اليمن بلد الأسرار العجيبة
- بقلم توم دويني - ترجمة - عماد طاهر* -
في أول صباح لي في صنعاء – عاصمة اليمن – لم توقظني إلا الدعوة إلى الصلاة ( الآذان ) من نواحي متعددة لقد كان زجاج النافذة يتحرك منها ويبدوا أنها هزت أساس الفندق الذي أنام فيه ، لقد امتدت من منارة إلى أخرى كما لو كانت المدينة القديمة غرفة ذات صدى هائلة لقد كان صوت الدعوات واخز ولطالما كنت أتسأل ما إذا كنت قادراً على النوم مرة أخرى .
لقد لمحت من نافذتي مجموعة من العباد ذاهبون نحو أقرب مئذنة والأوشحة ملفوفة حول رؤوسهم لدرء برد الصباح بعد كل المحاولات قمت بتشكيل سدادة للأذان إلا أنني عبثاً حاولت وبعد أن اغتسلت وانتهيت من ارتداء ملابسي توقفت دعوات الصلاة كما لو أن أحد ما ضغط على زر الغفوة بقوة.
كنت ارتشف قهوة ثقيلة في سقف الفندق بعد ذلك أصبحت المدينة القديمة حية مع جميع طوابق الفندق السبعة في الأسفل وعلى مرأى العين رأيت الصحون الفضائية اللاقطة وكان هناك سيارة أجرة وحيدة تلف في أحد الأزقة ، وعدد قليل من أعمدة الكهرباء الضئيلة النور فبالرغم من التقدم التكنولوجي إلا أن صنعاء القديمة ما زالت تحتفظ بأقدميتها كعاصمة في العصور الوسطى ، ومازالت حدود أسوار المدينة قائمة وبعدد من الأحجار المصقولة والتذكارية ومطوقة بأسواق معقدة الطرق وزرائب لتحفظ المواشي التي جلبت إلى السوق ، وحدائق خضراء مورقة مزروعة بجوار المساجد ، ومباني شاهقة مبنية من الحجارة والقرميد ( بستة أو سبعة طوابق طويلة الكثير منها يعود تاريخها إلى القرن الحادي عشر ) وقد زينت هذه المنازل بإسراف بالجبس الأبيض والتي تقوم بمهمة اختيار الزخارف منمقة ، ونوافذ الطابق العلوي مصنوعة من المرمر أو الزجاج الملون لترى المشاهد الرائعة لمنظر المدينة والجبال التي تحيط بها في وقت مبكر من ناطحات السحاب .
على الرغم من الفن المعماري الرائع والثقافة التقليدية البكر والمشاهد المذهلة والبنية التحتية السياحية المقبولة إلا أن اليمن يشهد عدد قليل من الزوار معظمهم من أوروبا فمعظم المسافرين إليها يخافون من شبح الحرب الأهلية والتقارير المرفوعة عن الهجمات الإرهابية مثل تفجير المدمرة الأمريكية كول في عام 2000م وتحذير السفارات لرعاياها من السفر إلى اليمن لكن الناس على استعداد بقبول تلك المخاطر المحتملة واستكشاف هذه البلاد المسلية ، المتعة التي تأتي إليها فقدت في تدفق الحياة هناك وليس من الزيارات للأماكن الميتة أو الجديدة المأهولة بالمرابحين والسياح.
على الشارع الرئيسي لسوق صنعاء النساء المحليات الفاتنات بالعباءة السوداء في متاجر لشراء الملابس الملونة التي لم أر قط مثل لباسهم ، وهناك حشد من العمال الصغار يبيعون البطاطا والبيض المسلوق مع الملح الخشن والفلفل الأحمر ، وهناك بائع فاكهة يرتدي قفازات مطاطية سمكية يختار بعناية التين الشائك من عربة اليد ويزيل الشوك من قشرته فالأطفال والرجال في شمال اليمن يرتدون بدلات غريبة غير البدلة الغربية التي تتناسب مع الجلابية فالإكسسوارات تتوج الخنجر المنحني المسمى بـ" الجنبية " التي هي معمدة في غمدها بشكل غريب والتي تطوق الخصر فاليمن توجت منذ زمن طويل بإسم العربية السعيدة لأنها كانت مغطاة بالحقول الخصبة التي جعلت منها أغنى مكان في الأرض .
فأسواق المدن مثل صنعاء اشتهرت بتجارة البخور والبن والمواد الغذائية ، لكن في الوقت الحالي فالذهب الأسود والغاز الطبيعي الورقة الرابحة عندها تفوق تجارة اللبان والمر .
الغريب في ذلك كله أن أحد الشخصيات الذي استطاع نيل الثقة للحفاظ على أجواء اليمن القديمة هو المخرج والشاعر الإيطالي بيير باولو بازوليني الذي زار صنعاء عام 1970م ليصور مسلسل فيه.
بازوليني كان لديه قلق من أن تبقى صنعاء معزولة لمدة طويلة، لكنها انفتحت على العالم لقد تناول آلته التصويرية وجه بها نداء عاطفي إلى اليونسكو لدمج صنعاء القديمة في التراث العالمي .
فبعد (37) سنة من مشاهدة مقاطع صغيرة من فيلم بازوليني ( فان جدار صنعاء القديمة ) نجح في الأخير من دخول التراث العالمي .
أضفت المدينة على الحياة في تطلعاتها الوثائقية تميزاً فعليا فمن صنعاء القديمة إلى صنعاء اليوم . إلا أن جدران المدينة من الخارج في حالة خطر والعديد من المناطق فيه دمرت أو في حالة تحول.
التقيت في صنعاء ماركو ليفا يديوتي وكان بازوليني خليفته في الكفاح لحماية صنعاء من ويلات العالم الحديث لقد وصل ليفايديوني إلى اليمن وهو في الخامسة من عمره عندما أصبح والده الطبيب الشخصي لآخر ملوك اليمن الإمام أحمد بن يحيى.
كان أبرز شخصية أجنبية في المدينة في الوقت الذي كان الأجانب غير معروفين تقريباً عند سكانها.. لقد ذهب السيد ليفايديوتي لإيجاد شركة رائدة للسفر هي شركة تورنج العالمية وعاش أخيراً في مبنى قديم أعيد ترميمه في الحي العثماني القديمة في صنعاء .
لقد قادني إلى المشي في المدينة القديمة وبدأنا المشي في السايلة الطريق الحديثة التي قامت برصفها اليمن كمعونة مقدمة من الولايات المتحدة لتحمي المدينة القديمة من الفيضانات عندما تمطر ، ومن هذه الزاوية لم يكن هناك سوى المباني العالية والمآذن والمساجد الظاهرة ولم يكن هناك شيء سوى المدينة الجديدة بما فيها من الأهوال الملموسة والمباني الطويلة.
Bookmarks