(منذُ عدَّة سنوات) ...
في أحد الأيام الرمضانية، و بعد أن تناولتُ وجبة السحور، تركتُ منزلي متَّجهًا -كالعادة- صوب مسجد المرسابة، و ذلك لتأدية الفجر جماعة في ذلك المسجد المتواضع الكائن في إحدى مديريات محافظة "عدن " ..
امتلأ المسجدُ بعدد لا بأس به من المصلين كحال أوائل ذلك الشهر الفضيل، حيث تكون الهمم عالية قبل غرقها في مستنقع الشهوات والدنيا الزائلة ..
كان الإمام في الركعة الأخيرة، حينما سُمعَ صراخٌ من الخارج بدا لنا أنَّه لشخصين يتشاجران، فترك البعض صلاتهم قبل انتهائها و خرجوا -بدافع الفضول البشري- لرؤية ذلك الشجار، بينما أكمل الإمام صلاتنا بعجالةٍ على غير العادة، فأنهى التشهّد الأخير في زمن قياسي -غير مسبوق- بلغ 15 (ثانية/تشهد)، كان لا بُدّ من إضافته إلى موسوعة "جينس" للأرقام القياسية .. من ثَمَّ خرجنا جميعًا لمعرفة الحادثة .. !
كانت الحكاية أنَّ رجلًا من أهل حارتنا فاتَتْه الركعة الأولى، و بينما كان على عتبة الدخول إذ رأى أحدهم على وشك الفرارمن المسجد -أثناء الصلاة- و بيده كيس ممتلئ، فاشتبه به أن يكون قد سرق بعض الأحذية و أمسك به حتى قدوم جمع من المصلين و قُبضَ على السارق حينها، من ثَمَّ انهال الجميع عليه بالضرب بعد رؤيتهم للأحذية المسروقة التي وُجدتْ في حقيبته ..
لم أشك للحظة واحدة أنَّ ذلك اللص سيجرؤ على معاودة الكرّة مرةً أخرى بعد الضرب الشديد والمبرح الذي نال معظم أجزاء جسده، فالجميع -أي من كان في المسجد وقتها- شارك في ملية الضرب ابتداءً بي وانتهاءً بالحاج "عوض" ذو الخامسة و السبعين خريفًا، إذ لم يثنه جسده المنهك بالعديد من الأمراض كـ/ "التهاب المفاصل" و "السكري" و "الضغط" عن المشاركة طمعًا في نيل نصيبه من المجد والشرف .. !
اقترح إمام مسجدنا -ذو الهيبة والوقار- أن نقيم الحدَّ على السارق و ذلك بقطع يده ليكون عبرةً لمن لم يعتبر، إلَّا أنَّ رأيه لم يلقَ قبولًا من الأغلبية، وأُطلق سراحه بعدما أقسم أنَّهُ لن يسرق بعد اليوم، ولن تطأ قدماه أرض حارتنا طوال عمره المتبقي ..
مساء ذلك اليوم ... كان أهل الحارة -مِمَّن شهدوا موقعة "ذات السارق"- يقصّون للآخرين ويتندرون فيما بينهم بذلك الإنجاز العظيم، حتى كان الغائب عن المسجد فجر ذلك اليوم يعضُّ أصابع الندم ويتمنى لو كان متواجدًا في تلك الموقعة ..
(بعد ذلك بسنوات) ...
أُقيم في ذات المسجد حفلٌ تكريمي للدفعة الجديدة من حفظة كتاب الله، وقد دُعِيَ لذلك الحفل جمعٌ من المواطنين وأولياء أمور الطلَّاب و بعض الأهالي، و كان ي مقدمتهم شخصية هامة جداً (vip) .
لم أستطع رؤية ذلك الـ " هام جداً " في بادئ الأمر -إذ كانت رؤية الشخصيات الهامة من هواياتي المحببة- ؛ نظراً لكوني في مؤخرة الصفوف بينما كان في المقدمة إضافةً إلى إحاطته بالعديد من رجال الأمن لحمايته من المتطفلين أمثالي .. !
في نهاية الحفل، صعد إمامنا -ذو الهيبة والوقار- إلى المنبر وقال بصوتٍ مسموع :
- أمَّا هذه اللحظة، فقد حان وقت الختام مع تكريم حفظة القرآن .. ثُمَّ إنَّه من دواعي سرورنا و شرف لنا أن يكون بيننا اليوم راعي هذا الحفل الخيري السيد (vip)، فليتفضل مشكورًا مأجورًا ..
لم أصدِّق ما رأته عينيّ .. !
وقفتُ مشدوهًا والذهول لا يكاد يفارقني وأنا أرى سارق الأحذية ذاته يقوم بتسليم الجوائز والشهادات التقديرية إلى طلَّاب القرآن .. !
هل أُصبتُ بهلوسةٍ بصرية أو شيء من هذا القبيل ؟!
أم إنَّ الجميع -بمن فيهم إمامنا الرشيد- قد تناسوا ملامحه ولم يتعرفوا عليه ..!
حاولتً أن أتفوه ولو بكلمةٍ واحدة ...
أنْ أذكِّرَ الجميع أنَّ هذا الذي تتسابقون لِلفتِ نظره ومصافحة يده الكريمة ما هو إلَّا ضحية موقعة "ذات السارق" التي اشتركنا بها جميعًا ..
أردتُ النهوض و صفعه على قفاه كما في المرة السابقة ... !
لكنَّني لم أجرؤ على قول -فكيف بفعل- شيء .. !
يقول أحد مفكري اليهود: (إنَّ الأحذية الثقيلة هي التي تصنعُ التاريخ)
و أنا أصدِّق ذلك اليهودي ..
فلربما لم يكن (vip) مجرد سارق، وأراد فقط أن يبحث له عن حذاءٍ ثقيل ذي كعبٍ عال.. كي يسير به نحو التاريخ ..... أو هذا ما أقنعتُ نفسي به .
Bookmarks