عجبي
ولما تستعجبي يا عيني
حزني
ولما تحزن يا قلبي
-
-
-
كلٌَ يترقب، شاخصة أبصارهم، ينظرون إلى ذلك الباب ليروا أول داخل منه، ما صفته؟ ما شكله؟ وما لونه؟ أهو من أهل الأرض أم من أهل السماء؟ أهو من الجن أم الإنس؟
لقد حدثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فأخبرهم بخبر شاق قلوبهم، وتمنوا معه أن يكون أحد منهم هو ذلك الداخل، فقال صلى الله عليه وسلم: "يدخل عليكم الآن رجل من أهل الجنة". ويدخل الرجل؛ فإذا هو رجل منهم يعرفونه، رجل من الأنصار تقطر لحيته من وضوئه، مشمراً ثيابه، وأطرافه مبللة بآثار الوضوء، قد تعلَّق نعليه في يده الشمال.
فلما كان الغد، دفع النبي صلى الله عليه وسلم الخبر ذاته "يدخل عليكم رجل من أهل الجنة".
ويتساءل الصحابة ـ رضي الله عنهم وأرضاهم ـ: ترى من هو الرجل الآخر؟ فقد عرفنا الأول؛ فمن هو المبشر الآخر، تلك البشرى التي يسعى إليها الناس، وينفقون الغالي والنفيس، بل يبيعون الأرواح من أجلها؛ فطلع ذلك الرجل مثل المرة الأولى!
فلما كان اليوم الثالث، قال النبي صلى الله عليه وسلم مثل مقالته أيضاً، فطلع الرجل على مثل حاله الأولى: تقطر لحيته ماءً من أثر الوضوء، أطرافه مبللة بالماء، قد أمسك نعله بشماله.
هذه البشرى ـ ولثلاث ليال متتالية ـ بالجنة، قبل أن يدخل عليهم، ومن يخبرهم بذلك؟ إنه الصادق المصدوق، محمد بن عبدالله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذي لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى.
إن هذا الرجل لحري أن يُقتص خبره ثم يُقتفى أثره!
ولعل لسان الحال يقول: إن هذا الرجل صوام، قوام، ويذكر الله بالليل وأطراف النهار، بكرة وأصيلا، ومن الليل يسجد له ويسبحه ليلا طويلا!
وللوقوف على الخبر، وتفحص أسباب البشرى، ولاتباع العمل الذي جعل صاحبه من أهل الجنة؛ انتدب لهذه المهمة "عبدالله بن عمرو بن العاص" ـ رضي الله عنهما ـ فتبع الرجل، وقال للرجل: إني لاحيت أبي (خاصمت أبي) فأقسمت ألا أدخل عليه البيت ثلاثا؛ فإن رأيت أن تؤويني هذه الأيام الثلاثة فعلت. قال: نعم، ورحب به، وأكرم مثواه، فبات عبدالله عند ذلك الصحابي يرقبه ويرصد أفعاله.
وكان عبدالله يحدث أنه بات معه تلك الليالي الثلاث فلم يره يقوم من الليل شيئاً، غير أنه إذا تعارَّ وتقلب على فراشه ذكر الله عز وجل وكبَّر حتى يقوم لصلاة الفجر، قال عبدالله: غير أني لم أسمعه يقول إلا خيراً، فلما مضت الثلاث الليالي وكدت أن أحتقر عمله، قلت: يا عبدالله! إني لم يكن بيني وبين أبي غضب ولا عداء، ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لك ثلاث مرار: يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة، فطلعت أنت الثلاث المرار، فأردت أن آوي إليك لأنظر ما عملك فأقتدي به، فلم أرك تعمل كثير عمل، فما الذي بلغ بك ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال الرجل: ما هو إلا ما رأيت، قال: فلما وليت دعاني، فقال: ما هو إلا ما رأيت، غير أني لا أجد في نفسي لأحد من المسلمين غشاً، ولا أحسد أحداً على خيرٍ أعطاه الله إياه، فقال عبدالله بن عمرو: هذه التي بلغت بك، وهي التي لا نطيق" (حديث صحيح).
يا للعجب! رجل يضع جنبه على فراشه بقلب سليم، ليس فيه غش ولا حسد على مسلم!!
"هذه التي بلغت بك وهذه التي لا نطيق". صورة رائعة معبرة طيبة لرجل مسلم قلبه سليم صافٍ ـ كالزجاجة ـ من كل هوى وغش وحسد، قد أسلم لرب العالمين.
رعاكم الله كفاكم سخرية فما الكراهية من صفاتكم ( بال القلوب اللينة والأفئدة الرقيقة )
Bookmarks