مسألة : من يقول أن التحاكم إلى غير شرع الله لا ينقل إلى الكفر وإنما هو معصية :


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين ، الرحمن الرحيم ، مالك يوم الدين ، ورب السماوات والأرضين ، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين ، محمد الأمين ، وعلى آله وأصحابه إلى يوم الدين ، ثم أما بعد :

فإنه قد تبين لكل باحث ذو قريحةٍ أن حُكمَ من أنكرَ حق الله في الحكم والقضاء فهو كافر كمن أنكر ربوبيته ، وقد بيّنت ذلك في موضوع مستقل بعنوان "توحيد الحاكمية وإفراده بقسم مستقل" ، فأما الجاهل فيُبين له فإن أصرَّ فقد كفَرَ ، وذلك بالأدلة السابق ذكرها .

ويبقى البحث في حكم العلماء الذين لا يبيحون الحكم بغير ما أنزل الله ولكنهم يزعمون أن التحاكم إلى غير شرع الله أو الحكم بغير شرع الله لا ينقل إلى الكفر وأنه معصية ، فما حكمهم ؟؟؟
فأقول : إن الذي عليه السلف الصالح هو أن من قال بهذا فهو كافر مرتد إذا لم يكن جاهلاً ، فمن كان جاهلاً يُبيَّنُ له الحق فإن أصر فقد كفر ، وأمَّا العالمُ فيبين له ذلك أيضاً فإن أصر فلا يعذر فيها بتأويلٍ ، لأنه لا مجال إلى ذلك فهذه المسألة من أصول الدين ومن مقتضيات شهادة لا إله إلا الله ، فالحاكم بغير شرع الله طاغوت والكفر بالطاغوت ركن من أركان التوحيد فهي مسألةٌ لا تَنفَلِقُ ولا تَنفَكُّ عن معاني شهادة أن لا إله إلا الله ومقتضياتها .
فالعالم الذي يتبين له الدليل ويصر على عدم تكفير الحاكم بغير شريعة الله فهو عند أهل السنة والجماعة كافرٌ ، وإليك أقوال أهل العلم في مسألة التأويل ، وأنه يجب التبيين لهذا المتأوّل فإن أصر فقد كفر :

قال ابن قدامة المقدسي رحمه الله في "المغني" :
( فصلٌ : ومن اعتقد حِلَّ شيءٍ أُجمع على تحريمه ، وظهر حكمه بين المسلمين ، وزالت الشبهة فيه للنصوص الواردة فيه ، كلحم الخنزير والزنا وأشباه هذا ، مما لا خلاف فيه ، كفر كما ذكرنا في تارك الصلاة ، وإن استحل قتل المعصومين وأخذ أموالهم بغير شبهة ولا تأويل فكذلك ، وإن كان بتأويلٍ كالخوارج فقد ذكرنا أن أكثر الفقهاء لم يحكموا بكفرهم مع استحلالهم دماء المسلمين وأموالهم )
إلى قوله :
( وقد عرف من مذهب الخوارج تكفير كثير من الصحابة ومن بعدهم ، واستحلال دمائهم وأموالهم واعتقادهم التقرب بقتلهم إلى ربهم ومع هذا لم يحكم الفقهاء بكفرهم لتأويلهم )
إلى قوله :
( وكذلك أبو جندل بن سهيل وجماعة معه ، شربوا الخمر بالشام مُستحلين لها ، مستدلين بقول الله تعالى { ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جُناحٌ فيما طعموا } الآية . فلم يُكفَّروا ، وعُرِّفوا تحريمها ، فتابوا وأُقيم عليهم الحد ، فيُخرَّجُ في من كان مثلهم مثل حكمهم .
وكذلك كل جاهل بشيء يمكن أن يجهله ، لا يُحكم بكفره حتى يعرف ذلك ، وتزول عنه الشبهة ويستحله بعد ذلك ، وقد قال أحمد : من قال : الخمر حلالٌ ، فهو كافر يُستتاب ، فإن تاب وإلا ضُرِبَت عنقه . وهذا محمول على من لا يخفى على مثله تحريمه لما ذكرنا ) "المغني" لابن قدامة المقدسي 12/276 .

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
( وقد تنازع الناس في مخالف الإجماع ، هل يكفر ؟ على قولين .
والتحقيق : أن الإجماع المعلوم يكفر مخالفه كما يكفر مخالف النص بتركه ، لكن هذا لا يكون إلا فيما علم ثبوت النص به .
وأما العلم بثبوت الإجماع في مسألة لا نص فيها فهذا لا يقع ، وأما غير المعلوم فيمتنع تكفيره ) مجموع الفتاوى 19/270 .
وقال في موضع آخر :
( ثم ذلك المحرِّم للحلال والمُحلل للحرام ، إن كان مجتهداً قصْدهُ اتباع الرسول لكن خفي عليه الحق في نفس الأمر ، وقد اتقى الله ما استطاع ، فهذا لا يؤاخذه الله بخطئه ، بل يثيبه على اجتهاده الذي أطاع به ربه .
ولكن من علم أن هذا خطأ فيما جاء به الرسول ثم اتبعه على خطئه وعدل عن قول الرسول ، فهذا له نصيب من الشرك الذي ذمه الله ، لاسيما إن اتبع في ذلك هواه ونصره باللسان واليد ، مع علمه بأنه مخالف للرسول ، فهذا شرك يستحق صاحبه العقوبة عليه ) . أهـ مجموع الفتاوى 7/71 .


والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد ،،