإنهاك, فعملة بالحقل شاق حقاً لكنه راض به على كل حال.. استلقى على فراشه و بدأ خدر النوم يسري في جسده ببطء.. فجأة سمع ذلك البكاء.. بكاء طفل على الأرجح يصدر من مقبرة القرية.. كان البكاء عميق كأنه صادر من بئر إلا أنه مثير للشفقة بحق.. هنا نهض من فراشه و ارتدى (الجنبية) و همّ بالخروج, إلا أن زوجته سدت طريقه متوسلة إليه:
- أرجوك يا (علي) تجاهل الأمر و عد لنومك!..
إلا أن (علي) لم يكن مستعد للرضوخ لأي توسل فقال بنوع من العصبية:
- اتركيني يا امرأة.. سأوقف هذه المهزلة التي تحدث ليلاً في المقبرة..
تشبثت الزوجة بثوب بعلها و هي تقول بصوت أقرب إلى البكاء:
- أرجوك أن تتعقل يا (علي).. فإن لم يكن لأجلي, فمن أجل أبنك الوحيد.. كيف سأربيه بدونك.
- ماذا دهاك يا امرأة؟!.. أنا لن أذهب للقتال بغزوة (أُحد).. كل ما في الأمر هو أنني راغب بمعرفة ذلك الطفل المعتوه الذي يبكي ليلاً من المقبرة..
- إنه ابن المقبرة.. لماذا لا ترغب بتصديق هذا الأمر؟
- لأن هذا الأمر يخالف ما جاء به ديننا الحنيف.. أنا لم و لن أصدق أن أي شخص قد يعود بعد موته لينتقم ممن تسببوا بقتله.. هذا هراء.. نعم هراء..
- ماذا عن (صفوان) هل نسيت ماذا حل به بعدما زار المقبرة ليكتشف السر؟!.. ماذا عن (محمد) هو الآخر؟.. ألم يلاقي مصير الأول؟
- لقد كان هذا هو قدرهما.. و قدر الله و ما شاء فعل, لكن لن توجد قوة في الكون تستطيع أن تمنعني من اكتشاف هذه الألعوبة القذرة التي تحدث في مقبرة القرية..
قالها بعصبية حقيقية و هو يدفع زوجته بعيداً عنه بقسوة و يواصل خطاه بثقة نحو المقبرة بينما كانت زوجته تشيعه بنظرات من عيون مملوءة بالدمع, فلقد كانت تشعر أن هذه آخر لحظة ترى فيها بعلها...
و قد كانت على حق بالفعل..
ففي الصباح وجد أحد الصبية جثة (علي) هامدة بجانب أحد القبور, و لم يلبث أن يتحول المكان إلى سرك و تزاحم الصغير و الكبير ليرى الجثة.. لم تكن ملامح جثته تختلف عمن سبقوه ذات المصير, فعينيه كانتا مشدوهتين و مذهولتين و وجهه ممتقع بشكل ظاهر بينما يظهر جزء من لسانه الأبيض الجاف ليغطي جزء من شفتيه التي كانتا جافتان تماماً و تملئهما القشور البيضاء.. كل هذه الملامح تدلل أن الوفاة كانت بسبب العطش.. لقد مات (علي) عطشاً في مقبرة القرية.. كيف؟!.. لماذا؟!.. هذا ما لا يعلمه أهل القرية الذين بدءوا يشعرون بالرعب حيال هذا الغموض الذي أحاط بمقبرتهم...
الغموض القاتل...
يـــــتبع
Bookmarks