قال الله تعالى: {وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون. وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين}. البقرة 30-31.
أخبر الله تعالى أنه خاطب الملائكة قائلاً لهم: {إني جاعل في الأرض خليفة} أعلم بما يريد أن يخلق من آدم وذريته الذين يخلف بعضهم بعضاً. كما قال: {وهو الذي جعلكم خلائف الأرض} فأخبرهم بذلك على سبيل التنويه بخلق آدم وذريته كما يخبر بالأمر العظيم قبل كونه فقالت الملائكة سائلين على وجه الاستكشاف والاستعلام عن وجه الحكمة لا على وجه الاعتراض والتنقص لبني آدم والحسد لهم قالوا: {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء}. قيل: علموا أن ذلك كائن بما رأوا ممن كان قبل آدم من الجن. {قال إني أعلم ما لا تعلمون} أي: أعلم أن المصلحة الراجحة في خلق هؤلاء ما لا تعلمون. أي: سيوجد منهم الأنبياء والمرسلون والصديقون والشهداء. ثم بين لهم شرف آدم عليهم في العلم فقال: {وعلم آدم الأسماء كلها} قال ابن عباس: هي هذه الأسماء التي يتعارف بها الناس: إنسان ودابة وأرض وسهل وبحر وجبل وجمل وحمار وأشباه ذلك من الأمم وغيرها. وفي رواية: علمه اسم الصحفة والقدر. وقال مجاهد: علمه اسم كل دابة وكل طير وكل شيء. وكذا قال سعيد بي جبير وقتادة وغير واحد. وقال الربيع: علمه أسماء الملائكة. وقال عبد الرحمن بن زيد: علمه اسماء ذريته: والصحيح: زنه علمه اسماء الذوات وأفعالها مكبرها ومصغرها كما أشار إليه ابن عباس رضي الله عنهما. وذكر البخاري هنا ما رواه هو ومسلم من طريق سعيد وهشام عن قتادة عن أنس بن مالك: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يجتمع المؤمنون يوم القيامة فيقولون: لو استشفعنا إلى ربنا؟ فيأتون آدم فيقولون أنت أبو البشر خلقك الله بيده وأسجد لك ملائكته وعلمك أسماء كل شيء) وذكر تمام الحديث. (ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين) قال الحسن البصري: (لما اراد الله خلق آدم قالت الملائكة: لا يخلق ربنا خلقاً إلا كنا أعلم منه فابتلوا بهذه) وذلك قوله: (إن كنتم صادقين) وقيل غير ذلك قالوا: (سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم) أي: سبحانك أن يحيط أحد بشيء من علمك من غير تعليمك. كما قال: (ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء) (قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون) أي أعلم السر كما أعلم العلانية. وقيل إن المراد بقوله وأعلم ما تبدون ما قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها وبقوله وما كنتم تكتمون المراد بهذا الكلام إبليس حين أسر الكبر والتخيرة على آدم عليه السلام، قاله سعيد بن جبير ومجاهد والسدي والضحاك والثوري واختاره ابن جرير. وقال أبو العالية والربيع والحسن وقتادة وما كنتم تكتمون قولهم لن يخلق ربنا خلقاً إلا كنا أعلم منه وأكرم عليه منه. قوله (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر) البقرة 33.
هذا إكرام عظيم من الله تعالى لآدم حين خلقه بيده ونفخ فيه من روحه كمال قال: (فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين) الحجر 29. فهذه أربع تشريفات: خلقه له بيده الكريمة ونفخه فيه من روحه وأمره الملائكة بالسجود له وتعليمه أسماء الاشياء ولهذا قال له موسى الكليم حين اجتمع هو وإياه في الملأ الأعلى وتناظرا كما سيأتي: (أنت آدم أبو البشر الذي خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه وأسجد لك ملائكته وعلمك أسماء كل شيء).
قال الله تعالى: (ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين. قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين) (الأعراف 11-12) قال الحسن البصري قاس إبليس وهو أول من قاس. وقال محمد بن سيرين: أول من قاس إبليس وما عبدت الشمس والقمر إلا بالمقاييس. رواهما ابن جرير ومعنى هذا: أنه نظر نفسه بطريق المقايسة بينه وبين آدم فرأى نفسه أشرف من آدم فامتنع من السجود له مع وجود الأمر له ولسائر الملائكة بالسجود. والقياس إذا كان مقابلاً بالنص كان فاسد الاعتبار ثم هو فاسد في نفسه فإن الطين أنفع وخير من النار فإن الطين فيه الرزانة والحلم والأناة والنمو والنار فيها الطيش والخفة والسرعة والإحراق. ثم آدم شرفه الله بخلقه له بيده ونخه فيه من روحه ولهذا أمر الملائكة بالسجود له.
(قال فاخرج منها فإنك رجيم. وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين) (الحجر 34-35) استحق هذا من الله تعالى لأنه استلزم تنقصه لآدم وازدراؤه به وترفعه عليه مخالفة الأمر الإلهي ومعاندة الحق في النص على آدم على التعيين وشرع في الاعتذار بما لا يجدي شيئاً وكان اعتذاره أشد من ذنبه.
(وإذ قلنا للملائكة اجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه) (الكهف 50) أي أخرج عن طاعة الله عمداً وعناداً واستكباراً عن امتثال أمره وما ذاك إلا لأنه خانه طبعه، ومادته الخبيثة أحوج ما كان إليها فإنه مخلوق من نار كما عن عائشة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خلق الملائكة من نور وخلقت الجان من مارج من نار وخلق آدم مما وصف لكم).
قال الحسن البصري: لم يكن إبليس من الملائكة طرفة عين قط. وقال شهر بن حوشب: كان من الجن فلما أفسدوا في الأرض بعث الله إليهم جداً من الملائكة فقتلوهم وأجلوهم إلى جزائر البحار وكان إبليس ممن أسر فأخذوه معهم إلى السماء فكان هناك فلما أمرت الملائكة بالسجود امتنع إبليس منه. وقال ابن مسعود وابن عباس وجماعة من الصحابة وسعيد بن المسيب وآخرون: كان إبليس رئيس الملائكة بالسماء الدنيا. قال ابن عباس: وكان اسمه عزازيل وفي رواية عن الحارث: قال النقاش - وكنيته أبو كردوس - قال ابن عباس: وكان من حي من ملائكة يقال لهم : الجن وكانوا خزان الجنان وكانوا من أشرافهم وأكثرهم علماً وعبادة وكان من أولى الأجنحة الأرعة فمسخه الله شيطاناً رجيماً.
وقال الإمام أحمد: حدثنا هاشم بن القاسم حدثنا أبو عقيل (هو عبدالله بن عقيل الثقفي) حدثنا موسى بن المسيب عن سالم بن أبي الجعد عن سبرة بن أبي الفاكه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الشيطان يقعد لابن آدم بأطرقه)
وقد اختلف المفسرون في الملائكة المؤمورين بالسجود لآدم: أهم جميع الملائكة كما دل عليه عموم الآيات؟ وهو قول الجمهور. أو المراد بهم ملائكة الأرض؟ كما رواه ابن جرير عن طريق الضحاك عن ابن عباس وفيه انقطاع. وفي السياق نكارة وإن كان بعض المتأخرين قد رجحه ولكن الأظهر من السياقات الأولى ويدل عليه الحديث. وأسجد له ملائكته وهذا عموم أيضاً والله أعلم. وقوله تعالى لإبليس: اهبط منها واخرج منها دليل على أنه كان في السماء فأمر بالهبوط منها والخروج من المنزلة والمكانة التي كان قد نالها بعبادته وتشبهه بالملائكة في الطاعة والعبادة ثم سلب ذلك بكبره وحسده ومخالفته لربه فأهبط إلى الأرض مذموماً مدحوراً.
حكى السدي عن أبي صالح وأبي مالك عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة أنهم قالوا: أخرج إبليس من الجنة وأسكن آدم الجنة فكان يمشي فيها وحشى ليس له فيها زوج يسكن إليها فنام نومه فاستيقظ وعند رأسه امرأة قاعدة خلقها الله من ضلعه فسألها: من أنت؟ قالت: غمرأة قال: ولم خلقت؟ قالت: لتسكن إلي فقالت له الملائكة - ينظرون ما بلغ من علمه - : (ما اسمها يا آدم؟) قال: حواء قالوا: ولم كانت حواء؟ قال: لأنها خلقت من شيء حي. وذكر محمد بن اسحاق عن ابن عباس: أنها خلقت من ضلعه الأقصر الأيسر وهو نائم ولأم مكانه لحماً ومصداق هذا في قوله تعالى: (يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منها رجالاً كثيراً ونساء) (النساء 1)
في الصحيحين من حديث زائدة: عن مسيرة الأشجعي عن أبي حازم عن أبي هريرة: عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (استوصوا بالنساء خيراً فإن المرأة خلقت من ضلع أعوج وإن أعوج شيءفي الضلع أعلاه فإن ذهبت تقيمه كسرته وإن تركته لم يزل أعوج فاستوصوا بالنساء خيراً) لفظ البخاري.
قد اختلف المفسرون في قوله تعالى: (ولا تقربا هذه الشجرة) (البقرة 35) فقيل: هي الكرم وروي عن ابن عباس وسعيد بن جبير والشعبي وجعدة بن هبيرة ومحمد بن قيس والسدي في رواية عن ابن عباس وابن مسعود وناس من الصحابة قال: وتزعم يهود أنها الحنطة. وهذا مروي عن ابن عباس والحسن البصري ووهب بن منبه وعطية العوفي وأبي مالك ومحارب بن دثار وعبدالرحمن بن أبي ليلى. قال وهب: والحبة منه ألين من الزبد وأخلى من العسل. وقال الثوري: عن أبي حصين عن أبي مالك (ولا تقربا هذه الشجرة) هي النخلة. وقال ابن جريج عن مجاهد هي: التينة. وبه قال قتادة وابن جريج. وقال أبو العالية: كانت شجرة من أكل منها أحدث ولا ينبغي في الجنة حدث.
وهذا الاختلاف قريب وقد أبهم الله ذكرها وتعيينها ولو كان في ذكرها مصلحة تعود إلينا لعينها لنا كما في غيرها من المحال التي تبهم في القرآن.
وإنما الخلاف الذي ذكروه في أن هذه الجنة التي دخلها آدم: هل هي في السماء أو في الأرض؟ هو الخلاف الذي ينبغي فصله والخروج منه. والجمهور على أنها هي التي في السماء وجنة المأوى لظاهر الآيات والأحاديث كقوله تعالى: (وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة) والألف واللام ليست للعموم ولا لمعهود لفظي وإنما تعود على معهود ذهني وهوالمستقر شرعاً في جنة المأوى وكقول موسى عليه السلام لآدم عليه السلام: (علام أخرجتنا ونفسك من الجنة؟) وروى مسلم في صحيحه من حديث أبي مالك الأشجعي وأسمع سعد بن طارق عن أبي حازم سلمة بن دينار عن أبي هريرة: وأبو مالك عن ربعي عن جذيفة قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يجمع الله الناس فيقوم المؤمنون حين تزلف لهم الجنة فيأتون آدم فيقولون: يا أبانا استفتح لنا الجنة فيقول: وهل أخرجكم من الجنة إلا خطيئة أبيكم) وذكر الحديث بطوله. وهذا فيه قوة جيدة ظاهرة في الدلالة على أنها جنة المأوى وليست تخلو عن نظر.
وقال آخرون: بل الجنة التي أسكنها آدم لم تكن جنة الخلد لأنه كلف فيها أن لا يأكل من تلك الشجرة ولأنه نام فيها وأخرج منها ودخل عليه إبليس فيها وهذا مما ينافي أن تكون جنة المأوى. وهذا القول محكي عن أ[ي بن كعب وعبدالله بن عباس ووهب بن منبه وسفيان بن عيينة واختاره ابن قتيبة في المعارف والقاضي منذر بن سعيد البلوطي في تفسيره وأفرد له مصنفاً على حدة وحكاه عن أبي حنيفة الإمام وأصحابه رحمهم الله ونقله أبو عبدالله محمد ابن عمر الرازي بن خطيب الري في تفسيره عن أبي القاسم البلخي وأبي مسلم الأصبهاني..
Bookmarks