لا أدري ما الذي دفعني لكتابة ما سأكتبه الآن ! هل هو الحنين لكتابة مقال ؟.. ربما .. هل هو الشعور بالملل ؟.. ممكن .. لكنني على يقين من أن السبب الرئيسي هو رغبتي بالثرثرة لشخص ما و لو حتى للورق .. ثلاثة شهور كاملة قضيتها وحيداً منعزلاً عن أصدقائي و أهلي .. أعمل و أقيم في صيدلية تقع في منطقة نائية بعيده عن مدينتي .. و لا يوجد لدي وقت للدردشة مع أهلي و أصدقائي سوى ثلاث ساعات كل يوم جمعة أعود بعدها للمعتقل الذي يُدعى " صيدلية " ..
لقد انطفأت الكهرباء للتو و على ضوء شمعة محتضرة انتابتني رغبة شديدة لحمل القلم* و هاهو الآن في يدي أخط هذه السطور على مجموعة أوراق متناثرة موجودة في مكتبي على أمل أن أطبعها عندما يعود تيار الكهرباء .. الساعة الآن التاسعة و النصف مساءً .. ثمة كلاب تنبح من بعيد .. يخيل لي أنني أرى مجنون يجوب الشارع الآن و يخصني بنظرات لا تُسر أبداً .. كل هذه المؤشرات لا تشجع على استمرار العمل خاصة و أن جميع محلات الجيران قد أقفلت .. لذلك اسمحوا لي بدقيقتين لأغلق باب الصيدلية و أرتدي منامتي ثم أعود لأكمل ثرثرتي معكم ..
.................................................. ................................... أعتذر على التأخير * فلقد أعددت وجبة العشاء و تناولتها على عجل فأنا أخشى أن يسرقني الوقت بالثرثرة و أنسي العشاء كالعادة .. و بعد أن انتهيت من الأكل بدأت أشعر بالملل على غير العادة * فبالأمس انتهيت من كتابة آخر قصة لي و لا توجد لدي الآن أي فكرة جديدة لقصة.. معنى هذا أن هذه الليلة ستكون مملة للغاية .. لهذا سألجأ إلى الثرثرة فهي على الأقل تضمن لي أن أكتب شيء .. لطالما أحببت كتابة القصص و من شدة حبي لهذه الهواية بدأت أرى كل شيء في الوجود من منظار القصة .. فالحياة التي نعيشها ما هي إلا مسرح كبير جداً تولد و تنتهي على خشبته آلاف القصص في اليوم .. تبدأ كل قصة مقرونة ببكاء بطلها المستاء حيث تم إخراجه عنوة من عالم يدعى " رحم الأم " إلى خشبة مسرح الحياة و تنتهي القصة مقرونة بآهات احتضار بطل القصة .. ما أتعس هذا البطل الذي تبدأ قصته و تنتهي بالألم .. لكنها القاعدة التي لن يستطيع أحد الأبطال تغييرها على سبيل تجديد السيناريو .. الطريف بالأمر أنه على الرغم من هذا الكم الهائل من القصص التي تولد يومياً إلا أنه لا يوجد شخص يعرف قصة حياة شخص آخر بالتفصيل مهما كانت حياة الأخير منفتحة * فهناك ساعات خلوة كثيرة يعيشها البطل لوحده و كذلك ليس من المنطقي أن يقترن شخص بآخر في كل مكان يتواجد فيه .. و هكذا نجد أن كل شخص يلم بقصة حياة واحدة فقط هي قصة حياته ..
ثلاثة و عشرون عاماً هي فترة قصتي حتى الآن .. نعم قصتي التي لعبت فيها دور البطولة رغم صغر أدواري أحياناً و السبب ببساطة لأنها قصتي أنا .. خلال هذه الفترة لعبت أدوار عديدة .. لعبت دور الطفل الرضيع * لعبت دور الطفل الهادئ الذي - كالعادة - يلاقي مضايقات من أقرانه * لعبت دور الطفل القروي الساذج الذي رحل مع والديه إلى المدينة .. لعبت دور التلميذ الذي أجتهد بدراسته كي يثبت للغير أن تلاميذ المدينة ليسوا أفضل من القرويين منهم .. لعبت دور المراهق العاشق الذي كتب قصائد حب لو سمعها قرد لسببت له صداع مزمن .. لعبت دور الطالب الجامعي الذي يعشق البحث العلمي أكثر من منهج دراسي أكل منه الزمن و شرب .. لعبت دور كاتب القصص الهاوي الذي لم يجد أحد يقرأ قصصه سوى أعضاء المنتديات الإلكترونية .. لعبت أدوار كثيرة لا أستطيع أن أتذكرها الآن * إلا أن هناك دور لازمني منذ الولادة حتى الآن و لم يتغير بتغير الحقبة الزمنية و هو دور ‹‹ الابن ›› * سأظل ألعب هذا الدور طالما والداي أطال الله بعمرهما حيين .. أما إذا توفى أحدهما أو كليهما فسألعب دور ‹‹ اليتيم ›› و هو دور لا أحب أن أقوم به لكن قواعد اللعبة ليست - للأسف - بيدي .. من يدري فقد ألعب دور اليتيم اليوم أو غداً أو بعد سنة و لربما تنتهي قصتي دون أن أعيش هذا الدور و بالتالي يلعب والداي في قصتهما دور الأب و الأم المكلومين على ولدهما ..
‹‹ الأب و الأم ›› هما أعظم شخصيتان قد يلعبهما المرء في قصة حياته * فهما عبارة عن كتلتين من الحب و العطاء لأبنائهما* و مهما اختلفت وسائلهما و مهما قسا على أبنائهما إلا أنها قسوة تنبع من خوفهما على ذلك الشخص الذي يحمل دمه و يُدعى " ابن أو أبنه " * فالله سبحانه و تعالى أوصى الأبناء بالأباء إحساناً و لم يوصى الآباء بأبنائهم لأنه يعلم - جل و علا - أن الآباء يحبون أولادهم بالفطرة ..
أربع شخصيات وقفت أمامها مليّاً .. ‹‹ الأب * الأم * الابن * و اليتيم ›› .. تلعب شخصيتي الأب و الأم دوراً مهماً في مسرح الحياة .. فهما الشخصيتان المسئولتان عن إنجاب أبطال جدد يمثلون أدوار جديدة على مسرح الحياة و بهذا تستمر مسرحية الحياة و لا تنتهي إلى أن يأمر الله بانتهائها .. هذا يعني أن الأب و الأم شخصيتان جديرتان بكل تقدير و حب و احترام* خاصة و هما يتكفلان بتربية و تعليم الشخصيات الجديدة التي أوجداها على خشبة المسرح بكل حب و حنان و تفان لأنهم ببساطة جزءً منهما .. المشكلة الحقيقية تكمن في أن الذي يلعب دور الابن نادراً ما يشعر بما يشعر به الأب أو الأم لأنه ببساطة لم يلعب دورهما بعد في قصة حياته فلا يشعر بما يشعران به و لا يتألم بما يؤلمهما* لهذا يجد أحياناً - خاصة عندما يلعب دور المراهق - أنه يُعامل بظلم من قبل والديه و أنه لا يجد ما يستحقه ..
الفرق بين شخصيتي ‹‹ الابن ›› و ‹‹ اليتيم ›› هو أن الأول يملك والدين بينما الآخر لا يملكهما لذلك نجد أن اليتيم يلعب دور رئيسي و أدوار فرعية أجبرته الأحداث على أن يلعبها .. فهو أساساً يمثل دور الابن و فجأة توفى أحد والديه أو كليهما فتغير أسم شخصيته من (ابن) إلى (يتيم) .. لكن تغير أسم الشخصية لا يعني أنه قد تخلى عن دوره الأساسي الذي هو دور (الابن) خاصة عندما يكون اليتيم صغير و مازال بحاجة لأبويه ..
برأيي الخاص يعتبر دور اليتيم من أصعب الأدوار التي قد يلعبها شخص ما في قصة حياته * فاليتيم لم يتخل بعد عن شخصية الابن الذي لا يزال يحتاج إلى حنان و رعاية الوالدين و يضطر أن يمثل أدوار الأب و الأم حتى يمنح الابن الذي يكمن فيه ما يحتاجه .. لهذا فأن الذي يلعب دور اليتيم يكون أكثر شخص يعرف قيمة الأب و الأم على عكس أغلب الأشخاص الذين يلعبون دور الأبناء لأنهم ببساطة لم يشعروا بالحرمان الذي شعر به اليتيم ..
أحبتي* سأتوقف الآن عن الثرثرة فالساعة تشير إلى العاشرة و النصف مساءً و الإرهاق قد تفشى بجسدي كله لكن قبل أن أتوجه لفراشي أحب أن أصرخ و أن تصرخوا معي كنداء أخير لأبناء العالم ..
[ يا أبناء العالم يجب أن تشكروا الله كثيراً لأنه قد حفظ لكم آبائكم و أمهاتكم .. فالأب و الأم هما أغلى هدية قد منحها الخالق لكم .. هل يجب أن يلعب المرء دور اليتيم حتى يعرف قيمة أبويه ؟!.. إن كنا لا نشعر بقيمة الصحة إلا بعد المرض فهل تريدون أن لا نعرف قيمة الوالدين إلا بعد وفاتهما !!!.. ]
في الأخير أشكر كل من أتسع صدره و تحمل ثرثرتي و ........ تصبحون على خير ..
Bookmarks