حاتم هذا العصر الشيخ أحمد محمد بغلف ( يرحمه الله )
اشتهرت دوعن بهمة رجالها في طلب الرزق وميلهم إلى حب الخير والصلاح والسلام فرغم متاعب الهجرة الجمة ومخاطرها إلا أنهم استطاعوا تحقيق آمالهم وأهدافهم وكان زادهم الإيمان والصبر والأمانة والاستعداد الفطري للتعلم وأملهم في الحياة الكريمة وتحقيق طموحاتهم .
إن وادينا المبارك أنجب رجالاً حملوا على عاتقهم بناء الأجيال وصناعة التاريخ والحضارة الإنسانية ونشر القيم والعدل والخير والحرية ودفعوا عجلة التقدم والرقي إلى الأمام .
إن علمنا وشخصيتنا لا تعرف شخصه ولكن يعرفه جميع الناس من خلال أعماله ومشاريعه التي لا تجد قرية أو مدينة إلا وله إسهام فيها إنه هامة من هامات المجد والخلود وستظل سيرته العطرة قدوة للأجيال إنه حاتم هذا العصر الشيخ أحمد بن محمد بن سعيد بغلف عليه رحمة الله .
خسوفر : تقع بالجانب الشرقي لوادي ليمن وهي على يسار الداخل إلى الوادي وتطل على غابة من أشجار النخيل .
وقد أنجبت هذه القرية أحد شخصيات التاريخ الغيور على دينها وأمتها إنه صاحب المكرمات والخير والعطاء الشيخ أحمد بغلف .
وهو من مواليد قرية خسوفر بوادي دوعن محافظة حضرموت عام 1348هـ .
عرف مرارة اليتم والحرمان وألوان الفاقة وهو في سن مبكرة من حياته حيث نشأ النشأة الفائضة بحزنها وهمومها ولكنه لم يستسلم لتلك الظروف القاهرة .
تلقى تعليمه في البداية في قريته بوادي دوعن فتتلمذ على يد الشيخ العالم عبدالله بن محمد بلخير وتعلم بدايات معارف الحياة والدين وقد شهد له شيخه بالنبوغ والفصاحة .
ونتيجة للظروف المعيشية التي عانت منها حضرموت في تلك الفترة كانت الهجرة هي الملاذ لأبناء هذا الوادي لتحسين حياتهم المعيشية إن المتطلع إلى أخبار الحضارم يجد أن الهجرة ارتبطت بحياتهم منذ قديم الزمان فهاجروا إلى شمال أفريقيا والى الهند والشرق الأقصى والقرن الأفريقي وأخيراً إلى الحجاز ( السعودية ) .
فكان الشيخ أحمد بغلف من بين من هاجر وهو في سن مبكر من حياته * وبدأ حياته العملية فأول عمل له عمل في أحد البيوت بمكة المكرمة بأربعة قروش يومياً فكان يدخر قرشين ويصرف القرشين الآخرين .
والى جانب العمل بمكة المكرمة قد أتخذ من الحرم الشريف ملاذاً للإيمان وعلم الروح فتتلمذ على يد أعظم العلماء ومنهم الشيخ إبراهيم الحلواني وترك الشيخ إبراهيم أثراً بالغاً في حياة الشيخ أحمد بغلف حيث لقنه علوم الدنيا والآخرة فامتلك بذلك علوم الدنيا والآخرة فكان ناجحاً في حياته الدنيا وناجحاً في طريقه إلى الآخرة .
وبعد ذلك لم يجمد على ذلك العمل بل بدأ الخطوة الأولى لتطوير حياته ففكر في تأسيس النواة الأولى للصرافة في مكة المكرمة فبدأ كصراف متجول أمام أبواب الحرم الشريف والمشاعر المقدسة وذلك في مواسم الحج والعمرة ولم يقف عند ذلك الحد بل أخذ يطور مهنته للصرافة حتى أصبحت منطلقاً أساسياً للخطوات الأخرى حتى وصل إلى قمة عرش الصرافة التي لم يزاحمه عليها أحد .
واستطاع بتوفيق الله ثم بجده واجتهاده مع آخرين أن يؤسسوا عالم الصرافة والمال الذي يعد نواة لأكبر بنك عربي مصرفي . وعندما وصل إلى هذه المرتبة لم يغتر بأبهت المال والجاه بل كان بسيطاً ومتواضعاً في كل حياته .
فكان رجل بسيطاً بكل معاني البساطة فكان مجلسه الحصير وبيته من الطين وذلك تأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان يجلس وينام على الحصير .
إن الشيخ أحمد بغلف عليه رحمة الله أحد الرجال الرواد الذي له سياسته الخيرية ومجالات عطائه كثيرة جداً فكان يعمل في صمت وينجح في صمت ويتبرع في صمت ويشيد المشاريع الخيرية والتنموية من دون أن يطلب الشهرة الإعلامية والمديح لأن غايته إبتغاء ما عند الله .
إن إسهامات ومشاريع الشيخ أحمد بغلف كثيرة في جميع مجالات الحياة أكان في التربية والتعليم أم في غيره فقد قام ببناء عدد من المدارس وفي مجال الصحة بنى عدد من الوحدات الصحية والمتطلع إلى مشاريع بغلف الخيرية يجد أن معظمها في جانب المياه فقد قام بإمداد شبكات المياه في كل قرى ومدن وشروج حضرموت واديها وساحلها حتى الصحاري وبنى الخزانات وحفر الآبار ووفر المضخات فكان يولي توفير مياه الشرب النقية خصوصية كبيرة والسر في ذلك علمه بالمعاناة الشديدة التي يعاني منها سكان هذا الوادي . وقد عايش هذه المعاناة عندما كان طفلاً صغيراً عندما عاد في أحد الأيام من الحقول بعد العمل وطلب من والدته الماء فأجابته بأنه لا يوجد ماء في البيت فخرج مسرعاً إلى بئر قريته وعاد بالماء بعد معاناة وتعب فأطلقت عليه أمه منذ ذلك اليوم الإبن البار فانطبع هذا المشهد في ذاكرة هذا الطفل طيل حياته وعندما أكرمه الله كان كل همه هو توفير المياه لجميع الناس .
في كل مكان تجد مشاريعه شاهدة له بالخير والعطاء وهي لا تعد ولا تحصى أنها مآثر لا مثيل لها فقد قام بعتق الرقاب ودفع الديات وبناء المساجد وتشييد مراكز المعوقين والأربطة السكنية والجمعيات الخيرية الإنسانية فكان لا يرضى بالظلم ويناصر الضعفاء ويغيث الملهوفين وكان ينفق على الأسر الضعيفة المحتاجة في السر حتى أطلقوا عليه ( أبو الفقراء ) فكان أباً للخير وأباً للفقراء فكم كان سعيداً كلما أنجز مشروعاً ورأى البسمة على وجوه الناس إن هذه البسمة تساوي عنده المليارات وكل كنوز الدنيا وعندما يرى الدمعة في عيون الفقراء والبؤساء تثير فيه الشفقة لذلك يسعى جاهداً أن يحول الدمعة إلى بسمة التي تجعله يضحك من أعماقه ابتهاجاً بسعادة الآخرين .
فكان عليه رحمة الله لا يسأل عن الأشخاص ولا عن المكان الذي سيستفيد من إنفاقه وصدقاته بل يلبي حاجات المحتاجين بكل رضا وسرور من دون النظر إلى المنطقة أو الجماعة فأحبه من في السماء ونادى في أهل الأرض أني أحببت فلان فأحبوه فلله درك من رجل .
وفي أحد الأيام جاء جماعة إلى مجلسه من أهالي دوعن ووضحوا له حاجتهم الماسة والضرورية إلى بعض المشاريع فقال لهم الشيخ بغلف (( أنا واحد منكم وقد سخرني الله لكم فأطلبوا ما شئتم )) فالله درك يا أبا الجود والكرم والإحسان والخير والعطاء وكما قال المتنبي :
على قدر أهل العزم تأتي العزائم * * * وتأتي على قدر الكرام المكارم
وتعظم في عين الصغير صغارها * * * وتصغر في عين العظيم العظائم
ومن أقواله عليه رحمة الله :
-الرجال يصنعون أقدارهم بأيديهم .
-لا مكان للضعفاء في الأرض .. والمؤمن القوى خير من المؤمن الضعيف .
-نحن نملك القدرة على صياغة الحياة وفق ما نملك من قدرات وطاقات كل ذلك بفضل الله .
-لباس الإيمان والتقوى هو لباس الخير ولباس الطمع والذل هو لباس الجبناء .
-أتمنى أن أقابل ربي بروح مؤمن وعمل مجاهد وإخلاص حبيب .
وفي آخر أيامه أوصى أن يدفن في مكة فقال : اجعلوا جسدي وأضلعي في نبض مكة وترابها لأنه أحب البقاع الشريفة من بداية حياته فاستجاب الله وصيته ودعوته فكانت وفاته يوم الحج الأعظم عام 1411هـ عن عمر ناهز 63 عاماً فتحولت جنازته إلى صلاة جماعية قام بأدائها أكثر من مليوني حاج فتغمد الله فقيدنا بالرحمة والمغفرة وأسكنه أعلى درجات الجنة وصدق الله القائل: (( وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون )) .
Bookmarks