مسابقة أفضل قصة
قصة رقم ( 2 )
1. النور لا أثر له بين أضواء القصور .. إنما يظهر جلياً بين ظلمات القبور
أهدي هذه الكلمات إلى كلاً من :
... عنفوان الشباب وغرور القوة .
... أمل واسع ترامت أطرافه حتى حدود الأفق .
... ينبوع المشاعر الفياضة الجامحة دون لجام .
... شموع العمر المتراقص ضوئها في خيلاء وعجب .
... تاج الصحة المتعلي فرق الرؤوس الذي لا نراه حتى نطأطا ونشعر بالألم .
أهديكم جميعاً .. تجربة عشتها وثرثرات قلم كتبتها على السرير الأبيض لأسلي بها الأوقات المملة في انتظار الموت ..
في يومي الأولى أغلقت البوابة وحيل بيني وبين أمي الحبيبة ، فلم أنس بكائها المرير وكأنها تودعني للمرة الأخيرة .
وجدت نفسي في غرفة صغيرة .. أبواب زجاجية .. وأسرة بيضاء وجدران خضراء " تفاحي " ، ورائحة المعقم تفوح من كل زاوية ونظافة متناهية تشعرك بقيمة حياتك الطبيعية .\سريري هناك في الزاوية بجواري سرير وأمامي سرير .. ثلاثة أسرة فقط ... أسمع صوت سعال من كلا السريرين .
جعلت أواسي نفسي وأخبرها إنكِ ستعيشين هنا لفترة ليست بالقصيرة فعليك التأقلم بقدر المستطاع وتقبل النتائج مهما تكن مريرة . سلمت أمري إلى الله ... ودعوته أن يصبر أمي وأبي اللذان لا أعلم كيف سيقضيان هذه الليلة .
في يومي الثاني ..
شد انتباهي السرير المجاور لي كانت ( نورة ) في العقد الثالث كان حملها عائق كبيراً أمام تشخيص مرضها فلم يستطيعوا إجراء أشعة للصدر وكانت تعاني من نوبات ربو متكررة ... كانت علامات المرض واضحة عليها . وجميع من يراها يحذرني من الاختلاط بها ... كيف ..؟َ!
فليس لي بد منها وليس لها إلا أنا فلم يعد في الغرفة سوانا ، فقد كانت إنسانة بسيطة استطعت قرأتها من أول حوار ، فقد وهبني الله قوة الفراسة أستطيع أن أميز به بين الناس مهما تنوعت ثقافتهم واختلفت أصولهم ...
صلاة المغرب خمس ركعااات...!!!
كنت أصلي ولا أراها تصلي ، وأتعمد أصلي أمامها حتى تتذكر لو كانت ناسية ، ثم أخذتني الريبة وقلت في نفسي لعلها من تلك الطوائف التي لا تصلي ، لم أستطع الصبر أكثر ، فتحت الستارة بين سريرينا وصليت وهي تنظر إليّ ، وبدون مقدمات خرج سؤال من أعماقي دون استئذان ، وقلت : لماذا لا تصلين ؟!
أجابت : لأنه لا توجد سجادة !!
بكل بساطة لم يتبادر لي يوماً أن هذا سبب لندع الصلاة من أجله ..!!
نظرت إليها في اندهاش .. نورة ألهذا السبب لا تصلين
أجابت : نعم
أخبرتها عظيم ما تفعل وأن الدين لم يرخص في الصلاة لأي عذراً كان .. وبدأت تستفسر وخافت كثيراً
ولا أدري كيف حضرتني آيات الوعيد حينها وقصص تاركي الصلاة وأنا لم أعتلي منبر الوعظ طيلة حياتي .
أنه الجهل وما خلفه في تلك الأسرة فلا يوجد أحد من أهلها متعلم ، فالجميع لا يعرف للعلم طريقاً . وأمر مفزع عندما تسأل شخصاً في الثلاثين كم عدد ركعات المغرب فيجيبك ... خمس ركعات !!!
أقبلت وقالت علميني ، شرعت في تعليمها وما أصعب العلم في الكبر ، شعرت وكأني جندي في حرب .
بدأت تتلقى بشغف كطفل يخطو خطواته الأولى في الدراسة .. تستفسر عن كل شيء وكثيراً ما تسأل عن أشياء لا أجد لها في ذاكرتي جواباً ... كانت تذكرني بالصلوات وتسابقني إلى دورة المياة ، لم تقف عند هذا بل طلبت أن أعلمها الأذكار بعد الصلاة ، وهنا وقفنا كثيراً لأنها لا تعرف الحساب ولا العد .
فكلمة ( سبحان الله ) لم تكن صعبة ولكن الصعب أن ترددها ثلاثاً وثلاثين مرة ، شرعنا في العد بالأنامل ، أصبع .. أصبع .
أحياناً كنت وأكلمها بعد الصلاة ، وهي حريصة على العد فتصرخ قائلة : يااااااالله لخبطتيني ... وتعيد من جديد .
فعند إضاءة شمعة في ظلمة الليل تشعر بغبطة وسرور لكونك أحلت الظلمة نوراً ، فكيف إذا أشعلت ناراً متأججة فما أعظم أثرها في تفسك لعظم توهجها .
ومع مرور الوقت نسينا المرض وأنست وحدتي ، وأصبحنا نأكل معاً ونجلس في سرير واحد ، ولا نستطيع أن نغلق الستائر بين سريرينا إلا وقت الزيارة . حتى وقت النوم تبقى مفتوحة وكان أحدنا لا تريد أن تغمض عينيها حتى ترى الأخرى نامت ..
وعندما أنهي مكالمة هاتفية تسألني ببرأة هاااه مين ؟!
فلو كنا خارج في هذا المكان لما سألتني لأنه عيب أو لقافة !!
كم حكينا حكايات أمتزجت بالذاكرة وصارت الملاذ للعودة للماضي الجميل ..
ولا يقطع تلك الحكايات إلا موعد النوم والدواء .
نورة والصورة ..
على غير العادة كانت قلقلة .. لم تفطر ... لم تتغدا
ما الذي حدث ..؟! نورة .. أين تلك الابتسامة التي لا تكاد تفارق محياكِ ، وتأتي الممرضات ويذهبن ونورة لا تحرك ساكناً ... \قمت وجلست على سريرها وبدأت أحدثها عن نفسي علها تبوح بما تخفيه ، وأجد تفسيراً لهذا الصمت القاتل ... فلو صمتت نورة صمت الجميع .
نظرت إلي وعيناها تفيض دمعاً .. وفتحت جوالها لتريني صورة طفل في السنة الثانية ، سرحت بعيداً أتأمل الصورة ، فقطعت حبل أفكاري بقولها ( هذا ولدي محمد ) أنجبته بعد أربع بنات ، أشتاق إليه كثيراً ولا أستطيع البقاء .
قاطعتها قائلة : أن ولدها جميل جداً علي أخفف عنها ... عدت إلى سريري لم يفارقني المنظر فقد أحزنني وألم نفسي .. هذه نورة لم تبتعد عن ولدها سوى أيام فقط وهاهي تشتاق حتى كاد شوقها يحرق جسدها ... فكيف من فارقت اثنين من ابنائها ..؟!
ما زادني هذا الحادث إلا قناعة بقيمة ذات أمي وقدرتها على الصبر والتحمل ..
فعلاً لم تصبر نورة ... ووقعت خروجاً على مسؤليتها ..!!
في هذا المكان ندرك قيمة الأشياء مهما صغرت في أعيننا ..
الملعقة والسكين والماء الساخن والغطاء السميك في الليل البارد ... كلها أشياء افتقدناها في سجننا المغلق .. أما الملعقة فقد حدث يوماً أن أحضروا طعام الغداء دون ملاعق بحجة أن الكمية نفذت ، جعلنا ننظر في الطعام وننظر ..........
أسرتنا الحضارة حتى تخلينا عن استعمال أيدينا ليس ذلك فحسب بل بات يملكنا ذلك الاختراع الصغير ( الملعقة ) ..
ساد الهدوء في التفكير في حل هذه المشكلة الكبيرة ..!!! وفي لحظة أنقذت الموقف الخالة أم أحمد حيث استغنت عن ملعقتها الوحيدة التي كانت في الغرفة فهي لا تأكل الرز أصلاً ...
أما السكين .. فقد كان يوم عصيب حين أحضروا برتقالاً مع العشاء .. لم يكن هناك سكين فعلي بل قطعة بلاستيكية أقرب إلى القلم منها إلى السكين .. حاولت جاهدة قطع البرتقالة بذلك القلم ولكن دون جدوى فما كان مني سوى غرزه في البرتقالة والاكتفاء بالمشاهدة ( : هذا المنظر حتى اليوم التالي .
أما الماء الساخن فقصته عجيبه ... فقد كانوا يحضرون لنا الشاي والسكر والأكواب ولكن لا ماء حتى نقوم بمزج تلك الأشياء ونكتفي بالنظر لهذه المقادير !!! وكذا الحليب فكنا نعجب لرؤية الأكواب وبداخلها الحليب البودرة والسكر ونمسك تلك الأكواب ننظر وننظر .. أذكر صرخ الخالة أم أحمد ( نبي حليب .. نبي شاي ) وما من مجيب ..!!
يومي الأخير ...
ظهرت النتيجة وأخبروني أنه اشتباه ... حمدت الله تعالى وكان أول من أخبرت شخص عزيز علي فعلاً لم أعي مقدار حبي لها حتى أدركت أني أخبرتها قبل أهلي حتى ..!!
أمي الحبيبة ... لقد عدت إليكِ بهمومي وأحزاني بإزاعاجي وكسلي .. كم تحبين هذه الفتاة السيئة
وكم تتمسكين بها حتى آخر لحظة ... هي تعدكِ أن تبقى معكِ لأخر العمر ..
أخواني الأعزاء ... كان عزاي في مصيبة الموت أني سألتقيكما ولكن شاءت الأقدار أن أعود للحياة فلن أتوقف عند الدعاء لكما ..
صديقاتي الغاليات .. كما أحسست بقيمتي في قلوبكم فلكم كل الحب والوفاء
أبي الحبيب .. لك كل الحب والود وأدامك الله لنا ..
هنا ودعت الخالة أم محمد ومضيت بتجربة لن أنساها ... فعندما خرجت كأني ولدت من جديد كل شيء جميل في الخارج ، الناس والبيوت والاشجار حتى الشوارع ..
أن الحياة حافلة بصنوف الشقاء وأنواع الآلام فلا يفيق المرء من نكبة من نكبات الدهر حتي يقع .
وأخيراً يا قارئاً وصل لنهاية هذه الصفحة ...
استر ما رأيت من زلات ...
وتغاضى عما وجدت من هفوات ....
فإنما هي عبرات خالطت الألم وعانقت الأمل
Bookmarks