صمت قاتل يسود تلك المدينة الصغيرة وعصفور جريح يجوب نازفاً فوق كاتدرائية متهالكة ويصارع غيوماً سوداء ما فتئت تغطي سماء تلك المدينة. طيور البوم تجوب أطلالاً خربة بقرب ذلك التل الذي إستسلمت بجواره طيوف العشق للنوم و مركب بالي يشق عباب تلك البحيرة بإمتعاض وكما لو أن الركاب جميعاً يدخنون تبغاً فارغاً. سرت في تلك الشوارع كعربيد وأنا أترنح بين الفينة و الفينة وسرعان ما تهالكت قرب تلك الحانة التي أدمنت إرتيادها. كان بمقدوري أن أشاهد عناقيد العنب تتهاوى على قارعة الطريق و هي تنادي كؤس الخمر. أسندت ظهري على حيطان بلا عمود فقري فلاحت أشباح الماضي و ركعت أمام غبار الزمن كقديس تائب .حركت رأسي بتثاقل وتنهدت بدوري. لقد كان بوسع تلك التنهيدة أن تتزوج مني بيد أنها أبت أن تشاطرني ما تبقى من رفات محبتنا التي كانت مجرد صبي نحيل، رأسه في العيادة وجسده يحترق في نار ذات لهب. إنها تلك المحبة التي لطالما حلمت بها إلا إنني تمنيت لو أنني تأخرت في النوم قليلاً فلعلني بذلك أبلغ الأربعين.

كم هي رائعة أغنية الرحيل تلك التي كنت ترددها قبل أن ترحل إلى الحدائق الناعمة بجوار الشمس. كنت أقف بجوارك و أمسح ردن قميصك بالضوء ونحن نقف في أرض المنفى بعيداً عن الوطن ،حيث لا نعرف المشي. وريح صامتة تقف بيني وبينك كلوح زجاجي. لم يكن من الصعب علي أن أستنبط تلك المعادلة الرياضية، فالرحيل هو أحد أطرافها و شيطلائكة الهوى هي الطرف الآخر. لم تلق أنت بالاً لإستغاثاتي فالصخور تكتم أصداء الكلام المقدس . رحلت عني وأنت ترقب كومة الدموع تلك، بينما لم تجتهد انت لتبتكر دمعة. بعد إجهاشات البكاء، أليس الحزن مثل الخوف، لا يصدر صوتاً؟ ممتلئ ووحيد هو الكون مثلي.

لا مكان للحب في خلاياك النائية فكلمات العشق لم تحرك ساكناً بداخلك. عشت بجاورك زاهداً عن الملذات بلا رب ولا جنان وأسيراً لأوهام زائفة كأوهام صهيونية لا محال من تحقيقها. كم مشيت في أكياس البذور وحيداً وكم سقطت فوق أراضي خربة تأجل حرثها. وكم تركتني أدور في متاهات الأرقام لعلي أجدك في هواء قرص الدائرة. كنت أعتقد أن خيالي كان يرتدي أجمل ثيابه إلا أن الحقيقة قتلت ذلك الخيال الذي كان مجرد جندي فتي أغتاله الواقع و دحرجه في دمائه. لقد قيدتني كما تربط الورود ووضعتني في أناء زجاجي مليئ بالماء. فاض الغريق على إنحسار الماء و لم يعد الصياد أيضاً فالمركب غارق. ذبلت تلك الورود التي وضعتها في الإناء الزجاجي فهي تحتاج إلى التراب أيضاً وليس ماءاً فقط.


عد إلي فكم أنا أحبكـ. أحبك منذ أن كنا وهماً يجلس بجانب كرسي مقطع الأرجل من جراء تعب السنين.عد إلي فأنا أضم أصابعي لكي أتقيئ رغبتي في الإبتعاد عنك و أناشدك أن تدع عنك جمع الحطب وأن تقترب لتلم حطامي من الطرقات قبل أن تطمرني الرياح ويلتقطني الكناسون. ولا تنسى أن تلم شتات عظامي المتكلسة وتضعها في حقيبتك الجلدية التي تتأبطها دوماً. ودع الأرض تصعد معنا حتى لا نسير في هواء الإفتراضات مجدداً.


بقلم/ الإمبراطور