من كتاب لطائف المعارف للحافظ ابن رجب الحنبلي

وظائف شهر شعبان
ويشتمل على مجالس ـ المجلس الأول في صيامه
خرج الإمام أحمد والنسائي من حديث أسامة بن زيد قال: كان رسول الله يصوم الأيام يسرد حتى نقول لا يفطر، ويفطر الأيام حتى لا يكاد يصوم إلا يومين من الجمعة إن كانا في صيامه، وإلا صامهما، ولم يكن يصوم من الشهور ما يصوم من شعبان. فقلت: يا رسول الله! إنك تصوم حتى لا تكاد تفطر، وتفطر حتى لا تكاد تصوم إلا يومين إن دخلا في صيامك وإلا صمتهما ؟ قال: أي يومين؟ قلت: يوم الاثنين ويوم الخميس. قال: ذانك يومان تعرض فيهما الأعمال على رب العالمين، وأحب أن يعرض عملي وأنا صائم. قلت: ولم أرك تصوم من الشهور ما تصوم من شعبان ؟ قال: ذاك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان، وهو شهر ترفع الأعمال فيه إلى رب العالمين عز وجل، فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم) قد تضمن هذا الحديث ذكر صيام رسول الله  من جميع السنة وصيامه من أيام الأسبوع وصيامه من شهور السنة، فأما صيامه من السنة فكان يسرد الصوم أحيانا، والفطر أحيانا فيصوم حتى يقال: لا يفطر ويفطر حتى يقال: لا يصوم.
وقد روي ذلك أيضا عن عائشة وابن عباس وأنس وغيرهم، ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله  يصوم حتى نقول لا يفطر، ويفطر حتى نقول لا يصوم) وفيهما عن ابن عباس قال: كان رسول الله  يصوم إذا صام حتى يقول القائل: لا والله لا يفطر، ويفطر إذا فطر حتى يقول القائل: لا والله لا يصوم). وفيهما عن أنس أنه سئل عن صيام النبي  فقال: ما كنت أحب أن أراه من الشهر صائما إلا رأيته، ولا مفطرا إلا رأيته، ولا من الليل قائما إلا رأيته، ولا نائما إلا رأيته). ولمسلم (عنه قال: كان رسول الله  يصوم حتى يقال: قد صام قد صام، ويفطر حتى يقال: قد أفطر قد أفطر).
وقد كان رسول الله  ينكر على من يسرد صوم الدهر ولا يفطر منه ويخبر عن نفسه: أنه لا يفعل ذلك.
ففي الصحيحين عن عبد الله بن عمرو: أن النبي  قال له: أتصوم النهار وتقوم الليل؟ قال: نعم. فقال النبي : (لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأنام، وأمس النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني)
وفيهما عن أنس: أن نفرا من أصحاب النبي  قال بعضهم: لا أتزوج النساء وقال بعضهم: لا آكل اللحم، وقال بعضهم: لا أنام على فراش فبلغ ذلك النبي  فخطب وقال: ما بال أقوام يقولون كذا وكذا، لكني أصلي وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني) وخرجه النسائي وزاد فيه: وقال بعضهم: أصوم ولا أفطر.
وفي مسند الإمام أحمد عن رجل من الصحابة قال: ذكر لرسول الله مولاة لبني عبد المطلب فقيل: إنها قامت الليل وتصوم النهار. فقال النبي : (لكني أنا أنام وأصلي وأصوم وأفطر، فمن اقتدى بي فهو مني، ومن رغب عن سنتي فليس مني، إن لكل عمل شدة وفترة، فمن كانت فترته إلى بدعة فقد ضل، ومن كانت فترته إلى سنة فقد اهتدى). وفي المسند وسنن أبي داود عن عائشة رضي الله عنها أن عثمان بن مظعون أراد التبتل، فقال له رسول الله : (أترغب عن سنتي ؟ قال: لا والله ولكن سنتك أريد. قال: فإني أنام وأصلي وأصوم وأفطر وأنكح النساء، فاتق الله يا عثمان، فإن لأهلك عليك حقا، وإن لضيفك عليك حقا، وإن لنفسك عليك حقا، فصم وأفطر وصل ونم).
وقد قال عكرمة وغيره: إن عثمان بن مظعون وعلي بن أبي طالب والمقداد وسالما مولى أبي حذيفة في جماعة تبتلوا، فجلسوا في البيوت، واعتزلوا النساء، وحرموا طيبات الطعام واللباس إلا ما يأكل ويلبس أهل السياحة من بني إسرائيل وهموا بالاختصاء، وأجمعوا لقيام الليل، وصيام النهار، فنزلت فيهم: (يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين).
وفي صحيح البخاري أن سلمان زار أبا الدرداء وكان النبي قد آخى بينهما فرأى أم الدرداء متبذّلة فقال: ما شأنك متبذّلة ؟ فقالت: إن أخاك أبا الدرداء لا حاجة له في الدنيا، فلما جاء أبوالدرداء قرّب له طعاما، قال له: كل. فقال إني صائم. فقال: ما أنا بآكل حتى تأكل، فأكل. فلما كان الليل ذهب أبوالدرداء ليقوم، فقال له سلمان: نم. ثم ذهب ليقوم، فقال له: نم. فلما كان من آخر الليل، قال سلمان: قم الآن. فقاما فصليا، فقال سلمان: إن لنفسك عليك حقا، وإن لضيفك عليك حقا، وإن لأهلك عليك حقا، فأعط كل ذي حق حقه. فأتيا النبي فذكروا ذلك له. فقال: (صدق سلمان). وفي رواية في غير الصحيح قال: (ثكلت سلمان أمه، لقد أشبع من العلم) وهكذا قال النبي لعبد الله بن عمرو بن العاص، لما كان يصوم الدهر فنهاه، وأمره أن يصوم صوم داود، يصوم يوما ويفطر يوما، وقال له: لا أفضل من ذلك. وقد ورد النهي عن صيام الدهر والتشديد فيه، وهذا كله يدل على أن أفضل الصيام أن لا يستدام، بل يعاقب بينه وبين الفطر. وهذا هو الصحيح من قولي العلماء. وهو مذهب أحمد وغيره، وقيل لعمر: إن فلانا يصوم الدهر، فجعل يقرع رأسه بقناة معه، ويقول: كل يا دهر كل يا دهر. خرجه عبد الرزاق.
الحكمة في النهي عن صيام الدهر
وقد أشار النبي  إلى الحكمة في ذلك من وجوه:
منها: قوله  في صيام الدهر: (لا صام ولا أفطر) يعني أنه لا يجد مشقة الصيام، ولا فقد الطعام والشراب والشهوة، لأنه صار الصيام له عادة مألوفة، فربما تضرر بتركه، فإذا صام تارة وأفطر أخرى حصل له بالصيام مقصوده بترك هذه الشهوات وفي نفسه داعية إليها، وذلك أفضل من أن يتركها ونفسه لا تتوق إليها.
ومنها قوله  في حق داود عليه السلام: (كان يصوم يوما ويفطر يوما، ولا يفر إذا لاقى) يشير إلى أنه كان لا يضعفه صيامه عن ملاقاة عدوه، ومجاهدته في سبيل الله. ولهذا روي عن النبي  أنه قال لأصحابه يوم الفتح وكان في رمضان: (إن هذا يوم قتال فافطروا) وكان عمر إذا بعث سرية قال لهم: لا تصوموا فإن التقوى على الجهاد أفضل من الصوم.
فأفضل الصيام أن لا يضعف البدن حتى يعجز عما هو أفضل منه من القيام بحقوق الله تعالى أو حقوق عباده اللازمة، فإن أضعف عن شيء من ذلك مما هو أفضل منه كان تركه أفضل.
فالأول: مثل أن يضعف الصيام عن الصلاة أو عن الذكر أو عن العلم كما قيل في النهي عن صيام الجمعة، ويوم عرفة بعرفة أنه يضعف عن الذكر والدعاء في هذين اليومين. وكان ابن مسعود يقل الصوم ويقول: إنه يمنعني من قراءة القرآن، وقراءة القرآن أحب إليّ، فقراءة القرآن أفضل من الصيام. نص عليه سفيان الثوري وغيره من الأئمة. وكذلك تعلم العلم النافع وتعليمه أفضل من الصيام. وقد نص الأئمة الأربعة على أن طلب العلم أفضل من صلاة النافلة، والصلاة أفضل من الصيام المتطوع به، فيكون العلم أفضل من الصيام بطريق الأولى. فإن العلم مصباح يستضاء به في ظلمة الجهل والهوى، فمن سار في طريق على غير مصباح لم يأمن أن يقع في بئر بوار فيعطب. قال ابن سيرين: إن قوما تركوا العلم واتخذوا محاريب فصلوا وصاموا بغير علم، والله ما عمل أحد بغير علم إلا كان ما يفسد أكثر مما يصلح.
والثاني: مثل أن يضعف الصيام عن الكسب للعيال، أو القيام بحقوق الزوجات، فيكون تركه أفضل، وإليه الإشارة بقوله : (إن لأهلك عليك حقا).
ومنها: ما أشار إليه  بقوله: (إن لنفسك عليك حقا فأعط كل ذي حق حقه) يشير إلى أن النفس وديعة لله عند ابن آدم، وهو مأمور أن يقوم بحقها، ومن حقها اللطف بها حتى توصل صاحبها إلى المنزل. قال الحسن: نفوسكم مطاياكم إلى ربكم فأصلحوا مطاياكم توصلكم إلى ربكم، فمن وفى نفسه حظها من المباح بنية التقوى به على تقويتها على أعمال الطاعات كان مأجورا في ذلك، كما قال معاذ بن جبل: إني أحتسب نومتي كما أحتسب قومتي. ومن قصّر في حقها حتى ضعفت وتضررت كان ظالما، وإلى هذا أشار النبي بقوله لعبد الله بن عمرو بن العاص: (إنك إذا فعلت ذلك نفهت له النفس وهجمت له العين) ومعنى نفهت: كلّت وأعيت. ومعنى هجمت العين: غارت. وقال لأعرابي جاءه فأسلم، ثم أتاه من عام قابل، وقد تغيّر فلم يعرفه، فلما عرفه سأله عن حاله ؟ قال: (ما أكلت بعدك طعاما بنهار فقال النبي : ومن أمرك أن تعذب نفسك ؟ !) فمن عذّب نفسه بأن حملها ما لا تطيقه من الصيام ونحوه فربما أثّر ذلك في ضعف بدنه وعقله، فيفوته من الطاعات الفاضلة أكثر مما حصّله بتعذيبه نفسه بالصيام.
وكان النبي  يتوسط في إعطاء نفسه حقها ويعدل فيها غاية العدل، فيصوم ويفطر، ويقوم وينام، وينكح النساء، ويأكل ما يجد من الطيبات كالحلواء والعسل ولحم الدجاج، وتارة يجوع يربط على بطنه الحجر، وقال: (عرض عليّ ربي أن يجعل لي بطحاء مكة ذهبا فقلت: لا يا ربّ ولكن أجوع يوما وأشبع يوما فإذا جعت تضرّعت إليك وذكرتك، وإذا شبعت حمدتك وشكرتك) فاختار لنفسه أفضل الأحوال ليجمع بين مقامي الشكر والصبر والرضا.
ومنها: ما أشار إليه بقوله  لعبد الله بن عمر: (ولعله أن يطول بك حياة) يعني: أن من تكلف الاجتهاد في العبادة، فقد تحمله قوة الشباب ما دامت باقية، فإذا ذهب الشباب وجاء المشيب والكبر عجز عن حمل ذلك، فإن صابره وجاهد واستمر فربما هلك بدنه، وإن قطع فقد فاته أحبّ الأعمال إلى الله تعالى وهو المداومة على العمل. ولهذا قال النبي : (اكلفوا من العمل ما تطيقون، فوالله لا يمل الله حتى تملوا) وقال : (أحب العمل إلى الله أدومه وإن قل).
فمن عمل عملا يقوى عليه بدنه في طول عمره في قوته وضعفه استقام سيره، ومن حمل ما لا يطيق فإنه قد يحدث له مرض يمنعه من العمل بالكلية، وقد يسأم ويضجر فيقطع العمل فيصير كالمنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى، وأما صيام النبي من الأيام أعني أيام الأسبوع فكان يتحرى صيام الاثنين والخميس، وكذا روي عن عائشة رضي الله عنها: أن النبي كان يتحرى صيام الاثنين والخميس) خرجه الإمام أحمد والنسائي وابن ماجه والترمذي وحسنه. وخرج ابن ماجه من حديث أبي هريرة قال: (كان النبي  يصوم الاثنين والخميس فقيل له: يا رسول الله إنك تصوم الاثنين والخميس ؟ فقال: إن يوم الاثنين والخميس يغفر الله فيهما لكل مسلم إلا مهتجرين فيقول: دعوهما حتى يصطلحا) وخرجه الإمام أحمد، وعنده: (أن رسول الله كان أكثر ما يصوم الاثنين والخميس فقيل له ؟: قال: إن الأعمال تعرض كل اثنين وخميس فيغفر لكل مسلم أو لكل مؤمن إلا المتهاجرين فيقول: أخرهما) وخرجه الترمذي ولفظه قال: (تعرض الأعمال يوم الاثنين ويوم الخميس فأحب أن يعرض عملي وأنا صائم). وروي موقوفا على أبي هريرة ورجح بعضهم وقفه وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة مرفوعا: (تفتح أبواب الجنة يوم الاثنين ويوم الخميس فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئا إلا رجل كانت بينه وبين أخيه شحناء يقول: انظروا هذين حتى يصطلحا). ويروى بإسناد فيه ضعف عن أبي أمامة مرفوعا ترفع الأعمال يوم الاثنين ويوم الخميس فيغفر للمستغفرين ويترك أهل الحقد بحقدهم) وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله عز وجل: (ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد) قال: يكتب كل ما تكلم به من خير وشر حتى أنه ليكتب قوله: أكلت وشربت وذهبت وجئت ورأيت حتى إذا كان يوم الخميس عرض قوله وعمله فأقر منه ما كان فيه من خير أوشر وألقى سائره فذلك قوله تعالى: (يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب) خرجه ابن أبي حاتم وغيره.
فهذا يدل على اختصاص يوم الخميس بعرض الأعمال لا يوجد في غيره، وكان إبراهيم النخعي يبكي إلى امرأته يوم الخميس وتبكي إليه، ويقول: اليوم تعرض أعمالنا على الله عز وجل. فهذا عرض خاص في هذين اليومين غير العرض العام كل يوم، فإن ذلك عرض دائم بكرة وعشيا، ويدل على ذلك ما في الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي قال: (يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، فيجتمعون في صلاة الصبح وصلاة العصر، فيسأل الذين باتوا فيكم وهو أعلم: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: أتيناهم وهم يصلون، وتركناهم وهم يصلون) وفي صحيح مسلم عن أبي موسى الأشعري قال: قام فينا رسول الله  بخمس كلمات فقال: (إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع الله عمل الليل قبل النهار وعمل النهار قبل الليل، حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه) ويروى عن ابن مسعود قال: إن مقدار كل يوم من أيامكم عند ربكم اثنتا عشرة ساعة، فتعرض عليه أعمالكم بالأمس أول النهار اليوم، فينظر فيها ثلاث ساعات. وذكر باقيه. كان الضحاك يبكي آخر النهار ويقول: لا أدري ما رفع من عملي؟.
يا من عمله معروض على من يعلم السر وأخفى لا تبهرج فإن الناقد بصير.
السقم على الجسم له ترداد
والعمر ينقص والذنوب تزاد

ما أبعد شقتي ومالي زاد
ما أكثر بهرجي ولي نقاد

وحديث أسامة فيه: (أن النبي كان إذا سرد الفطر يصوم الاثنين والخميس) فدل على مواظبة النبي على صيامهما، وقد كان أسامة يصومهما حضرا وسفرا لهذا.
وفي مسند الإمام أحمد وسنن النسائي عن عبد الله بن عمرو أن النبي  أمره أن يصوم ثلاثة أيام من كل شهر، فقال له: إني أقوى على أكثر من ذلك، قال: (فصم من الجمعة يوم الاثنين والخميس) قال: إني أقوى على أكثر من ذلك قال: (فصم صيام داود).
وفي مسند الإمام أحمد من رواية عثمان بن رشيد حدثني أنس بن سيرين قال: أتينا أنس بن مالك في يوم خميس فدعا بمائدة فدعاهم إلى الغداء، فتغذى بعض القوم وأمسك بعض، ثم أتوه يوم الخميس ففعل مثلها فقال أنس: لعلكم أثنائيون لعلكم خميسيون كان رسول الله  يصوم حتى يقال: لا يفطر، ويفطر حتى يقال: لا يصوم.
وظاهر هذا الحديث يخالف حديث أسامة وأن النبي  إنما كان يصوم الاثنين والخميس إذا دخلا في صيامه، ولم يكن يتحرى صيامهما في أيام سرد فطره، ولكن عثمان بن رشيد ضعيف ضعفه ابن معين وغيره. وحديث أسامة أصح منه وقد روي من حديث أم سلمة أن النبي  كان يصوم من كل شهر ثلاثة أيام، أول خميس والاثنين والاثنين) وفي رواية بالعكس الاثنين والخميس والخميس. وأكثر العلماء على استحباب صيام الاثنين والخميس، وروي كراهته عن أنس بن مالك من غير وجه عنه وكان مجاهد يفعله ثم يتركه وكرهه. وكره أبو جعفر محمد بن علي صيام الاثنين، وكرهت طائفة صيام يوم معين كلما مر بالإنسان.
روي عن عمران بن حصين، وابن عباس والشعبي والنخعي، ونقله ابن القاسم عن مالك، وقال الشافعي في القديم أكره ذلك. قال: وإنما كرهته لئلا يتأسى جاهل فيظن أن ذلك واجب قال: فإن فعل فحسن. يعني على غير اعتقاد الوجوب.
وأما صيام النبي من أشهر السنة فكان يصوم من شعبان ما لا يصوم من غيره من الشهور. وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: (ما رأيت رسول الله  استكمل صيام شهر قط إلا رمضان، وما رأيته في شهر أكثر صياما منه في شعبان) زاد البخاري في رواية: (كان يصوم شعبان كله) ولمسلم في رواية: (كان يصوم شعبان كله، كان يصوم شعبان إلا قليلا). وفي رواية النسائي عن عائشة قالت: (كان أحب الشهور إلى رسول الله أن يصوم شعبان كان يصله برمضان).
وعنها وعن أم سلمة قالتا: (كان رسول الله  يصوم شعبان إلا قليلا، بل كان يصومه كله) وعن أم سلمة قالت: (ما رأيت رسول الله  يصوم شهرين متتابعين إلا شعبان ورمضان) وقد رجح طائفة من العلماء منهم ابن المبارك وغيره: أن النبي  لم يستكمل صيام شعبان وإنما كان يصوم أكثره، ويشهد له ما في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما علمته تعني النبي  صام شهرا كله إلا رمضان) وفي رواية له أيضا عنها قالت: (ما رأيته صام شهرا كاملا منذ قدم المدينة إلا أن يكون رمضان). وفي رواية له أيضا: أنها قالت: (لا أعلم نبي الله  قرأ القرآن كله في ليلة ولا صام شهرا كاملا غير رمضان) وفي رواية له أيضا قالت: (ما رأيته قام ليلة حتى الصباح ولا صام شهرا متتابعا إلا رمضان) وفي الصحيحين عن ابن عباس قال: ما صام رسول الله  شهرا كاملا غير رمضان) وكان ابن عباس يكره أن يصوم شهرا كاملا غير رمضان. وروى عبد الرزاق في كتابه عن ابن جريج عن عطاء قال: كان ابن عباس ينهى عن صيام الشهر كاملا ويقول: ليصمه إلا أياما. وكان ينهي عن إفراد اليوم كلما مر به وعن صيام الأيام المعلومة، وكان يقول: لا تصم أياما معلومة.
فإن قيل: فكيف كان النبي  يخص شعبان بصيام التطوع فيه مع أنه قال: (أفضل الصيام بعد شهر رمضان شهر الله المحرم) ؟. فالجواب: أن جماعة من الناس أجابوا عن ذلك بأجوبة غير قوية لاعتقادهم أن صيام المحرم والأشهر الحرم أفضل من شعبان، كما صرح به الشافعية وغيرهم. والأظهر خلاف ذلك وأن صيام شعبان أفضل من صيام الأشهر الحرم. ويدل على ذلك ما خرجه الترمذي من حديث أنس سئل النبي : أي الصيام أفضل بعد رمضان ؟ قال: (شعبان تعظيما لرمضان) وفي إسناده مقال. وفي سنن ابن ماجة: (أن أسامة كان يصوم الأشهر الحرم فقال له رسول الله : (صم شوالا) فترك الأشهر الحرم فكان يصوم شوالا حتى مات. وفي إسناده إرسال، وقد روي من وجه آخر يعضده. فهذا نص في تفضيل صيام شوال على صيام الأشهر الحرم، وإنما كان كذلك لأنه يلي رمضان من بعده، كما أن شعبان يليه من قبله، وشعبان أفضل لصيام النبي  له دون شوال. فإذا كان صيام شوال أفضل من الأشهر الحرم، فلأن يكون صوم شعبان أفضل بطريق الأولى.
فظهر بهذا أفضل التطوع ما كان قريبا من رمضان قبله وبعده، وذلك يلتحق بصيام رمضان لقربه منه، وتكون منزلته من الصيام بمنزلة السنن الرواتب مع الفرائض قبلها وبعدها، فيلتحق بالفرائض في الفضل وهي تكملة لنقص الفرائض، وكذلك صيام ما قبل رمضان وبعده. فكما أن السنن الرواتب أفضل من التطوع المطلق بالصلاة، فكذلك صيام ما قبل رمضان وبعده أفضل من صيام ما بعد منه، ويكون قوله : (أفضل الصيام بعد رمضان المحرم) محمولا على التطوع المطلق بالصيام. فأما ما قبل رمضان وبعده فإنه يلتحق في الفضل كما أن قوله في تمام الحديث (وأفضل الصلاة بعد المكتوبة: قيام الليل) إنما أريد به تفضيل قيام الليل على التطوع المطلق دون السنن الرواتب عند جمهور العلماء خلافا لبعض الشافعية. والله أعلم.
فإن قيل: فقد قال النبي : (أفضل الصيام صيام داود كان يصوم يوما ويفطر يوما) ولم يصم كذلك بل كان يصوم سردا ويفطر سردا ويصوم شعبان وكل اثنين وخميس ؟ قيل: صيام داود الذي فضله النبي  على الصيام، قد فسره النبي في حديث آخر، بأنه صوم شطر الدهر وكان صيام النبي إذا جمع يبلغ نصف الدهر أو يزيد عليه. وقد كان يصوم مع ما سبق ذكره يوم عاشوراء أو تسع ذي الحجة. وإنما كان يفرق صيامه ولا يصوم يوما ويفطر يوما لأنه كان يتحرى صيام الأوقات الفاضلة. ولا يضر تفريق الصيام والفطر أكثر من يوم. ويوم إذا كان القصد به التقوى على ما هو أفضل من الصيام من أداء الرسالة وتبليغها والجهاد عليها والقيام بحقوقها. فكان صيام يوم وفطر يوم يضعفه عن ذلك، ولهذا سئل النبي في حديث أبي قتادة عمن يصوم يوما ويفطر يومين ؟ قال: (وددت أني طوقت ذلك) وقد كان عبد الله بن عمرو بن العاص لما كبر يسرد الفطر أحيانا ليتقوى به على الصيام، ثم يعود فيصوم ما فاته محافظة على ما فارق عليه النبي  من صيام شطر الدهر، فحصل للنبي  أجر صيام شطر الدهر وأزيد منه بصيامه المتفرق، وحصل له أجر تتابع الصيام بتمنيه لذلك، وإنما عاقه عنه الاشتغال بما هو أهم منه وأفضل. والله أعلم.
وقد ظهر بما ذكرناه وجه صيام النبي لشعبان دون غيره من الشهور. وفيه معان أخر: وقد ذكر منها النبي في حديث أسامة معنيين:
أحدهما: أنه شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان، يشير إلى أنه لما اكتنفه شهران عظيمان الشهر الحرام وشهر الصيام اشتغل الناس بهما عنه، فصار مغفولا عنه. وكثير من الناس يظن أن صيام رجب أفضل من صيامه لأنه شهر حرام، وليس كذلك. وروى ابن وهب قال: حدثنا معاوية بن صالح عن أزهر بن سعد عن أبيه عن عائشة قالت: ذكر لرسول الله ناس يصومون رجبا ؟ فقال: (فأين هم عن شعبان) وفي قوله: (يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان) إشارة إلى أن بعض ما يشتهر فضله من الأزمان أو الأماكن أو الأشخاص قد يكون غيره أفضل منه، إما مطلقا أو لخصوصية فيه لا يتفطن لها أكثر الناس فيشتغلون بالمشهور عنه، ويفوتون تحصيل فضيلة ما ليس بمشهور عندهم،
وفيه: دليل على استحباب عمارة أوقات غفلة الناس بالطاعة، وأن ذلك محبوب لله عز وجل، كما كان طائفة من السلف، يستحبون إحياء ما بين العشاءين بالصلاة ويقولون: هي ساعة غفلة، ولذلك فضل القيام في وسط الليل المشمول الغفلة لأكثر الناس فيه عن الذكر، وقد قال النبي : (إن استطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الليلة فكن) ولهذا المعنى كان النبي  يريد أن يؤخر العشاء إلى نصف الليل، وإنما علل ترك ذلك لخشية المشقة على الناس، ولما خرج على أصحابه وهم ينتظرونه لصلاة العشاء قال لهم: (ما ينتظرها أحد من أهل الأرض غيركم) وفي هذا إشارة إلى فضيلة التفرد بذكر الله في وقت من الأوقات لا يوجد فيه ذاكر له، ولهذا ورد في فضل الذكر في الأسواق ما ورد من الحديث المرفوع والآثار الموقوفة حتى قال أبو صالح: إن الله ليضحك ممن يذكره في السوق، وسبب ذلك أنه ذكر في موطن الغفلة بين أهل الغفلة، وفي حديث أبي ذر المرفوع: (ثلاثة يحبهم الله، قوم ساروا ليلتهم حتى إذا كان النوم أحب إليهم مما يعدل به فوضعوا رؤوسهم، فقام أحدهم يتملقني ويتلو آياتي، وقوم كانوا في سرية فانهزموا فتقدم أحدهم فلقي العدو فصبر حتى قتل، وذكر أيضا قوما جاءهم سائل فسألهم فلم يعطوه فانفرد أحدهم حتى أعطاه سرا) فهؤلاء الثلاثة انفردوا عن رفقتهم بمعاملة الله سرا بينهم وبينه فأحبهم الله، فكذلك من يذكر الله في غفلة الناس، أومن يصوم في أيام غفلة الناس عن الصيام.
وفي إحياء الوقت المغفول عنه بالطاعة فوائد:
منها: أنه يكون أخفى، وإخفاء النوافل وإسرارها أفضل. لا سيما الصيام فإنه سر بين العبد وربه. ولهذا قيل: إنه ليس فيه رياء. وقد صام بعض السلف أربعين سنة لا يعلم به أحد، كان يخرج من بيته إلى سوقه ومعه رغيفان فيتصدق بهما ويصوم، فيظن أهله أنه أكلهما ويظن أهل السوق أنه أكل في بيته. وكانوا يستحبون لمن صام أن يظهر ما يخفي به صيامه فعن ابن مسعود: أنه قال: إذا أصبحتم صياما فأصبحوا مدهنين. وقال قتادة: يستحب للصائم أن يدهن حتى تذهب عنه غبرة الصيام. وقال أبو التياح: أدركت أبي ومشيخة الحي إذا صام أحدهم ادهن ولبس صالح ثيابه.
ويروى أن عيسى بن مريم عليه السلام قال: (إذا كان يوم صوم أحدكم فليدهن لحيته، وليمسح شفتيه من دهنه، حتى ينظر الناظر إليه فيرى أنه ليس بصائم) اشتهر بعض الصالحين بكثرة الصيام، فكان يجتهد في إظهار فطره للناس حتى كان يقوم يوم الجمعة والناس مجتمعون في مسجد الجامع فيأخذ إبريقا فيضع بلبلته في فيه، ويمصه ولا يزدرد منه شيئا، ويبقى ساعة كذلك ينظر الناس إليه، فيظنون أنه يشرب الماء، وما دخل إلى حلقه منه شيء.
كم ستر الصادقون أحوالهم، وريح الصدق ينم علهيم، ريح الصيام أطيب من ريح المسك، تستنشقه قلوب المؤمنين وإن خفي، وكلما طالت عليه المدة ازدادت قوة ريحه.
كم أكتم حبكم عن الأغيار
والدمع يذيع في الهوى أسراري

كم أستركم هتكتموا أسراري
من يخفي في الهوى لهيب النار

ما أسر أحد سريرة إلا ألبسه رداءها علانية
وهبني كتمت السرا وقلت غيره
أتخفي على أهل القلوب السرائر

أبى ذاك أن السر في الوجه ناطق
وإن بضمير القلب في العين ظاهر

ومنها: أنه أشقّ على النفوس، وأفضل الأعمال أشقها على النفوس، وسبب ذلك أن النفوس تتأسى بما تشاهد من أحوال أبناء الجنس، فإذا كثرت يقظة الناس وطاعاتهم كثر أهل الطاعة لكثرة المقتدين بهم فسهلت الطاعات، وإذا كثرت الغفلات وأهلها تأسى بهم عموم الناس، فيشقّ على نفوس المستيقظين طاعاتهم لقلة من يقتدون بهم فيها، ولهذا المعنى قال النبي  نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعيللعامل منهم أجر خمسين منكم، إنكم تجدون على الخير أعوانا ولا يجدون).
وقال: (بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء) وفي رواية قيل: ومن الغرباء: (قال الذين يصلحون إذا فسد الناس). وفي صحيح مسلم من حديث معقل بن يسار عن النبي  قال: (العبادة في الهرج كالهجرة إليّ). وخرجه الإمام أحمد ولفظه: (العباد في الفتنة كالهجرة إليّ) وسبب ذلك أن الناس في زمن الفتن يتبعون أهواءهم، ولا يرجعون إلى دين فيكون حالهم شبيها بحال الجاهلية، فإذا انفرد من بينهم من يتمسك بدينه، ويعبد ربه ويتبع مراضيه ويجتنب مساخطه، كان بمنزلة من هاجر من بين أهل الجاهلية إلى رسول الله  مؤمنا به، متبعا لأوامره، مجتنبا لنواهيه.
ومنها: أن المفرد بالطاعة من أهل المعاصي والغفلة قد يدفع البلاء عن الناس كلهم، فكأنه يحميهم ويدافع عنهم. وفي حديث ابن عمر الذي رويناه في جزء ابن عرفة مرفوعا: (ذاكر الله في الغافلين كالذي يقاتل عن الفارين، وذاكر الله في الغافلين كالشجرة الخضراء في وسط الشجر الذي تحات ورقه من الصرير ـ والصرير: البرد الشديد ـ وذاكر الله في الغافلين يغفر له بعدد كل رطب ويابس، وذاكر الله في الغافلين يعرف مقعده في الجنة). قال بعض السلف: ذاكر الله في الغافلين كمثل الذي يحمي الفئة المنهزمة، ولولا من يذكر الله في غفلة الناس لهلك الناس. رأى جماعة من المتقدمين في منامهم كأن ملائكة نزلت إلى بلاد شتى، فقال بعضهم لبعض: اخسفوا بهذه القرية، فقال بعضهم: كيف نخسف بها وفلان قائم يصلي؟. ورأى بعض المتقدمين في منامه من ينشد ويقول:
لولا الذين لهم ورد يصلونا
وآخرون لهم سرد يصومونا

لدكدكت أرضكم من تحتكم
سحرا لأنكم قوم سوء ما تطيعونا

وفي مسند البزار عن أبي هريرة مرفوعا: (مهلا عن الله مهلا فلولا عباد ركع وأطفال رضع وبهائم رتع لصب عليكم العذاب صبا) ولبعضهم في المعنى:
لولا عباد للإله ركع
وصبية من اليتامى رضع

ومهملات في الفلاة رتع
صب عليكم العذاب الموجع

وقد قيل في تأويل قوله تعالى: (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض) أنه يدخل فيها دفعة عن العصاة بأهل الطاعة، وجاء في الأثر: أن الله يدفع بالرجل الصالح عن أهله وولده وذريته ومن حوله. وفي بعض الآثار يقول الله عز وجل: (أحب العباد إليّ المتحابون بجلالي المشاؤون في الأرض بالنصيحة، الماشون على أقدامهم إلى الجمعات) وفي رواية: (المتعلقة قلوبهم بالمساجد والمستغفرون بالأسحار، فإذا أردت إنزال عذاب بأهل الأرض فنظرت إليهم صرفت العذاب عن الناس). وقال مكحول: ما دام في الناس خمسة عشر يستغفر كل منهم كل يوم خمسا وعشرين مرة لم يهلكوا بعذاب عامة والآثار في هذا المعنى كثيرة جدا
وقد روي في صيام النبي شعبان معنى آخر وهوأنه تنسخ فيه الآجال فروي بإسناد فيه ضعف عن عائشة قالت: كان أكثر صيام رسول الله في شعبان فقلت: يا رسول الله أرى أكثر صيامك في شعبان ؟ قال: إن هذا الشهر يكتب فيه لملك الموت من يقبض فأنا لا أحب أن ينسخ اسمي إلا وأنا صائم) وقد روي مرسلا وقيل: إنه أصح وفي حديث آخر مرسل: (تقطع الآجال من شعبان إلى شعبان حتى أن الرجل لينكح ويولد له ولقد خرج اسمه في الموتى)
وروي في ذلك معنى آخر وهو: (أن النبي كان يصوم من كل شهر ثلاثة أيام وربما أخر ذلك حتى يقضيه بصوم شعبان) رواه ابن أبي ليلة عن أخيه عيسى عن أبيهما عن عائشة رضي الله عنها خرجه الطبراني ورواه غيره وزاد: قالت عائشة: فربما أردت أن أصوم فلم أطق حتى إذا صام صمت معه وقد يشكل على هذا ما في صحيح مسلم عن عائشة قالت: (كان رسول الله يصوم ثلاثة أيام من كل شهر لا يبالي من أية كان) وفيه أيضا عنها قالت: (ما علمته ـ تعني النبي ـ صام شهرا كاملا إلا رمضان ولا أفطره كله حتى يصوم منه حتى مضى لسبيله) وقد يجمع بينهما بأنه قد يكون صومه في بعض الشهور لا يبلغ ثلاثة أيام فيكمل ما فاته من ذلك في شعبان أو أنه كان يصوم من كل شهر ثلاثة أيام مع الاثنين والخميس فيؤخر الثلاثة خاصة حتى يقضيها في شعبان مع صومه الاثنين والخميس.
وبكل حال فكان عمله ديمة وكان إذا فاته من نوافله قضاه، كما كان يقضي ما فاته من سنن الصلاة وما فاته من قيام الليل بالنهار، فكان إذا دخل شعبان وعليه بقية من صيام تطوع لم يصمه قضاه في شعبان حتى يستكمل نوافله قبل دخول رمضان، فكانت عائشة حينئذ تغتنم قضاءه لنوافله فتقضي ما عليها من فرض رمضان حينئذ لفطرها فيه بالحيض، وكانت في غيره من الشهور مشتغلة بالنبي ،فإن المرأة لا تصوم وبعلها شاهد إلا بإذنه، فمن دخل عليه شعبان وقد بقي عليه من نوافل صيامه في العام استحب له قضاؤها فيه حتى يكمل نوافل صيامه بين الرمضانين، ومن كان عليه شيء من قضاء رمضان وجب عليه قضاؤه مع القدرة، ولا يجوز له تأخيره إلى ما بعد رمضان آخر لغير ضرورة، فإن فعل ذلك وكان تأخيره لعذر مستمر بين الرمضانين كان عليه قضاؤه بعد رمضان الثاني ولا شيء عليه مع القضاء، وإن كان ذلك لغير عذر فقيل: يقضي ويطعم مع القضاء لكل يوم مسكينا، وهو قول مالك والشافعي وأحمد اتباعا لآثار وردت بذلك. وقيل: يقضي ولا إطعام عليه وهو قول أبي حنيفة وقيل: يطعم ولا يقضي وهو ضعيف.
وقد قيل: في صوم شعبان معنى آخر: أن صيامه كالتمرين على صيام رمضان لئلا يدخل في صوم رمضان على مشقة وكلفة، بل قد تمرّن على الصيام واعتاده، ووجد بصيام شعبان قبله حلاوة الصيام ولذته، فيدخل في صيام رمضان بقوة ونشاط. ولما كان شعبان كالمقدمة لرمضان شرع فيه ما يشرع في رمضان من الصيام وقراءة القرآن ليحصل التأهب لتلقي رمضان، وترتاض النفوس بذلك على طاعة الرحمن.
روينا بإسناد ضعيف عن أنس قال: كان المسلمون إذا دخل شعبان انكبوا على المصاحف، فقراؤها وأخرجوا زكاة أموالهم تقوية للضعيف والمسكين على صيام رمضان، وقال سلمة بن كهيل: كان يقال شهر شعبان شهر القراء. وكان حبيب بن أبي ثابت إذا دخل شعبان قال: هذا شهر القراء، وكان عمرو بن قيس الملائي إذا دخل شعبان أغلق حانوته وتفرغ لقراءة القرآن، قال الحسن بن سهل: قال شعبان: يا رب جعلتني بين شهرين عظيمين فما لي ؟ قال: جعلت فيك قراءة القرآن.
يا من فرط في الأوقات الشريفة وضيّعها وأودعها الأعمال السيئة وبئس ما استودعها
مضى رجب وما أحسنت فيه
وهذا شهر شعبان المبارك

فيا من ضيع الأوقات جهلا
بحرمتها أفق واحذر بوارك

فسوف تفارق اللذات قسرا
ويخلي الموت كرها منك دارك

تدارك ما استطعت من الخطايا
بتوبة مخلص واجعل مدارك

على طلب السلامة من جحيم
فخير ذوي الجرائم من تدارك