لا تظن أني سأحدثك عن قصة من نسج خيالي أو أروي لك واقعة فيها قليل من الصحة وكثير من "الفبركة" التي اعتدنا قراءتها في العديد من مجلات الحوادث المنتشرة في عالمنا العربي .. كلا .. لا هذا ولا ذاك .. بل إنها الحقيقة التي هي أغرب من الخيال ..!!
والقصة ملخصها أن قرية يمنِيَّة في محافظة حضرموت اجتاح معظم أهلها الجنون ..!!
نعم الجنون .. فعلى الرغم من عدد السكان الذي لا يزيد عن عدة مئات ظهرت حتى الآن بالقرية 52 حالة جنون .. والعدد في تزايد بسرعة "جنونية".. الأمر الذي أقلق الحكومة، واستدعى قيام الرئيس علي عبد الله صالح بزيارتها بصحبة وزيري الصحة والتأمينات الاجتماعية، وأعطى الرئيس توجيهاته بتكوين فريق عمل من الباحثين الاجتماعيين والأطباء المتخصصين في الأمراض النفسية والعصبية لدراسة حالة القرية، والعمل على معالجة هؤلاء المجانيين.
ولنبدأ رحلتنا مع المجانين من أولها ..
ركبنا سيارة من صنعاء إلى حضرموت .. بالطبع تذكرت حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وشاهدت بعيني صدق نبوءته .. فقد كانت الطريق آمنة لم أخشَ على نفسي إلا الله، ولم يكن معي غنم لأخشى عليه من الذئب كما أخبرنا محمد عليه أفضل الصلاة السلام .
كانت السيارة ترتفع بنا تارة إلى قمم الجبال حتى تلامس رؤوسنا كتل السحاب، وتارة ثانية كنا نرتفع أكثر وأكثر حتى نعلو فوق السحاب، بل وفوق أسراب الطيور التي رأيناها للمرة الأولى في حياتنا وهي تطير من ظهورها لا كما اعتادت عيوننا على رؤيتها من بطونها وهي تحلق في السماء .. كانت المنازل تبدو لنا ونحن على القمم الجبلية كعُلَب الكبريت الصغيرة، وكانت طرق السيارات تظهر من بعيد كخيوط متشابكة باهتة فوق صفحة كبيرة .. وبعد قرابة ثماني ساعات بدأت ملامحهم تظهر .. إنهم أهل حضرموت بسمرتهم الجميلة وزِيِّهم المميز .. كان الهدوء يغلب على حركاتهم وسكناتهم، كما هي عادتهم دائماً .. وكانت نداءات الكرم تنطلق من عيونهم تدعونا ونحن في السيارة المسرعة للنزول ضيوفًا عليهم ..
لا أدري لماذا تذكرت صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أشاهد هؤلاء الحضارمة، ولا أدري لماذا قفزت إلى ذهني تلك المعلومة التي قرأتها قديماً في حثِّ نفسي على بذل الجهد للدعوة في سبيل الله، تلك المعلومة التي تقول إن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عددهم يناهز الـ 114 ألفاً – رضي الله عنهم جميعًا -، ومع ذلك لم يُدْفَن منهم في المدينة المنورة إلا 14 ألفاً فقط، والبقية ساحوا في الأرض يبلغون دعوة الله، ويستوطنون البلدان التي يريدون غرس راية التوحيد في صُلب أجيالها.
ربما جالت بخاطري تلك الأفكار لما علمته عن أهل حضرموت من حب السفر والترحال، ولما لهم من فضل في نشر الإسلام في العديد من بقاع الأرض خاصة في جنوب شرق آسيا، وقد رأيت أثر ذلك بنفسي أثناء إقامتي القصيرة في ماليزيا قبل عامين ..
وصلنا إلى مدينة المُكَّلا ذات الشواطئ الذهبية الجميلة .. ومنها عرجت بنا السيارة في طريق فرعي واستمر المسير لمسافة 45 كم .. ثم بدأت ملامح قرية "الحصيحصة" تظهر على استحياء مختبئة خلف أشجار السيسيان الشوكية .. حتى لا تُشَجُّ رأسي انتابني شعور بالخوف وأنا أقترب من أول منزل من منازل القرية .. ظننت أن أحدًا سيهجم عليَّ من خلف الأشجار الشوكية الكئيبة .. لاحظت أنني أمسح على رأسي بطريقة لا إرادية خوفًا من أن يرجمني "أحدهم" بحجر مباغت فيسيل دمي ولا أجد من يسعفني .. لكن سرعان ما تبددت مخاوفي شيئاً فشيئاً .. فالناس يمشون بطريقة عادية .. ويبتسمون إليك في ود وحنان يزيل من داخلك كل شعور بالوحشة والغربة ..
تساءلت في نفسي .. ترى هل هؤلاء هم المجانين الذين جئت من أجلهم ؟
فتح لي فمه
لا .. لا أظن ذلك .. فالمجنون كما أعرف .. وقبل أن أستطرد في الإجابة على نفسي .. بادرني أحدهم بالسؤال : أستاذ .. من وين جيت ؟
جئت من صنعاء ..
ما اسمك ؟
اسمي محمد .. وأنت ما أسمك ؟
حمود باجلال .. أنت داري إيش سوَّى "فعل" الوحش معي؟
إيش سوَّى ؟
فتح لي لكفه "فمه" وحاول يأكلني .. كانت عيناه حمراء سع "مثل" الدم
وأنت إيش سوَّيت؟
صيَّحت صيَّحت بعدين سقطت
وبعدين .. وقبل أن أستكمل معه بقية القصة تركني حمود وانصرف بهدوء كما جاءني بهدوء ..
شعور بالشفقة بدأ يتسلل إلى قلبي على هذا الشاب الذي انحسرت كل اهتماماته في هذا العالم، في الوحش الذي حاول أن يأكله وقرر من ساعتها أن يفضح هذا الوحش القاسي بين الناس، وكنت أنا بالنسبة له فرصة عظيمة لكي أنقل قصته مع الوحش إلى أهل صنعاء التي أتيت منها فتعمّ الفضيحة ويشفي غليله ..
الإمام يحكم بالجان
ثم واصلت السير في ممرات القرية المتصاعدة .. حتى اقتربت من محل البقالة الوحيد الموجود هناك .. جلست على حجر اتخذه صاحب المحل دار ضيافة له ولمن أراد أن يشرب مشروبًا باردًا من زبائنه .. طلبت زجاجة من الماء البارد، فإذا به يأتيني بها وببعض أنواع البسكويت ويرفض تقاضي ثمنها، ويقول أنت ضيفي اليوم يا أستاذ .. شكرته وحاولت أن أتحجج برغبتي في العودة إلى صنعاء في نفس اليوم لكنه أقسم ألا أفعل .. وبدأ عمّ عبدالرحمن الرجل الطيب يتجاذب معي أطراف الحديث .. وما إن علم أنني تعلمت في مصر حتى راح يقص عليَّ قصصًا من تضحيات الجنود المصريين الذين ساندوا ثورة اليمن، وأخرجوا البلاد من حكم الأئمة الذي فرض على اليمنيين عزلة حضارية لم تشهدها دولة عربية أخرى في تاريخها الحديث، وكيف كان الإمام يستعين بالجان والمشعوذين في تخويف الناس ليستتب له الحكم .. وفجأة ضحك عم عبد الرحمن – البقال الطيب – وقال: هل تعلم يا أستاذ أن أحد الأئمة نشر إشاعة بين الناس أن من يطلي وجهه بالقار لن يمسَّه جن الإمام، وكان يقصد من ذلك اختبار مدى وعي الناس وطاعتهم له .. وبالفعل إذا بمئات الآلاف من اليمنيين في طول البلاد وعرضها يسيرون في الشوارع ووجوههم مطليَّة بالقار الأسود !!
عيب عليك
واستمر عم عبدالرحمن يقص عليَّ قصصه المسلية إلى أن أذَّن المغرب، فاستأذنت للصلاة وسألته عن مكان المسجد، فقال لماذا تذهب وحدك أنا ذاهب معك .. وقفز الرجل برشاقة من فوق الحاجز الخشبي وأمسك بيدي وسرنا معًا .. فقلت له : ألا تغلق المحل؟ فابتسم وقال .. نحن لا نغلق محلاتنا بين المغرب والعشاء فالقرية أمان .. سألته : لماذا بين المغرب والعشاء بالذات ؟ فقال لأنه من العيب على الرجل أن يبقى في محله أو في منزله في هذا الوقت .. فالكل يجب عليه أن يجلس في مسجد القرية يقرأ القرآن إلى أن يصلي العشاء ثم ينصرف ..!!
قلت في نفسي ما أحلى أن يتحول السلوك الإسلامي القويم إلى قيم وعادات اجتماعية .. دخلت المسجد وتوجهت إلى مكان الوضوء، وكان عليَّ أن أمشي في مخاضة من الماء صغيرة موضوعة على الباب؛ لينظف فيها المرء قدمه بعد أن يتوضأ وقبل أن يخطو إلى داخل المسجد زيادة في التحرز من النجاسة.
الدش ... الدش
وعقب الصلاة التي ما شعرت بحلاوة مثلها منذ شهور طويلة .. إذا بالشيخ مكرم يقف ويقول .. عباد الله اتقوا الله، واعلموا أن الدش "الطبق الهوائي"... وقبل أن يستطرد صاح فيه أحد المصلين ممن كسا الشيب رأسه قائلاً .. اجلس يا شيخ مكرم الآن .. موش وقت الخبل حقق .. عاد باقي صلاة السنة.
قرَّبت رأسي من جاري عم عبدالرحمن وسألته : من هذا ؟ فقال .. إنه أحد مجانين القرية .. مسكين .. كان يحفظ القرآن، ويعظ الناس حتى أصيب بما أصيب به معظم الناس هنا فأصبحت حالته كما ترى .. عقب كل صلاة يقوم ويخطب في موضوع واحد فقط منذ سنوات .. ثم ينطلق بعد موعظته يجري بين منازل القرية .. يصيح الدش .. الدش ..
حاولت أن أقوم لأصلي سنة المغرب سريعًا قبل أن يُشوِّش عليَّ الشيخ مكرم، لكني لم أستطع فقد كان الرجل أسبق مني .. فجلست مستسلمًا لسماع موعظته؛ علّي أعرف قصته مع الدش .. فقال .. عباد الله اتقوا الله .. الدش صنعه الكفار .. صنعوه من شان – من أجل – يخربوا المسلمين .. وأنا – والكلام للشيخ مكرم – من هنا من الحصيحصة .. أوجه كلامي إلى الرئيس علي عبد الله صالح أن عليه أن يمنع المسلمين من شراء الدش، ثم حملق بعينيه وفكر طويلاً، وفجأة علت نبرات صوته قائلاً: وأنا أشتهي – أريد – أن أسألكم : إيش فائدة الجات "القات" .. ضحك الناس من انتقاله السريع من قضية إلى قضية دون ربط أو تمهيد .. وضحكوا كذلك على حركاته وتعبيرات وجهه .. لكني لم أضحك مثلهم .. لقد أكبرت الشيخ مكرم .. إنه رغم ما به من مسّ – كما يقال – إلا أن عنده قضايا يعيش من أجل أن يُوَعِّي الناس بها غير عابئ بكلامهم أو باستهزائهم .
خرجت من المسجد بعد أن صلينا العشاء خلف شاب صغير لم أسمع أندى منه قراءة للقرآن .. وذهبت إلى بيت عم عبدالرحمن .. وهناك وضع لي الرجل الكريم ما عنده من عشاء .. ثم ناولني فراشًا من الإسفنج الرفيع وبطانية، وقال لي: هذه بقعتك "مكانك" .. كن على راحتك أنت في بيتك.
ومع ابتهالات الفجر المؤثرة استيقظت القرية .. وأسرعتُ بالذهاب إلى المسجد لأداء الصلاة، ثم أواصل عملي في تتبع مجانين القرية .. وبعد تناول قطعة من بنت الصحن – فطائر بالعسل – وكوبًا من الشاي .. استأذنت للخروج فأذن لي الرجل على وعد بالرجوع لتناول الغذاء عنده لكني اعتذرت.
الفقر لحس عقولهم
كان لا بد عليَّ أن أتعرف على الباحثين الاجتماعيين الذين عيَّنَتْهم الحكومة لدراسة حالات الجنون في الحصيحصة، فكان رأي الباحث يحيى علي الشامي أن انتشار الجنون بين شباب القرية يرجع إلى معاناتهم النفسية نتيجة الظروف الاجتماعية والاقتصادية السيئة التي يعيشها أغلب سكان القرية .. أما محمد عمر بامدهاف مدير عام صندوق الرعاية الاجتماعية بمحافظة حضرموت، فيقول: إن البلاغات عن ازدياد الحالات النفسية والعصبية ووجود حالات جنون كثرت في القرية، ووصلت إلينا عن طريق فريق الباحثين الاجتماعيين الذين قدموا إلينا من صنعاء بعد زيارة الأخ الرئيس لنا العام الماضي، ونحن الآن نساعد هؤلاء المرضى على تلقي العلاج .
لكن الدكتور فرج باصالح طبيب الأمراض النفسية والعصبية بمستشفي المكلا التي يذهب إليه مرضى الحصيحصة يقول: إن هناك أسبابًا كثيرة لانتشار هذه الحالات في القرية المذكورة، لكن أهم سبب في نظري هو زواج الأقارب؛ لأن المرض – على حد قوله – وراثي، وأضاف أن حالات الجنون جاءت إلينا كذلك من بعض المناطق المجاورة للحصيحصة مثل منطقة الفيش، وعسد الجبل، وقصيعر، وغيرها.
الجان جننا
أما الأهالي الذين تكثر في بيوتهم حالات الجنان، فيقولون: إننا نتعرف على المرض حينما نلاحظ أحد أولادنا، وقد ظهرت على فمه علامات معينة مثل الرغاوى البيضاء التي تتساقط منه أو الكلام الكثير الذي لا معنى له، وأحياناً التشنجات العصبية أو الخوف الجارف من شيء وهمي، وحينما نرى ذلك نسارع بالولد إلى شيخ من المشايخ ليعالجه بالقرآن حتى يخلصه من الجان الذي تلبَّسه أو نذهب به إلى مستشفى المكلا .
ويختتم الدكتور بامدهاف حديثه معنا بقوله إن الأمراض النفسية والعصبية التي جاءتنا أكثرها من الذكور الذين تتراوح أعمارهم بين 16 – 40 عامًا، ولم نسجل إلا ثلاث حالات فقط بين الإناث، وغالبًا ما تبدأ الحالة باكتئاب مصحوب بخوف مرضي وقلق، ثم تتطور إلى سائر الأمراض الذهنية المعروفة لدى علماء الطب النفسي.
.. هل حقًّا المجانين في نعيم ؟!
تركت الأهالي والأطباء والمرضي وحاولت أن أغمض عيني لأستريح من مشاق السفر وأنا عائد إلى صنعاء، لكنني لم أستطع فقد زاحمت آلاف الأسئلة في رأسي حتى كاد عقلي أن يتوقف عن التفكير تمامًا، مثلما يفعل الكمبيوتر حينما تختلط عليه الأوامر الكثيرة السريعة، ومن بين ركام الأسئلة رأيت ثلاثة أسئلة تلح عليَّ بشدة .. ترى هل حقًّا هناك مرض وراثي ينتشر بين سكان الحصيحصة يصيب أهلها بالجنون؟! وهل هم حقًّا مجانين ؟! .. وهل بالفعل المجانين كما يقول المثل المصري في نعيم ؟! ما رأيك أنت أيها القارئ العاقل ؟!
منقول
الكاتب الأصلي
محمد عبدالعاطي
--------------------------------------------------------------------------------
Reply With Quote
Bookmarks