ما كدت أفتح عينيّ وأتهيّأ للتثاؤب حتى داهمتني موجة من الصقيع إقشعّر لها جسدي تحت الغطاء.. ثمّ لم ألبث أن فغرت فاهي حينما أرسلت نظري عبر النافذة ليصطدم بوهج أبيض - يبهر العين - وقد توشحت به الأرض، والشجر، و أسطح المنازل البادية أمامي..
نهضت من الفراش تغمرني السعادة، فالثلج خير للأرض كبير، ومناسبة للألتمام حول النار في جلسات عائلية حميمية، فالجميع عاطل عن العمل، لا سيارات تسير، ولا مكاتب تعمل، ولا مدارس تفتح، الكل في بيوتهم، فتحت الباب الخارجي ونظرت: منظر مبهج، الأشجار تنحني أمام تراكم الثلج على أغصانها وكأنها تخشع للخالق، عدت لفراشي فالوقت ما زال باكرا والجميع في أسرتهم،
كنت أعلم أنّ ابنتي الصغرى ستكون أكثر بهجة، فهي تكره دروس الحساب، وهذا اليوم كان لديها امتحان به، عدا عن أنها ستقضي وقتها باللعب مع أصحابها بكرات الثلج.
كان عليّ أن أنهض من فراشي، لأجهز الموقد وأضرم به النار، كان عليّ أن أعدّ القهوة، وأحضر الفطور، كنت واثقة أنّ رائحة القهوة وموجة الدفء، المنبعثة من اشتعال حطب السنديان والزيتون، وصوت فرقعة الجمر بعد أن نرش عليه الجفت الذي لا تزال بقايا زيت الزيتون عالقة بحبيباته، سيدفع أفراد العائلة للاستيقاظ
بهدؤ.. أشعلت الموقد، وسخان الماء، وأنا أشعر بمتعة فائقة، بمنظر الثلج المتراكم، وحبائله التي لا زالت تهطل متراقصة وكأنها في إحتفال..
عجبا لم ينهض أحد إلا ابنتي الصغرى، حسنا سأوقظهم، دخلت غرفهم، لم أجد أحدا..! غريب، لم اخفي قلقي وشعورا بالضيق اعتراني، أين هم ولماذا خرجوا مبكرا دون إعلامي؟! جلست إلى كرسي هزاز وأسندت رأسي؟
وإذ بي ابتسم قائلة: كيف نسيت!!..فاليوم 14 شباط، ذكرى الإضراب الشهير، الإضراب الذي دام ستة شهور احتجاجا على قرار الضم وفرض الجنسية علينا، والذي تكلل بالانتصار، وحولنا قرارهم حبر على ورق، ( وبكل الأحوال اليوم إضراب وعطلة) نعم ولكن لا زال مبكرا للاحتفال، اين هم؟
حضورهم المفاجيء قطع تساؤلي ...أين كنتم ؟ لماذا خرجتم هكذا دون إعلامي؟
وجوههم كانت كالحة، ونظراتهم حزينة متحفزة، دخلوا لقرب النار وكان يرافقهم عددا من الشباب... احضري لنا شايا، اقتربوا من بعضهم يتهامسون، ما بكم ؟ ألا تقولون صباح الخير، ما أصابكم، هل كنتم تحضرون للاحتفال اليوم، أجابني أحد أبنائي لالا يا أمي، أتعرفين فايز أبن أبو فايز، نعم أعرفه ما به؟؟
لقد استشهد، قتلوه، قتلته قوات الاحتلال.. على" الحدود " قتل؟..
آه.. شيء ما.. ربما إعصار كبير نفخ ملتهبا بأذني.. تحرك في رأسي طنينا، وشعرت أني أتهاوى.. وسمعت عبارات متقطعة..كان ي..ت..س..لل من ب ي ن الأسلاك الشا ئكه الى ال و ط ن..
نعم يا أمي استشهد على "الحدود" في سبيل وطننا الحبيب وقضيتنا..رباه متى ينتهي هذا الاحتلال، متى يعم السلام، متى نستطيع استعادة أرضنا؟؟
ضوضاء الكلمات الصادرة من الحضور، وزفراتهم الحارقة، أعادتني إلى الواقع. وقلت باعتزاز: رحمة الله علية، كان بطلا وكلنا فداء للوطن الحبيب.. ما احد منا الا ويفديه بروحه..
ارتدينا ملابسنا وذهبنا إلى بيت أهله..ولم يكن البرد القارص ليخفف من حريق الحزن الممزوج بالفخر لهذه الميتة المشرفة.. وكان النحيب الصادر من القلوب النازفة..مثقل بالجروح..يصرخ بعنف وغضب.. كانت أمه تنتحب بصمت ودموعها تلوع الأفئدة : اه يا بعد عمري.. لو أخبرتني فقط انك راحل.. يا حرقة الفؤاد عليك..لو ودعتني وسمحت لي أن أودعك بدعائي، وأن اقبل وجهك.. لو قلت لي يا مهجتي انك مسافر!
ويلي لكلمات هذه الأم الثكلى.. كانت كلماتها تبعث الدموع من قرار العيون..أه أحسها تحرق وجهي..كان صوت أبيه ينبعث من حنجرة مخنوقة.. يردد: ابني شهيد.. ابني بطل! زغردوا يا نساء سنقيم له عرسا عرسا وطنيا..كان يقول ويردد بالم ممزوج بشموخ..انّ الوطن لنا وليس للغزاة ، أن الجولان وفلسطين لنا وليسوا للغزاة* إنها أرضنا، إنها عرضنا.. ودرب التحرير مغروسة بالشهادة، كلنا فداك يا وطني.. وهدرت الأصوات جميعا: كلنا للوطن، كلنا للوطن، وزينت الاحتفال بذكرى الإضراب روح الشهيد، فعلت الهتافات بسقوط الاحتلال، وتخليد ذكرى اسم فايز بجانب رفاق دربه، أبطال هذه الأرض العربية السورية المحتلة اللذين سقطوا فداء للوطن...
وسالت نفسي هل كنت مخطئة عندما ابتهجت بهذا اليوم، لكن تملكني إحساس بأننا سننتصر وسنعود لوطننا وسنحتفل حتما بيوم التحرير .. ولن ننسى شهدائنا، وإضرابنا، ومعاركنا المستمرة مع هذا المحتل من أجل الحفاظ على انتمائنا الذي لا لا لا لا لن نتنازل عنه
Bookmarks